الجمعة 31 كانون الثاني (يناير) 2014

لبنان.. عن أداء تيار المستقبل

الجمعة 31 كانون الثاني (يناير) 2014 par محمد قواص

ينتمي تيارُ المستقبل في لبنان إلى ثقافة سياسية لا تلتقي مع تلك التي يدافعُ عنها حزب الله. يدافع التيّار عن منطق الدولة، ويدافع الحزب عن منطق المقاومة. والعدّة المستخدمة من الطرفين تعتمدُ على أرضية طائفية يفتخرُ بها الحزب، ويحاول التيار التنصل من تُهمتها. في تناطحِ المعسكرين أداء، وفي أداء سعد الحريري وحزبه ما يطرحُ أسئلة لدى بيئة التيار وقاعدته امتدادا إلى حلف 14 آذار برمته.
تساكنَ “المستقبل” بقيادة رفيق الحريري مع أمرِ حزب الله الواقع. حينها كان الحزبُ متفرغا للمقاومة، مستفيدا من الغطاء السياسي الذي وفّرته له الحريرية (لاسيما من خلال “اتفاق نيسان” الشهير 1996). بمقتل الرجل اندثرت شروطُ التساكن بين النقيضين. حسم الحزبُ بشكل سافر خياراته وأولوية ارتباطه بمحور طهران- دمشق. نفضَ التيار عن نفسِه مرونة رفيق الحريري وبراعته في التعاطي مع الأضداد، وحسمَ أمرَ عدائه لمحورٍ إقليمي وامتداداته اللبنانية، لصالح تحالفه مع محور إقليمي- دولي نقيض وامتداداته اللبنانية أيضا.

بات تيارُ المستقبل بعد اغتيال رفيق الحريري طرفا حادا يخوضُ الصدام مباشرة، بعد أن كان يمثّل وسطيّة تعايشيّة داخل النظام السياسي اللبناني وعقده. ربما لم يترك حدثُ الاغتيال خيارا آخر للمستقبليين، وهم يتأمّلون عدائية شركاء في البلد يتصرفون بما يشبه الشماتة منذ مظاهرة “الوفاء لسوريا” (8 آذار 2005).

قاد رفيق الحريري السُنّة نحو فكرة لبنان وأخرجهم من طموحاتهم العابرة للحدود. أتى الحريري في لحظة كان السُنّة فيها قد دفنوا الناصرية وودّعوا العرفاتية وكفروا بالعروبة القادمة من دمشق. وحين رحل الرجل عن هذه الدنيا كان السُنةّ رأس حربة، لم يعهدوها، للدفاع عن المحرّم السابق: “لبنان أولا”.

على أن الاغتيال (في 14 فبراير 2005)، وما تلاه من اغتيالات، حوّل الحريرية إلى ورشة عداء ضد دمشق وطهران وحزب الله، فيما عملَ خطابُ “المستقبل” على رفد جمهوره بخلفية تقطع الجسور وتنفي إمكانات الوصل مع بيئة سياسية تنهلُ وجودها من مزاجيْ دمشق وطهران.

تمكّن سعد الحريري، ولأول مرة في تاريخ السُنة في لبنان، من التربع على عرش زعامة الطائفة في كل البلد. قبل ذلك، انقسمت ولاءات الطائفة على مجموعة من الزعماء يتداولون رئاسة الوزراء ويتقاسمون المقاعد والحقائب. وفي احتكار تلك الزعامة، برع الحريري الابن في تسويق خياراته السياسية داخل الطائفة، بما في ذلك زيارته لدمشق ولقائه مع بشار الأسد، الذي كال له ولنظامه تُهمَ اغتيال والده.

لكن الرجل قاوم مطالب العسكرة التي تنامت حول التيار. يروي لي أحد المهمين في البقاع أنه في اجتماع له مع سعد الحريري، أسرَّ له بالحركة الميدانية لحزب الله في المنطقة والضغوط التي يتعرض لها أنصار المستقبل مقترحا الانتقال إلى التسليح. ويضيف المصدر أن الحريري انتفض رافضا الفكرة ولا حتى مجرد البحث في احتمالاتها. ولا شك أن موقف الرجل لم يكن يريح مزاج القاعدة، كما مزاج محدثي.

أُصيب تيار المستقبل بهزيمة مدويّة حين انقلب حزب الله على اتفاق الدوحة وعلى حكومة سعد الحريري، فأبعده عن الحكم وعن البلد. تواكبت تلك الهزيمة مع ارتباك في الأداء السياسي، انعطف على تراجع في موارد التيار المالية، انعكس شكوكا في ديمومة الغطاء الإقليمي (السعودي) والغربي الذي توفّر له منذ اغتيال الحريري الأب. سجّلت ظاهرة الشيخ أحمد الأسير والظواهر السلفية، وحتى الميدانية (في حالة طرابلس ومحاورها)، حالة تفلّت للطائفة من تحت المظلَة المستقبلية.

ارتجلَ تيار المستقبل يومياته في الصراع مع حزب الله وفي السعي إلى الاستمرار في الإمساك بالشارع. عبر مناصرة علنية للثورة السورية، وإدانة متصاعدة للنظام في دمشق، واستنكار لقتال حزب الله إلى جانب الأسد، ودفاع عن اللاجئين السوريين وتفرعاتهم العرسالية (مثلا)… الخ. مروحة كاملة ترسم للجمهور اتجاهاته. على أن الخطاب المستقبلي الصادر عن نخب التيار، تتم ترجمته بأشكال مختلفة كلما انتشر واندفع نزولا نحو القاعدة التحتية. تريد النخبُ، موقفا أخلاقيا ومبدئيا وسياسيا، لابد أن ارتداداته الميّدانية ستولّد ما هو أكثر من سياسي وإعلامي، نحو ما هو عملي ولما لا “جهادي”.

وسواء تعلَق الأمر بأهل المحاور في طرابلس، أو البيئة الأسيرية في صيدا، أو الحراك المناصر للثورة السورية في عرسال والبقاع الغربي، فإن الجميع ربيب الحريرية منذ قيادة رفيق الأب انتهاء بقيادة سعد الابن. لذا يبدو الارتباك جليا في كل مرة تتنصل الحريرية من حراك تلك الميادين التي حاكت قماشتها، باسم شعارات التمسك بالدولة وجيشها وأصولهما.

يراقبُ تيار المستقبل تململَ جمهوره. تتأففُ القاعدة من ابتعاد النخب وعجزها عن منح الشارع وحركته غطاء دائما (على منوال ما يفعله الحزب مع شارعه). تمتعضُ القاعدة من تقاعس القيادة عن حمايتها من تجاوزات تطالها من قبل الحزب وبعض أجهزة الدولة. ولا تفهم القاعدة المقاربة السلمية للتيار في مواجهة آلة قتل لا ترتدع منذ اغتيال الزعيم الوالد. ولا تهضم القاعدة انقلاب القيادة على احتقان ميداني (في طرابلس مثلا) هو في أحد أسبابه، وليد الخطاب المستقبلي ومواقفه. ولا يبتلعُ جمهور “المستقبل” انقلاب سعد الحريري على نفسه وتياره وحلفائه، في لحظة خارجة من كل سياق، تخصّه وحده، وقبوله مشاركة حزب الله في حكومة سياسية مشتركة.

لا يبدو أن تلك القاعدة كانت لتعترض على خيارات التيار وزعيمه. لكن تلك القاعدة تبلّغت، منذ شهور، خطابا تلو آخر يعلن رفض التيار مشاركة الحزب، الذي يقاتل في سوريا، حكومة لبنان. قيل لها إن التيار لن يمنح الحزب شرعية طالما أنه يشارك في قتل السوريين. تنامى لها أن الموقفَ جامع مع الحلفاء في “14 آذار”، ولابد أنه يحظى برعاية إقليمية ودولية. تفهّمت تلك القاعدة الدعوة إلى حكومة محايدة أو تكنوقراط لإدارة شؤون البلد في غياب التوافق السياسي. وفي صباح، أتتهم ريح تعاكس ريحَهم.

في الأجواء اللافتة المحيطة بمحكمة دولية تباشر أعمالها لمحاكمة أعضاء لحزب الله، وما يعنيه ذلك من اتهام للحزب بارتكاب الجريمة، يَصعقُ سعد الحريري الحلفاء قبل الخصوم بقبوله حكومة سياسية غير محايدة بمشاركة حزب الله (مقابل تراجع لافت للحزب، أيضا، ولهذا حديث آخر). بدا أن قيادات “المستقبل” لم تكن تعلم بالانقلاب، فعجّلت إلى ارتجال استدارة لابد أنها ركيكة عسيرة الهضم. بررَ الرجل بصعوبة موقفه: خلع مشاعره الشخصية لصالح مصلحة البلد. بدا الموقف فرديّا أوحى به قدرٌ، بغض النظر عن توجّهات تياره. أربك الأمر حلفاءه المسيحيين (لاسيما جعجع) الذين يعانون من رواج عونية تُحَمَّل الحريرية، في جانب ما، مسؤولية صعودها وازدهارها.

لكن هل يمتلك “المستقبل” خيارات أفضل؟ هل يمكن لتيار سياسي أن ينهج الخلاصات المُثلى في ظِلّ آلة قتل لا تتوقف (آخر ضحاياها محمد شطح أحد أقرب المقربين للحريري)؟ وهل ينعم التيار بسلطة عجائبية تتيح له تبرير الاعتدال في زمن التعصب والتطرف (لاحظ تصريحات الحريري الأخيرة في رده على بيان “النصرة” حول رفض جر السّنّة للحرب)؟ ثم أليس في السلموية المستقبلية “غاندية” لا تفي جرعاتها بشروط الصدام الراهن؟

مفاجأة سعد الحريري تمرين سياسي بامتياز. فالسياسة فن الممكن وحرفة المناورة وبراعة الخلاص من الجامد. ولا تستغربُ هذه السطور تبدّل المواقف بقدر استغرابها من ركاكة الأداء، بحيث تُرسل إشارات الالتفاف يمينا ليتمّ الانعطاف يسارا والتبشير بالوجهات الجديدة.

لاشك أن للرجل أسبابه التي لم يعلنها ومعطياته التي لا نعرفها وقراءاته التي لا ندركها. هكذا تماما اعتقدنا في 5 مايو 2008 حين اتخذت حكومة فؤاد السنيورة قرارات أدت إلى أحداث “7 مايو” الشهيرة. وهكذا تماما اعتقدنا حين توجّه الرجل إلى دمشق للقاء الأسد، وهكذا تماما اعتقدنا حين دخل إلى مكتب باراك أوباما رئيسا لحكومة لبنان ليخرج منه معزولا وبعد ذلك منفيا. فهل تغيّر شيء في شروط اللعبة وهوية اللاعبين؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 26 / 2165325

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165325 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010