السبت 25 كانون الثاني (يناير) 2014

اللاعبون الجدد في الشرق الأوسط

السبت 25 كانون الثاني (يناير) 2014 par الحسين الزاوي

في أجواء انعقاد مؤتمر “جنيف 2” الذي يبحث بصعوبة بالغة سبل إيجاد حل سياسي للأزمة السورية، بدأت تطفو على السطح تساؤلات كثيرة عن قدرة القوى الكبرى على بسط نفوذها وهيمنتها على الجغرافيا السياسية للعالم . إذ إنه ورغم نهاية مرحلة القطبية الواحدة نتيجة تراجع الدور الأمريكي، فإن القوى الكبرى الأخرى، وفي طليعتها روسيا والصين، لا يمكنها ممارسة نفوذها من دون الاعتماد على حلفاء إقليميين أظهروا خلال الفترة السابقة قدرة هائلة على التأثير في مجريات الأحداث . ويؤشر هذا الواقع الجديد إلى تدشين الشرق الأوسط لمرحلة جديدة من الصراع السياسي المعتمِدِ على لاعبين جدد يمتلكون هامشاً كبيراً من الاستقلالية عن دول المركز والقوى الكبرى الممثلة لجانب مهم من الإرادة الدولية؛ ويتجلى ذلك بوضوح من خلال التحركات التي تقوم بها قوى إقليمية من أجل فرض وقائع جديدة على الأرض، وصولاً إلى تحقيق مكاسب سياسية لا تحظى بالضرورة بموافقة القوى التقليدية الكبرى .
لقد بتنا نعيش أزمنة جديدة، حيث صار لكل قوة إقليمية زمنها الخاص، وتحوّل الشرق الأوسط إلى ساحة للهجوم والهجوم المضاد، ولم يعد أمام القوى العظمى سوى دعوة حلفائها من أجل التوصل إلى حلول سياسية توافقية لأزمات المنطقة المستعصية . هذا السيناريو السياسي كان مستبعداً، إلى أبعد الحدود، قبل عشر سنوات خلت، حينما كان يقتضي زمن الأحادية القطبية أن تأمر أمريكا فلا تجد أمامها سوى القبول والإذعان . صحيح أن “إسرائيل” كانت تتمتع دائماً بنوع من القدرة على التأثير في السياسية الأمريكية بفضل اللوبي اليهودي، لكنها لم تكن لتجرؤ على أن تسفه وتسخر من الجهود الدبلوماسية لواشنطن كما فعل مؤخراً وزير الدفاع الصهيوني موشي يعلون؛ ف“إسرائيل” مقتنعة الآن أكثر من أي وقت مضى، بأن أمنها يجب أن يكون مسألة سيادية، وأنها غير مجبرة على الرضوخ لمطالب الإدارة الأمريكية في ما يتعلق بالملفين الفلسطيني والنووي الإيراني .
وفي السياق نفسه، عبّرت المملكة العربية السعودية عن رغبتها الواضحة في الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة بعيداً عن الوصاية الأمريكية، وأكدت لحلفائها التقليديين في واشنطن بوضوح لا لبس فيه، أنها لم تعد تتفق مع المقاربة الأمريكية بشأن الملفات الإقليمية الكبرى، وفي مقدمها الملف النووي الإيراني، وأنها ستحتفظ بحقها في التحرك بكل حرية واستقلالية في ما يتعلق بالأزمة السورية وفق الأسلوب الذي يتلاءم مع مصالحها الحيوية في الخليج ومنطقة الشرق الأوسط .
أما إيران التي قدمت بعض التنازلات التكتيكية في ما يعلق بملفها النووي، فقد حاولت أن تُرسل رسائل مشفرة لخصومها التقليديين في المنطقة، تؤكد من خلالها أن لها تطلعات ومطالب “مشروعة” تتعلق بمصالحها الاستراتيجية وأمنها القومي، لا يمكنها أن تتخلى عنها مهما كلفها ذلك من ثمن . بل إن حلفاءها في لبنان، وفي مقدمهم حزب الله، يذهبون إلى أن مستقبل الصراع في سوريا يتجاوز سقف الحسابات السياسية الظرفية بين الأطراف المختلفة، لأنه يتعلق بمسألة وجود وديمومة المقاومة، ومن ثمة فإن حسم الصراع في سوريا على حسابها سيمثل ضربة قاسمة للتوازن الهش في المنطقة وللصراع مع “إسرائيل” .
إن عودة النغمة الدبلوماسية السلمية والهادئة للتحركات الغربية والأمريكية في الشرق الأوسط، يؤشّر لنهاية غوغائية دبلوماسية الحرب التي اختارتها واشنطن في عهد جورج بوش الابن . كما تفصح وتؤكد في اللحظة نفسها، أن القوى الكبرى لم تعد تملك القدرة على التحرك بشكل منفرد من دون التنسيق مع القوى الإقليمية التي تمتلك القسم الأكبر من مفاتيح حل الصراع في المنطقة، وهو الأمر الذي فهمته الإدارة الأمريكية بشكل متأخر بعد إخفاقها المدوي في العراق وأفغانستان . ويشدد على أهمية هذا الواقع الجديد بكل رهاناته الكبرى والمصيرية، الكثير من المراقبين والمحللين؛ حيث يرى المفكر الفرنسي “برتراند بادي” أن طبيعة الصراعات الدولية الجديدة تحمل سمات غير مسبوقة، فقد باتت تتسم بطابع غير مركزي أكثر من أي وقت مضى وأضحت تستعصي على سيطرة القوى التقليدية الكبرى . إذ إن مجمل هذه الصراعات يتم تنشيطها من قبل فاعلين محليين، وبالتالي فإن عدم الوعي بالطابع المعقد والمركب لهذه التطورات يؤدي حتماً إلى توسيع رقعة الصراعات الحالية، ولا مندوحة في كل الأحوال من العودة إلى هذه القوى المحلية والإقليمية من أجل التوصل إلى حلول سلمية قابلة للتطبيق على أرض الواقع . وبالنسبة إلى قدرة المجموعة الدولية على حل هذه الأزمات يؤكد “بادي” أنه من دون البرازيل والهند ودول أخرى مؤثرة، فإن المجتمع الدولي الحالي ناقص بل ومبتور، لأن إبعاد هذه القوى الصاعدة عن مجلس الأمن يُضعف من قدرة هذا الأخير على التعبير بشكل كامل عن إرادة المجتمع الدولي برمته، خاصة أن الصراعات الحالية تتميز عن الصراعات السابقة بمفارقة شديدة الصعوبة: فهي من جهة تنغمس في طابعها المحلي وتزداد استقلالاً عن القوى الكبرى، ولكنها من جهة أخرى أكثر “عولمة” من حيث تأثيراتها السلبية في السلم العالمي، الأمر الذي يتطلب تدعيم المجتمع الدولي المؤسسي بفاعلين مؤثرين جدد .
ويمكن الاستنتاج عطفاً على ما سبق، أن مستقبل الشرق الأوسط واستقراره يمرّ في المرحلة المقبلة، حتماً، عبر بوابة التوافق ما بين القوى المحلية والإقليمية الفاعلة في المنطقة، ذلك أن التعنت لن يفيد أي طرف لأنه سيؤدي إلى مزيد من الانقسام بين شعوب المنطقة على اختلاف انتماءاتها الدينية والطائفية . أما الصراع العربي “الإسرائيلي” فسيحتفظ بصبغته الوجودية ولن يؤثر في التوازنات الإقليمية إلا بالقدر الذي تتدخل فيه القوى الغربية من أجل دعم “إسرائيل”، لأن التفوق “الإسرائيلي” الحالي على المستويين التكنولوجي والعسكري، يمثل في مجمله محصّلة تعاون وثيق بين هذه الدولة المارقة والقوى الغربية الكبرى، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 40 / 2165814

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2165814 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010