الأربعاء 5 شباط (فبراير) 2014

“ربيع” سنندم بعده على “سايكس بيكو”

الأربعاء 5 شباط (فبراير) 2014 par فيصل جلول

يشهد العالم العربي انهيارات بالجملة من دون أن تثير هلع عرب كثيرين، وبخاصة أولئك الذين يحتفظون بسلطات سياسية أو معنوية . ويزداد المشهد فظاعة، إذ نكتشف أن صانعي هذه الأحداث، سواء كانوا محليين أو أجانب قد نجحوا في تحييدها عن بعضها بعضاً، وتقديمها بوصفها قضايا خاصة في كل بلد على حدة، وهم أنفسهم كانوا قد نجحوا في تقديم تلك الأحداث بصيغة موحدة وتسمية موحدة، إذ وسموها ب“الربيع العربي” .
ليست الانهيارات العربية حالات خاصة منقطعة عن بعضها بعضاً، ولا تنتمي إلى عوالم متباعدة، بل هي مولود شرعي ل“الربيع العربي” أقله لجهة توقيت وظروف وتفاصيل وقوعها وتفاعلها مع بعضها، ولعل نظرة تفصيلية سريعة تفيد بتوكيد هذا الاستنتاج .
قبل “الربيع” المزعوم تلقى النظام العربي ضربة قاصمة مزدوجة مرت “مرور الكرام”، فقد انهار العراق جراء الاحتلال الأمريكي الذي تسبب بفتنة طائفية وإثنية فككت نسيجه الاجتماعي الموحد، وبدا أن الأكراد قد انفصلوا عملياً عن عرب هذا البلد، وأن عراقية القشرة التي يحتفظون بها ناجمة عن حاجتهم إلى الموارد العراقية لتمويل البنية التحتية لانفصالهم .
بيد أن الانفصال السافر وقع في جنوب السودان بمباركة من الحكومة المركزية الضعيفة، وبإشراف أمريكي مباشر، وذلك في خطوة يراد منها تفتيت هذا البلد “القارة” الموسوم في ذاكرتنا الجمعية بوصفه سلة غذاء فضائنا العربي . والمذهل أن التفتيت، سواء عبر انفصال الجنوب أو عبر حرب دارفور وغيرها، قد تم أيضاً برعاية دولة عربية هي نفسها كانت اللاعب الأبرز في “ربيع” السنوات القليلة الماضية .
مع فتنة العراق وانفصال جنوب السودان، بدا أن العرب ما عادوا يسيطرون على فضائهم، وأن النظام العربي الموروث من الحقبة الناصرية ما عاد قائماً، وبالتالي صار بوسع أطراف إقليمية ودولية أن تفعل في هذا العالم ما تشاء من دون أن تخشى شيئاً، بل هي تُشكر أحياناً كثيرة على أفعالها .
في هذا السياق وقع “الربيع العربي” الذي مهدت له فضائيات شهيرة بكلام حصري طوال أكثر من 10 سنوات، مفاده أن مشكلة العرب تقع في أشخاص الحكام، وليس في شروط الحكم، أي أن طرد الحاكم ينطوي على حل سحري لكل المآسي الاجتماعية والسياسية العربية، وانطوت هذه الاستراتيجية الدعاوية على فصل ذكي وفعّال بين القضايا العربية المركزية كقضية فلسطين أو السوق المشتركة أو الدفاع المشترك عن قضية الحكام، ومنحت قضية “حقوق الإنسان” الأولوية المطلقة على ما عداها، وصنفت المنظمات غير الحكومية في مرتبة مقدسة بعيدة عن المساءلة . ورفع معارضون إسلاميون وماركسيون وبعثيون وليبراليون إلى مصاف الضحايا النموذجيين الذين يجب أن يتولوا السلطة بدلاً من زعماء مشيطنين شاركوا بفعالية في مشروع خلعهم عبر ظهورهم المتكرر في مباريات سياسية فضائية خسروها وهم يبتسمون وسع أشداقهم . طبعاً لم يسأل أحد المعارضين عن مشروعهم للحكم أو عن شروطه .
هذه اللعبة المحكمة نقف اليوم على نتائجها الدرامية في بلدان “الربيع” المزعوم في ليبيا، حيث يعاني الناس أزمة وجود، ليس لغياب القذافي، وإنما لانهيار منظومة حكم ومجتمع تحت سلطة جماعة سيئة التدبير والوعي والتمثيل الاجتماعي والارتباطات الخارجية، وتتشكل على مرأى منهم معسكرات أصولية متشددة قد تحيل هذا البلد إلى أفغانستان عربية .
وفي اليمن تشرف الأمم المتحدة على الحوار الوطني، وأنتج حلاً إدارياً فيدرالياً لبلد تحتاج مشكلاته الملحة إلى مضاعفة الثروة واستثمار أفضل لموارده الاقتصادية والبشرية، وإلى عدالة اجتماعية، تصفي مآسي الماضي المتراكمة عبر العهود . ولأن الحل الإداري لا يحل شيئاً، فقد انفجر الوضع الأمني في كل المناطق تقريباً بالتزامن مع إعلان هذا الحل ليقول لمن يرغب إن أولويات اليمن ليست في التنظيم الإداري، وإنما في مصالحة وطنية تطوي الماضي على أسس عادلة، وتفتح صفحة للمستقبل يشترك فيها كل الناس ومن كل الاتجاهات .
وفي سوريا انتهى الربيع إلى حرب دموية وإلى تمركز عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب، وانعقاد رهانات دولية وإقليمية على حرب هي الأعنف في هذا “الربيع”، وبما أن لبنان يتأثر مباشرة بالتطورات السورية، فهو يعاني أزمة حكومية منذ عشرة أشهر يخشى أن تتحول إلى أزمة حكم وأن يصبح هذا البلد “فرق عملة” بما يفيد “إسرائيل” المتربصة على حدوده لثأر يمحو هزيمة العام 2006 .
وفي مصر الدولة العربية المركزية أدت إطاحة حكومة الإخوان المسلمين إلى خروجهم لممارسة عنف وإرهاب لم تشهد المدن المصرية لهما مثيلاً من قبل، وإلى توتر متزايد في العلاقات الأمريكية المصرية، وإلى سعي لإبعاد مصر عن موقعها المركزي في عالم عربي يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى قيادة جديرة بالقول لمن يرغب من الأجانب: شؤون العرب يحلها العرب .
وفي تونس وفرت حركة النهضة على نفسها وعلى البلد اصطداماً في الشارع عندما وافقت على دستور خصومها وأعطت أكثريتها البرلمانية الثقة لحكومتهم مكتفية فقط بوزارة الداخلية .
يرسم ما سبق لوحة سوداوية لخريطة سياسية عربية مهددة بالانهيارات المتزايدة، فالعالم العربي يعيش أزمة وجودية شبيهة بتلك التي كانت قائمة عشية اتفاقات سايكس بيكو في مطلع القرن الماضي . والمؤسف في هذه المقارنة بين الأمس واليوم أننا بعد قرن من الوجود السياسي العربي “المستقل”، وبعد غياب أربعة قرون في جبة السلطنة العثمانية، مازلنا بحاجة ماسة إلى مَن ينقذنا من انهيار سرنا إليه طائعين وبحماسة منقطعة النظير، بل سميناه ربيعاً . . تباً لهكذا “ربيع” .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2165388

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165388 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010