الخميس 6 شباط (فبراير) 2014

جواسيس وعملاء

الخميس 6 شباط (فبراير) 2014 par جميل مطر

كان خبراً عادياً اعتقال جاسوس في الولايات المتحدة يعمل لحساب روسيا، واعتقال جاسوس في روسيا يعمل لحساب الولايات المتحدة، وجاسوس في مصر يعمل لحساب “إسرائيل” وجاسوس في إيران يعمل لحساب إنجلترا . نادراً ما نسمع الآن أو نقرأ عن اعتقال جاسوس هنا أو هناك، أو عن قضية جاسوسية كبرى معروضة على المحاكم، أو عن أزمة في العلاقات بين دولتين في أوروبا أو آسيا بسبب تورط مواطنين في عمليات تجسس لمصلحة جهة أجنبية .
أفكّر في أن يكون السبب في ندرة الأخبار عن الجاسوسية والجواسيس هو احتمال أن تكون مهنة الجاسوسية قد دخلت مرحلة انطفائها، إما لانتفاء الغرض منها بعد أن احتلت مكانها قوى واختراعات إلكترونية متنوعة، وإما لعزوف المغامرين عنها بعد أن بات الخطر في ممارستها لا يتجاوز الاعتقال لفترة، ثم التبادل مع زملاء في دولة العدو تورطوا في عملية تجسس . وإما لأن اكتشاف الإنترنت والتوسع في استخدامه جعلا من المعلومات ثروة عامة متاحة لمستخدمي الإنترنت . من ناحية أخرى رأينا كيف أن هجرة الأدمغة والهجرة العكسية سمحتا لمزدوجي الجنسية باحتلال مناصب عليا في أوطانهم الأصلية كما في أوطانهم الجديدة . رأينا نماذج عديدة من مهاجرين عائدين إلى منصب الرئاسة في دولة أو أكثر في أوروبا الشرقية بعد اندحار الشيوعية، وفي دولة أو أكثر في آسيا والمثال البارز هو أفغانستان . رأينا أيضاً وصول مهاجرين من أوروبا الغربية وأستراليا إلى أعلى المناصب في الولايات المتحدة . كل هؤلاء حازوا حق الاطلاع على أسرار الأمن العليا من دون أن يعني هذا الحق الشك في ولاءاتهم .
لا نسمع عن الجواسيس إلا نادراً، ولكن نسمع بوفرة عن العملاء . أعرف كثيرين في مصر وخارجها انشغلوا بالبحث عن السبب الذي دفع بحكومات وأجهزة إعلام عدة إلى استخدام صفة العميل الأجنبي عند تصديها لأشخاص محليين أو أجانب تشتبه في أنهم “يعملون” لمصلحة دولة أو جهة أجنبية . يلمحون وأحياناً يصرحون بأن “العمل” الذي يقوم به شخص معين يرقى (أو يتدنى) إلى مستوى العمل الذي كان يقدمه عادة شخص مهنته الجاسوسية . كان هذا الشخص تابعاً بصفة مباشرة لجهاز جاسوسية معروف، ومدرباً تدريباً عالياً على استخدام أجهزة اتصال وترميز الرسائل وفك رموزها، وربما مؤهلاً للقيام بمهام قتالية، أو على الأقل لتنفيذ عمليات اغتيال .
لاحظنا في السنوات الأخيرة أنه بين عديد المواطنين الروس والصينيين وبعض المواطنين الهنود والمصريين الذين وصفتهم أجهزة الأمن والإعلام في بلادهم بصفة العمالة، لم نجد كثيرين ممن يثبت عليهم الاتهام بأداء مهمة كلفته بها دولة أجنبية . أغلب هؤلاء الأفراد وجدوا أن تجربة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية معينة في دولة أجنبية تستحق إعجابهم فتحمسوا للدعوة لها في أوطانهم . ربما وجدوا تشجيعاً من هذه الدولة الأجنبية، وهذا دائماً حقها، بدليل أن الدول تقيم مراكز إعلامية وسياحية وثقافية تتبع سفاراتها، وفي صدارة المهام المكلفة بها التبشير علناً بإنجازات بلادها، من خلال عقد مؤتمرات ومعارض ودعوة مفكرين لزيارتها والتدريب على أحدث التقنيات المتعلقة بهذه الإنجازات . مصر مثلاً لم تتقاعس، إلا ربما في عهد الرئيس مبارك، عن إبراز الجوانب الحضارية في حياتها، فأرسلت المبعوثين وفتحت جامعاتها للطلاب الأجانب، ولا أظن أن أحداً في دولة عربية أو إفريقية أو آسيوية اتهم وزيراً تلقى تدريبه أو تعليمه في مصر، بالعمالة لها .
أن يقال إن كل من يروج لإنجازات دولة أجنبية على صعيد من الصعد عميل، فهذا تجاوز في أغلب أحواله متعمد . أعرف بالتأكيد أن بعض جهات السلطة أو جماعات الضغط تتمنى أحياناً أن تسوء العلاقات مع دولة أجنبية بعينها، أو تسعى إلى الوقيعة بين فئات الشعب، أو الإساءة والتشهير بأشخاص في الطبقة السياسية . أعترف أيضاً أن التوسع في استخدام صفة العمالة يمكن أن يودي بوحدة وطن، هذا بالضبط ما يجري في أوكرانيا في هذه الأيام التعيسة من حياة أوكرانيا . ففي روسيا اجتمعت أجهزة الدولة وأهم صحفها وقنواتها على هدف تصوير سكان غرب أوكرانيا الراغبين في نقل التجربة الأوروبية الغربية إعجاباً بها ورغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، على أنهم “عملاء للغرب” . يزعم حكام روسيا وأوكرانيا أنهم يعرفون مصلحة الشعب في غرب أوكرانيا أكثر من الشعب نفسه . وفي أسوأ الحالات ربما يكون هذا الشعب بمحض إرادته الكاملة والحرة أن يختار بين العمالة لروسيا والعمالة لأوروبا الغربية ووقع اختياره على الاتحاد الأوروبي رافضاً أن يكون عميلاً للكرملين .
ليس من حق أحد أن يقف ضد إرادة شعب أو اتهامه بالعمالة . من أنا حتى أقرر أن هذا الشخص أو ذاك عميل لمجرد أنه يعتقد أن مصر أو أوكرانيا أو جورجيا أو لاتفيا أو سوريا أو تونس تستحق أسلوب تنمية اقتصادية مختلفاً عن المطروح عليها، وتسبب في خرابها وفجر ثورتها . من منا له الحق في حرمان شعب من الإعجاب بتجارب الآخرين أو برغبته في العيش في مجتمع ملتزم بقيم ضد الفساد وتنمية أقل عسفاً بالفقراء ومتوسطي الحال، وبأسلوب حياة أقل قمعاً ومشاركة سياسية أرحب .
سئلت وسألت، لماذا يتعاطف أغلب الناس الذين أعرفهم مع كل من آسانج، الخبير الذي سرق أشرطة وتسجيلات لمراسلات أمريكية بالغة السرية، فيما عرف بعملية ويكيليكس، وسنودين، الخبير الآخر الذي كشف عن أكبر عملية تجسس في عهد سلم دولي، وهذه العملية تنفذها الولايات المتحدة، بالتعاون مع بريطانيا وأستراليا ونيوزيلاندا، فيما يعرف بمجموعة العيون الأربع، للتجسس على ممارسات واتصالات مئات الملايين من الناس في كافة أنحاء العالم، مع التركيز على كبار المسؤولين في معظم الدول، ومنها الدول الحليفة للولايات المتحدة؟
ثم لماذا يقرر نائبان في برلمان النرويج ترشيح سنودين لجائزة نوبل للسلام، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يحظى بموافقة أو ترحيب من جانب أغلب حكومات العالم، التي وإن كانت هي نفسها من ضحايا التجسس الإلكتروني، إلا أنها لا تريد أن ترى مواطنين عاديين يتمردون على سطوتها واحتكارها للسلطة وأساليب القمع والتحكم .
خطر ببال كثيرين أن ظاهرة تعاطف الناس مع سنودين وآسانج من ناحية والغضب العارم عليهما من ناحية الحكومات وأجهزة الأمن خصوصاً، قد تجد تفسيرها في حقيقة أن العالم يمر منذ سنوات بمرحلة شديدة الحساسية، وهي مرحلة غلبت عليها مظاهر صراع ناشب بين “الأخلاق” و“السياسة” وأقصد بالسياسة ممارسات الحكام . هي المرحلة التي نشبت فيها ثورات الربيع العربي، وشهدت إجراءات تصحيحية عدة في أمريكا الجنوبية، وتشهد حالياً تطورات، بعضها عنيف، في معظم أنحاء جنوب وجنوب شرقي آسيا .
وقع الصدام بين الأخلاق والسياسة خلال فترة هيمنت فيها القوى والأفكار النيوليبرالية على مجتمعات النخبة والحكم في دول عديدة، حدث في هذه الفترة أن توحشت بعض الممارسات الرأسمالية و“تغولت” أجهزة القمع، وبخاصة أجهزة التجسس والرقابة، التي انتهزت فرصة انشغال السلطة السياسية بأمور اقتصادية ومالية والانبهار بتضخم الثروات وتوسع التجارة العالمية . راحت الأجهزة الأمنية تجمع موارد مالية وتزيد أعداد عتادها وقواتها، وتكسب نفوذاً وقواعد في الدول على حساب الحقوق والحريات . وفي حالات كثيرة ومعروفة، وخصوصاً في أعقاب حادثتي التفجير في نيويورك في عام ،2001 نجحت في الانطلاق بكل طاقتها لتحتل مكاناً متميزاً في دورة القرار السياسي والتأثير في أمور داخلية ودولية كثيرة تحت حجة الحرب العالمية ضد الإرهاب .
خلال هذه الفترة، غابت القيادات السياسية المنتخبة والشرعية عن ساحة الإشراف والتدخل في العديد من شؤون إدارة المجتمع، وغابت أيضاً عن تحديد “الأهداف” التي تسعى إلى تحقيقها أو تخريبها أجهزة الاستخبارات والجاسوسية، فراحت هذه الأخيرة تحدد بنفسها أهداف عملها، الأمر الذي سمح لها، ليس فقط في الولايات المتحدة، بل وفي كل مكان آخر، بأن تقيم تحالفاتها الخاصة مع قوى اقتصادية ومالية عملاقة، ونخب مثقفة واسعة، وشبكات بيروقراطية وأكاديمية، وبفضل ما آل إليها من نفوذ وموارد مالية ضخمة، راحت تستعمل أحدث ما وصلت إليه تكنولوجيات التجسس لتسيطر بها وتنفذ وتتحكم .
لم يكن مفاجئاً أو غريباً والأمر على هذا النحو، أن تنشب معظم ثورات الآونة الأخيرة وانتفاضاتها في وقت عجزت فيه النخب السياسية عن رؤية مجتمعاتها على حقيقتها، بسبب هيمنة الأجهزة وحجبها المعلومات عن القيادة السياسية أو تصفيتها، ثم عندما صار الصدام حتمياً، تدخل الشارع بعد أن وجد نفسه فاقداً للثقة في القيادة السياسية، وغارقاً في أزمة اقتصادية عالمية مستحكمة، وبنصيب متدهور من الحقوق والحريات السياسية والشخصية، وسيطرة شبه كاملة من أجهزة وقوى غير مرئية لا تخضع لرقابة دستورية ولا تحفل بالقوانين .
انتقل الصراع إلى الشارع واستمر إلى يومنا هذا . شارع يتمنى أكثر من فيه أن يعيد للأخلاق والقيم دورها البناء والتصحيحي لأجهزة الحكم والإدارة، بينما تتمنى بعض أجهزة الحكم وأدواته القضاء مبكراً على “تيار الأخلاق”، باعتباره أخطر قوة تدمير للاستقرار الذي حققته قوى القمع في مرحلة انفرادها بالهيمنة وغياب السياسة .
يخطئ من يختصر تيار التغيير والإصلاح الصاعد والغاضب في معظم أنحاء العالم في كلمة “العملاء” . يخطئ أيضاً من يستهين بتيار التعاطف مع أشخاص مثل سنودين وآسانج، وغيرهما من أبطال عصر التجديد والتغيير .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2165288

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165288 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010