الجمعة 24 كانون الثاني (يناير) 2014

اليرموك: رواية فلسطينية لنكبة جديدة

الجمعة 24 كانون الثاني (يناير) 2014 par محمد قواص

تأزمت حالُ الفلسطينيين بقيادة ياسر عرفات مع القيادة السورية في عهد حافظ الأسد. كان أبو عمار متمسكٌ باستقلالية قراره عن “أشقائه” العرب، فيما أولئك ساعون لامتطاء الحصان الفلسطيني لمآرب ملتصقة بشروط الحكم بعيدة عن “القضية” ومثاليتها. اصطدمت العرفاتية مع النُظم العربية المختلفة، بالقول (مع عبد الناصر)، بالنار (مع الملك حسين)، وبالاثنين معاً (مع حافظ الأسد).
يتذكرُ الفلسطينيون أن حافظ الأسد عارضَ عزمَ صلاح جديد ونور الدين الأتاسي تدخل قواتٍ سورية إلى جانب الفلسطينيين في الأردن، لا بل منع سلاح الطيران من حماية تلك القوات ما سهّل على الطيران الأردني إجهاض تحركها. على أن محنة الفلسطينيين في الأردن بقيت نكبة فلسطينية أخرى دفعتهم أكثر فأكثر للاعتماد على أنفسهم في كل المراحل وفق صرخة عرفات (الدرويشية) الشهيرة “يا وحدنا يا وحدنا”.

فرض واقع الجغرافيا صداما كان لابد منه بين النظام السوري ومنظمة التحرير الفلسطينية. لعب الطرفان في وقت واحد، على ملعب واحد، داخل الأراضي اللبنانية. كان الأسد يروم تمدد نفوذ نظامه نحو لبنان، بما فيه الوجود الفلسطيني وقيادته السياسية. كان الغرب بقيادة الولايات المتحدة قد منح دمشق الضوء الأخضر (بموافقة إسرائيلية ضمنية) للدخول إلى لبنان والسيطرة على الحراك الصاعد للفلسطينيين وحلفائهم.

من جهته، أراد عرفات من لبنان موقعا حدودياً يطلُ على فلسطين التاريخية يؤمّن له منبراً عسكريا وسياسيا ودبلوماسياً يقارع من خلاله العالم. أتاح الانقسام السياسي اللبناني الداخلي لعرفات احتضاناً لم توفّره الحالة الأردنية. بيد أن ما أراده أبو عمار قاعدةً خلفية لحراكه، تحوّل إلى بركان ملتهب جعلته مقاتلا ضد خصومه اللبنانيين، ثم ضد نظام الأسد المتدخل في لبنان، ناهيك عن صراعه ضد إسرائيل المفترض أنها العدو الرئيسي “الوحيد”.

تدخلت دمشق بداية إلى جانب خصوم الفلسطينيين في لبنان. سقط مخيم تل الزعتر بإشراف ضباط سوريين. حدث الصدام العسكري بين نظام الأسد والفلسطينيين كنتيجة حتمية لتدخل القوات السورية الميداني في لبنان عام 1976. شهدت مدينة بحمدون أولى الصدامات، قبل أن تنتقل بعدها إلى مدينة صيدا حين تمكن الفلسطينيون وحلفاؤهم اللبنانيون من إيقاف الهجوم وتدمير آليات سورية. الأمر غيّر مُذاك طبيعة العلاقة الدائمة التوتر بين الأسد والفلسطينيين بقيادة عرفات.

تعايش الطرفان في لبنان بحذرٍ وتساكنٍ لدود. لم يبدّل انقلاب النظام السوري على اليمين المسيحي اللبناني (أو العكس)، وخوضه حربا ضد من هم من المفترض أنهم خصوم الفلسطينيين، من طبيعة العلاقة المتوترة مع الفلسطينيين. فيما ساهم انتعاش فصائل فلسطينية قريبة من دمشق في ازدياد التوتر وتفاقم حالة الريبة والحذر بين القيادة السورية في دمشق والقيادة الفلسطينية في الفاكهاني في بيروت.

على أن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، والذي تعرّض للوجودين العسكريين الفلسطيني والسوري، لم يشكّل عامل ألفة ومصالحة، بل على العكس من ذلك، أسس لعداوة كبرى بدت أشكالها أكثر وضوحا وحدة وأشد دموية.

وجد المنشقون عن حركة فتح ملاذا ودعما لدى نظام الأسد، فيما نظرت دمشق بعين حاقدة إلى ياسر عرفات الخارج من بيروت، والخارج آلياً من تحت سطوتها. وحين حاول عرفات العودة إلى المنطقة مجددا من بوابة دمشق جرى طرد الرجل بقرار رسمي رئاسي، كما جرى اغتيال القيادي الفتحاوي سعد صايل (أبو الوليد) القريب من عرفات في البقاع اللبناني (1982)، وجرت محاصرة عرفات وأنصاره في مدينة طرابلس شمال لبنان (1983). دُكّت المدينة بالقصف الصاروخي الهائل إلى أن تدخّلت قِطعٌ بحرية فرنسية أجلت أبو عمار عن المدينة تاركة مصيرها تقرره النيران السورية.

حاول عرفات العودة إلى دمشق مجددا بمناسبة جنازة رفيقه في النضال خليل الوزير (أبو جهاد) الذي اغتيل في تونس عام 1988. كان الفلسطينيون قد خرجوا من نكبتهم اللبنانية وأطلقوا انتفاضة سلمية في الداخل الفلسطيني أعادت طرح القضية من جديد على العالم أجمع. قتلت إسرائيل أبو جهاد التي كانت تعتبره قائد تلك الانتفاضة ومهندسها الحقيقي. نُقل جثمان الرجل ليدفن في سوريا. رفضت دمشق حضور عرفات مراسم التشييع. وحين وافقت على ذلك بعد ثلاثة أيام، خرج مخيم اليرموك الدمشقي بمظاهرة ضخمة حملت سيارة عرفات بما شكّل انتفاضة لفلسطينيي سوريا وتعبيرا عن ولاء يبتعد عن سيّد الحكم الدمشقي. ارتعبت دمشق من أمر ذلك وفاقم الحدث نِسَب الكره الذي يكنّه نظام الأسد الأب للفلسطينيين ومنظمتهم. في أجواء الخصومة السورية الفلسطينية كانت حركة أمل القريبة من دمشق تشن حربا دموية وحصاراً قاسياً ضد مخيمات الفلسطينيين.

بعد “أوسلو” وقبله تحوّل الفتحاويون في سوريا ولبنان إلى “زمرٍ عرفاتية” يجري اصطيادهم اغتيالا أو اعتقالا. أصبحت دمشق عاصمة داعمة لكل المعارضين للسلطة الفلسطينية من اليمين ومن اليسار مرورا بالإسلاميين.

استوطنت قيادات فصائل متعددة العاصمة السورية، فيما وجدت قيادات حماس والجهاد الإسلامي، المناوئتين للسلطة في رام الله، مظلة وفّرتها دمشق لمناكفة العرفاتية في الداخل والخارج. ظهرت عداوة دمشق لشخص أبو عمار في أوضح صورها حين منعت، من خلال حليفها الرئيس اللبناني إميل لحود، الرئيس الفلسطيني من إلقاء كلمته أمام قمة بيروت العربية (2002)، والتي كانت مقررة من مقره المحاصر في رام الله.

في تاريخ العلاقة بين النظام السوري والمركزية الفلسطينية جروح عتيقة ومشوار أسود. تسامحت دمشق مع كافة الفصائل التي انخرطت في اتفاقية أوسلو، لكنها لم تغفر لحركة فتح انفلاتها من السطوة السورية، فبقيت العلاقة متوترة باردة حتى بعد وفاة عرفات ومحاولة محمود عباس تطبيع العلاقات، ولو بشكل شكلي مع دمشق ما بعد حافظ الأسد.

تتصرف القيادة الفلسطينية بفقدان ذاكرة كامل تغفل ما أفرزته العلاقة السوداء مع النظام السوري من قيح على مدى العقود السابقة. وحين انفجر الوضع الداخلي في سوريا كان للقيادة في رام الله موقف ملتبس يعبّر عن ارتباك ما برح يتفاقم منذ الإرهاصات الأولى لما سمي بالربيع العربي. ظهر أن الانقسام الفلسطيني الداخلي بين فتح وحماس يشكّل بوصلة تقود توجهات رام الله إزاء النظام في سوريا. تبنت القيادة الفلسطينية موقفاً يناقض موقف حماس، بما يشي بنكاية صبيانية قصيرة النظر. ارتفعت حرارة الودّ بين القيادة الفلسطينية ودمشق، فيما كشفت تقارير عن تعاون حميم بين جهاز المخابرات الفلسطيني والأجهزة في دمشق. شكّل الأمر الواقع صدمة للفلسطينيين، لاسيما الفتحاويين، واعتبروه تنكراً لحراك السوريين الذين لطالما محضوا ثورتهم بالدعم، ودفعوا ثمن ذلك قمعا واضطهادا.

قيل إنها الواقعية الفلسطينية التي تروم حماية الوجود الفلسطيني في سوريا. كان أن قدّمت مأساة مخيم اليرموك صورة جديدة من صور الأداء الرسمي الركيك والمرتبك وحتى المتواطئ. وإذا ما ثبت أن براميل المتفجرات التي انهالت على المخيم لم تستثنه مما يصيب مدنا أخرى في سوريا، فإن “الواقعية” الفلسطينية وسقوطها، ليس فقط لم تنقذ فلسطينيي سوريا من نكبة أخرى، لكنها قد تكون ساهمت بها وبررت لها (في مداولات جامعة بيرزيت الأخيرة ما يعبّر عن ذلك). يكفي تأمل التصريحات الفلسطينية المعنية بشأن المخيم، ابتداء من تصريحات الرئيس عباس التخوينية، مرورا بتصريحات موفده أحمد مجدلاني التبريرية، انتهاء بتصريحات “ممانعي” فلسطين، من حيث اتهام المخيم بنكبته، وتحميل أهله مسؤولية إيواء من يقف ضد الحكم في دمشق. بئس رواية فلسطينية هذه المرة، تريد للفلسطينيين امتهان موقع الضحية الذي لا يتمرد على جلاد.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 26 / 2165355

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165355 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010