الجمعة 10 كانون الثاني (يناير) 2014

إدمان التدخلات العسكرية

الجمعة 10 كانون الثاني (يناير) 2014 par محمد الصياد

ماذا دهى فرنسا وطبقتها السياسية المتعاقبة على حكم البلاد؟ لم تعد تتحمل تقلبات الأحوال في بلدان القارة الإفريقية، فها هي، بدورها، تتقلب من تدخل عسكري إلى آخر . تارة في ساحل العاج وتارة ثانية في مالي وتارة ثالثة في جمهورية إفريقيا الوسطى، تحت تأثير حساسية مفرطة تجاه احتمالات المس بمصالحها في القارة لدى أي “تطور غير صديق” . علماً بأن تدخلها الحالي في جمهورية إفريقيا الوسطى هو التدخل رقم 14 منذ استقلالها في عام 1960 .
ولا نعلم إن كانت فرنسا وطبقتها السياسية الحاكمة تدرك أن هذه السياسة التدخلية في بلدان القارة السمراء، إنما تؤشر إلى استمرار عملهما (فرنسا بأجهزتها الدولاتية التسييرية وطبقتها السياسية الحاكمة)، بالعقلية الاستعمارية التوسعية، بحسب التوزيع الغربي لمناطق النفوذ في العالم، ومنها المستعمرات الفرنسية السابقة في القارة السمراء التي “أعطيت” لفرنسا “بعقود غيرمحددة المدة”! فلا ديمقراطيتها الليبرالية ولا الانتهاء الرسمي لعصر الاستعمار ولا التحولات الكبرى التي توالت تباعاً على الكرة الأرضية ومجتمعاتها قاطبة، حالت دون انبعاث وتجدد روح الاستعمار للسيطرة على الموارد واستغلالها جشَعاً .
ومن الواضح ان الغرب بكليته لايزال يعامل مستعمراته السابقة أو مناطق نفوذه المُستولى عليها، كما لو كانت تابعياته بغض النظر عن وضعها القانوني والسيادي المستجد . فالولايات المتحدة هي الأخرى هددت علناً بالتدخل في دولة جنوب السودان التي أنشأتها عنوةً بعد سلخ جنوب السودان عن شماله قبل سنتين خوفاً من زوال “الحالة الصديقة” ل“إسرائيل” والمصالح الغربية التي أنشأتها في الخاصرة العربية الإفريقية، إثر انشقاق الفريق الحاكم في الدولة الجديدة وتوجهه إلى الحرب الأهلية . كما رمى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بكل ثقلهما خلف الاحتجاجات التي نظمتها المعارضة الأوكرانية الموالية للغرب ضد الحكومة ورئيس البلاد فيكتور يانوكوفيتش، فأرسل المحافظون الجدد كبيرهم جون ماكين لتحريض المتظاهرين على الاستمرار في احتجاجاتهم من أجل إسقاط الحكومة المنتخبة شعبياً، لأنها فقط متوافقة مع موسكو . كما دخلت مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية كاثرين آشتون على الخط ذاته من أجل دفع أوكرانيا لتوقيع اتفاق شراكة غير متوازن مع الاتحاد الأوروبي . في الوقت ذاته الذي دافعت فيه الميديا الغربية بشراسة عن شرعية رئيسة وزراء تايلاند نيغلاك شيناوترا شقيقة رئيس وزراء تايلند السابق والمقيم في المنفى هرباً من تهم الفساد الموجهة اليه في بلاده، معتبرةً أن الاحتجاجات ضدها غير مشروعة ومعاكسة لنتائج صناديق الاقتراع التي أوصلتها إلى السلطة! ولسوف يلاحظ المتابع هنا التفاهم الضمني الواضح بين هذه القوى الاستعمارية القديمة على استمرار صيغة تقسيم مناطق النفوذ بينها، كل منها يتدخل في إطار دائرة نفوذه بمعاضدة القوى الأخرى الحليفة!
الصين أيضاً لديها مصالح ربما فاقت في وقتنا الراهن مصالح فرنسا في القارة السمراء . لكنها - وبحسب بعض النخب الإفريقية المُستَطلَعة آراؤها بشأن تنامي الوجود الصيني في القارة - لا تنزع للتدخل في الشأن المحلي لبلدان القارة . ربما لأن نزعة الهيمنة والتوسع الإمبريالية الصينية لم تتبلور بما يكفي ولم يحن أوان التعبير عنها بعد!
وكما في حالة ساحل العاج ومالي، فقد سوغت فرنسا تدخلها العسكري في إفريقيا الوسطى بدواعي وضع حد لأعمال العنف والتدمير التي تنفذها قوات “السيليكا” المتمردة - وهم من المسلمين المتشددين - ضد أغلبية سكان البلاد من المسيحيين . وهي حصلت بموجب هذا المُسَوِّغ على تفويض مجلس الأمن الدولي بالتدخل في هذا البلد، بما أضفى شرعية دولية على الأعمال التي ستقوم بها قواتها، في اطار الصفقات السياسية التبادلية التي يعقدها “الكبار” وراء الكواليس قبل وضعها في صورة قرار أممي متوافَق عليه .
والحال ان فرنسا لا تعوزها الحجة للتدخل في إفريقيا الوسطى وقد جاءت بها الأنباء المتواترة من هناك ومفادها، كما فصَّلتها “هيومن رايتس ووتش” في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قيام الجنرال عبدالله حمات القائد العسكري لقطاع كبير في إقليم أومبيلا - مبوكو ومقاتلي سيليكا من المتمردين الإسلاميين الذين أطاحو في انقلاب عسكري نظام حكم الرئيس فرانسوا بوزيزي في 24 مارس/آذار من العام الماضي، بارتكاب انتهاكات جسيمة في بلدة كامب بانغوي، وأن هذه القوات عمدت على مدار الشهور من مارس/آذار حتى يونيو/حزيران ،2013 إلى قتل المدنيين ومنهم نساء وأطفال ومسنون، ودمرت أكثر من الف منزل في العاصمة بانغوي والأقاليم الأخرى .
وكما أدى التدخل العسكري الفرنسي في ساحل العاج ومالي إلى استعادة النظام والاستقرار (النسبي) في هذين البلدين، فهو من المرجح أن يؤدي إلى النتيجة ذاتها في إفريقيا الوسطى . هذا مما لا شك فيه . إنما هذا التدخل لم يحدث بدوافع محض إنسانية أو أخلاقية كما يروج لذلك الإعلام الفرنسي التابع، وإنما لدوافع محض اقتصادية - ثرواتية تتصل أساساً بالماس والعاج والثروة الحرجية (قطع أحشاب الغابات) والثروات الهيدروكربونية غير المستغَلة بعد .
ولعل ما تقدم، كعيِّنة “طازجة”، يدلل على أن العالم، حتى بعد تجاوزه عشريته الأولى من ألفيته الثالثة، لا يزال محكوماً من الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة بالعقلية ذاتها التي قيضت لها أسباب قوتها في القرون الأربعة الأخيرة من الألفية الثانية، تأمين مواقع امتيازية لها داخل النظام الدولي لتقسيم العمل، إنتاجاً وأسواقاً ومواقع جيوسياسية راسخة، ثابتة ومتنقلة، وأدوات إدارية عالمية كلية . أي أن العالم بأسره لا يزال يُدار من قبل القوى العظمى التي ائتلفت إبان الحرب العالمية الثانية لإلحاق الهزيمة بالنازية والفاشية قبل أن تنشىء تالياً النظام العالمي “الجديد” وحاضنته الكبرى منظمة الأمم المتحدة - يُدار بعقلية الغنائم .
ولا يبدو أن هنالك في الأفق ما يُنبئ بقرب تراجع هذه النزعة التكالبية التي تجمع، بتطاولاتها المتجاسرة، بين ال“نيوكولينياليزم” الاقتصادي وعسكرة التدخلات في الشؤون الداخلية لمناطق النفوذ المقسمة دائرياً . خصوصاً في ضوء الإحاطة الدقيقة بعجز الديناميات الاقتصادية الداخلية لتلك الإمبراطوريات عن توليد المزايا التنافسية النسبية نفسها التي لطالما تمتعت بها طوال مراحل نمو وازدهار الرأسمالية في القرنين التاسع عشر والعشرين .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2178897

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

30 من الزوار الآن

2178897 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 26


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40