الجمعة 3 كانون الثاني (يناير) 2014

الاعتدال من دون التسوية تطرف

الجمعة 3 كانون الثاني (يناير) 2014 par الفضل شلق

يزعم جميع اللبنانيين أنهم غير طائفيين، وأنهم ليسوا متعصبين لأبناء طائفتهم، وأن التعصب سمة الغير من الطوائف. يزعم جميع اللبنانيين أيضاً أنهم معتدلون وأن التطرف سمة الآخرين. طغى الحديث عن الاعتدال على الطائفية، إذ من غير الأدب، ومما ينافي الأتيكيت الطائفي أن تتهم غيرك بالطائفية؛ وهذا تقليد قديم. لكن الاتهام بالتطرف والخروج على الاعتدال سهل. فريق يصف الآخرين بأنهم بيئة للتكفيريين، وفريق يتهم نفسه بالاعتدال. وحقيقة الأمر أن التشنج بلغ عند الفريقين حده الأقصى. أحدهما يقدس الزعيم الديني ـ السياسي، وفريق آخر يهين الزعيم الديني الذي فشل في السياسة. هو الكلام ذاته عن الطائفية مع تجدد التعبيرات عنها. يظن اللبنانيون أنهم هم الأذكياء، لكن ليس في الأمر براءة.
الطائفية إسقاط الذات على الآخر. تطهير الذات من الآثام ووصف الآخر بها. تسمح لنا الطائفية بالتشنج والتطرف في حين نتهم الآخرين. تتيح لنا الطائفية أيضاً أن نصف أنفسنا بالاعتدال ونمنع ذلك عن الطرف الآخر؛ هذا في وقت نحن الأحوج إلى تلافي الفراغ الدستوري بتشكيل المؤسسات الخاوية وتشغيل المؤسسات المعطلة. فريق ادعى لنفسه «ثورة الأرز»، وفريق أحرز المقاومة؛ كل منهما يحاول الوصول إلى قمة أعلى أخلاقياً؛ يحاول الفوز في المجال الأخلاقي، بينما المطلوب إنجاز سياسي هو انتظام أمر الدولة. وهذا يتطلب التسوية قبل الاعتدال. عندما يدعي فريق لنفسه تميزاً أخلاقياً لا يبقى هناك مجال للتسوية.
لا يتشكّل فريق سياسي إلا إذا ادعى أنه على حق في مواقفه، أو في برنامجه، إذا كان هناك برنامج (والأمر مشكوك فيه). ولا يستطيع فريق سياسي أن يمارس السياسة من دون التنازل عن بعض الحق، وذلك بالعودة إلى القول العظيم للإمام الشافعي «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الخصم خطأ يحتمل الصواب». التسوية مرهونة بالبحث داخل الذات، وبالشك بالذات، وبالتساؤل عن مخارج لبلد يكون قريباً من حافة الانهيار. المطلوب رجال سياسة يشككون بأنفسهم وبطوائفهم قبل التشكيك بالغير. المطلوب رجال سياسة يفتشون عن تسويات ولا يكتفون بإعلان مواقف. إعلان المواقف من دون الاستعداد للتسويات، هو بحد ذاته إعلان حرب. إعلان المبادئ من دون الاستعداد للتخلي عن بعضها، أو عن أجزاء منها، هو إعلان حرب. والحرب الأهلية الباردة هي حرب أهلية. والحرب الأهلية الساخنة تبدأ بالكلام، تبدأ بالمواقف. التسويات هي ما ينّجي البلد لا المواقف حتى التي يصفها أصحابها بالاعتدال. لا اعتدال في موقف إلا إذا كان هناك استعداد للتنازل عنه. ليست الشجاعة في اتخاذ موقف، وما يصاحبه من عرير خطابي، بل هي في القدرة على التنازل وما يصاحبه من هدوء وشعور بالإنجاز. لا نستطيع أن ننجز عن طريق المواقف بل عن طريق التسويات. في كل مجالات العلم والمعرفة، النظرية والعملية، تسويات. الكارثة هي عندما نصير قاصرين عن صنع التسويات.
السياسة هي وصل ما انقطع، أو يكاد ينقطع. هي إنتاج وحدة وطنية على حساب الاستقامة الأخلاقية. ومن قال إننا نستطيع أن نصل إلى الصواب، حتى في العلوم النظرية والعملية، من دون الانطلاق من الخطأ. نقوم بالتسوية الآن، ونرتكب أخطاء، كي ننجز ونصير قادرين على تجنب الأخطاء في المراحل المقبلة. تراكم التسويات يتيح تراكماً من نوع آخر، يتيح تلافي الأخطاء السابقة ومراكمة الأعمال الصائبة. ألم يرتكب الزعماء التاريخيون لكل الشعوب أخطاء، كانوا يعرفون أنها كذلك، وهم في طريقهم إلى الصواب؟ ألا يدفعنا ذلك إلى الاستنتاج بأنه ليس لدينا قادة تاريخيون؛ ليس لدينا قادة حقيقيون بأي مقياس من المقاييس؟
نحن مختلفون، ونحن على اختلاف. كلاهما أمر طبيعي. لأننا كذلك، علينا أن نقرر العيش سوية. وهذا أمر ضروري. ليست الطبيعة حكم الضرورة. وليست الطبيعة هي ما يفرض سلوكنا. بل هي السياسة ما يقودنا إلى اختيار عناصر من الطبيعة تجعلنا قادرين على العيش سوية. بذلك نعيد إنتاج طبيعتنا. ننتج طبيعة لنا تتيح العيش سوية أو تسمح به. بذلك ننتج ائتلافاً من الاختلاف، توحداً من الانقسام؛ وطناً من الأشلاء. الطوائف أشلاء. الوطن يمنحها الحياة. وهذه الحياة غير ممكنة إلا إذا كان عيشنا سوية، إلا إذا كنا سوية وأسوياء. ليس الاختلاف هو المشكلة، بل هو العجز عن التسوية في سبيل العيش سوية. عجزنا عن التسوية ينتج عجزاً عن القرار، وعجزاً عن إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية؛ وربما يقود إلى انهيارات تفوق سابقاتها في كارثيتها.
طرفان معتدلان يختلفان. الاعتدال موقف. التسوية عملية سياسية. لا يلتقي الطرفان بإصرار كل منهما على موقف الاعتدال. يلتقيان بأن يتخلى كل منهما عن الموقف والاعتدال. يلتقيان بأن يتخلى كل منهما عن الحق والصواب وإخضاع كل منهما لمقتضيات أعلى: المشترك أولوية تعلو على الحق والصواب.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 51 / 2165282

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165282 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010