الاثنين 30 كانون الأول (ديسمبر) 2013

الإنتلجنسيا العربية (نضال في ناطحات السحاب)

الاثنين 30 كانون الأول (ديسمبر) 2013 par محمد بن سعيد الفطيسي

يبدو أن الطريق ما زال طويلا وشاقا جدا قبل أن يتمكن حملة الأقلام العربية من تحديد هويتهم الثقافية، ومرجعيتهم الفكرية من وراء هذا الكم الهائل من الكتابات الخرساء الصامتة، فلا أتصور أن فكرا سائدا يساير التيار يستطيع أن يقيم حوارا مسموعا، تختزل فيه هموم الشارع الإسلامي والعربي أو حتى تلك التي تدور في إطار وطني، وأن يحقق المراد من وراء وجوده الثقافي والأدبي في أي أمة، وهو خدمتها، ورفع شأنها الحضاري، والدفاع عن المظلومين والمضطهدين من أبنائها، ففكر من ذلك النوع الصامت المجامل أو المنافق لا يمكن أن يصل مداه إلى مساحة أبعد من قدم صاحبه.
ولو رجعنا إلى التاريخ لوجدنا دلائل كثيرة على أن الأمم والشعوب التي يصمت مثقفوها طويلا ليتكلم ساستها كثيرا تترهل سريعا لتتلاشى مع الوقت، بينما تعكس ثورة الأقلام هوية الأمة، ومدى وعي أبنائها وقدرتهم على الاستمرار والبقاء، فقدرة مثقفيها على تحقيق ذلك الحوار المسموع والمتوازن مع السياسة، هو وحده الكفيل بخلق تلك المعادلة التاريخية والحضارية المفقودة بين الثورة الثقافية والنضال السياسي الإنساني.
فلماذا عجز المثقفون العرب بعد كل هذه السنين الطويلة من الكتابات التي امتلأت بها المكتبات العربية، من تحقيق تلك المعادلة الأممية بين الثورة الثقافية والنضال السياسي؟ بينما نجح المثقفون في الدول الغربية من تحقيق تلك المعادلة الفكرية التي لا تنفصل فيها هندسة المعاني الثقافية عن المعادلات السياسية؟ ولماذا لم يتمكن المثقف العربي بالرغم من وصول صوته إلى مسافات بعيدة من تهيئة البيئة الفكرية المناسبة للحوار السياسي مع السلطة والحكومة؟ بينما استطاع المثقف الغربي تخطي تلك العقبة ليكون هو نفسه جزءا رئيسيا لذلك الحراك السياسي الوطني، وملهما لتلك الثورات الفكرية والسياسية التاريخية التي غيرت مسيرة الأمم والشعوب الأوروبية على سبيل المثال لا الحصر؟
والحقيقة أن هناك العديد من الإشكاليات والعقبات التي يمكن أن نطلق عليها بالبيئة المعطلة لخلق جيل من المثقفين العرب، تتوفر لديهم القدرات الثقافية والسياسية الوطنية والقومية، والتي وجدنا ـ من وجهة نظرنا ـ أنها من أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع التاريخي والتدهور الحضاري والانحطاط الثقافي والفكري لدور المثقف العربي في صناعة النضال السياسي اليومي، وهي:
1 ـ فقدان الدفء الوطني: ونحن حين نتحدث عن الدفء الوطني فإننا نقصد به ذلك الإحساس الذي يجب أن يناله الأديب والمثقف والفنان في وطنه، أي الشعور بالحب والتقدير والاحترام والثناء وحتى التميز الذي يدفع الفكر إلى الأمام، ويحرض النفوس على البذل والعطاء والاجتهاد، لا الإحساس بالتهميش واللا مبالاة، أو كما يقال“لا كرامة لنبي في وطنه” كما هو حاصل اليوم في الكثير من البلدان العربية ـ وللأسف الشديد ـ فلا تقدير ولا رعاية للبعض من الأقلام الشريفة المخلصة إلا بعد موتها، في حين لا يجد الآخرون أي تكريم لا في حياتهم ولا بعد مماتهم، في وقت نجد فيه الكثير من أقلام السلطة والحكومة وتجار الكلمة الماجنة والصحافة الصفراء والأقلام الارتزاقية والمتاجرين بشرف الكلمة يرفلون في النعيم.
2 ـ فقدان الفعل الثقافي: حيث لم يتحول بعد القول الثقافي لدى المثقف العربي إلى فعل ثقافي ونضال يومي ملموس ومحسوس، ولم يتجاوز المثقف العربي بعد بأفكاره وكلماته الأوراق ليصل إلى هموم الشارع وقضاياه، فثقافة الثرثرة العاطلة ما زالت مسيطرة وسائدة في زمن المهرجين والمتسلقين والمتفيهقين من أصحاب الأقلام، فللأسف الشديد لقد (ثرثرنا أكثر مما كتبنا، وكتبنا أكثر مما فعلنا)، ولذلك لم ولن نستطيع أن نخطو بعيدا بهذه الأقدام المترهلة، حتى ونحن نسير تحت الظلال الوارفة، خائفين من حرارة الشمس الحارقة، ننظر إلى الشارع من ناطحات السحاب والأدوار العلوية.
إذا فالمطلوب من المثقف العربي اليوم لكي ينجح في تخطي هذه العقبة، هو النزول إلى الشارع المهمل والدخول إلى بيوت الطين وسعف النخيل، المطلوب منه الاهتمام بقضايا الضعفاء والبؤساء والفقراء والمظلومين، حينها فقط سيستطيع أن يجعل لكلمته فعلا مؤثرا، وسيشعر ولو بشيء من معاناة المجتمع الذي ما زال ينتظر منه تحويل كلماته إلى فعل تتحقق من خلاله الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة الاجتماعية.
وباختصار، لا بد أن يتحول الجمهور الثقافي العربي كله إلى نماذج من النضال العربي الفلسطيني، وإلى نماذج من الثورة الفلسطينية الأدبية، فالنموذج الثقافي الفلسطيني هو نموذج نضالي رائع، يستحق الاحترام والتقدير والإجلال لأنه استطاع أن يعطي الشعر والرواية والقصة والمقال وهجا لم يكن ليكسبه لولا حضور الثورة في أعماقه، واستطاع أن يحول تلك الكتابات إلى حجر وبندقية ـ أي ـ إلى فعل ثقافي يستحق الاقتداء به.
نعم، نحن لا نستطيع أن ندعي أن إسرائيل قد أصبحت اليوم ابعد عن ذي قبل، ولا نستطيع أن ندعي أن أطنان تلك القصائد والدواوين والكتابات النضالية الرائعة قد حررت بيت المقدس وأحرقت المستعمر في فلسطين والعراق، أو في غيرها من البلدان العربية المستعمرة سياسيا وثقافيا، ولكننا نستطيع أن نؤكد على أن تحرير الشعوب ونيلها لحريتها من خلال أطنان تلك الأوراق سيتحقق لا محالة والتاريخ يؤكد ذلك، ولكن بشرط أن تتحول تلك الأطنان من الكتابات إلى ثورة وجحيم، يصطلي بنارها الظلم والبغي وأعوان الطغيان، ونقول ـ بأنه وكما وهبت الثورة الإبداع الحقيقي للثقافة في فلسطين على سبيل المثال، فلا بد أن تهب الثقافة العربية النضال الحقيقي في كل أرجاء عالمنا العربي.
3 ـ سلبية النظرة الفكرية: فغالبا ما تدور أغلب تلك الأقلام في دائرة النظرة الضيقة والأبواب المغلقة والمواضيع التي ترتكز على الأفكار والقضايا الاجتماعية والاقتصادية “المحبطة” كالسرقة والفساد والغش واليأس والقنوط وجلد الذات وهكذا، ونحن هنا لا نطالب بإهمال هذا الجانب المهم للغاية، ولكن من المهم كذلك هو التفكير بطريقة ايجابية في زمن اللون الأسود، ويل“كله يا بلاش” وذلك بهدف زرع الأمل في النفوس ودفع العقول والأفكار نحو الكفاح والنضال من أجل الحرية والتطلع إلى الأبواب المفتوحة، إذ لا بد من خلق توازن في الأفكار ما بين ثقافة الإحباط وجلد الذات وثقافة الأمل في الطرح الفكري، وهل تستطيع الأمم والشعوب أن تعيش على طعام واحد؟ وإذا عاشت فإلى متى؟
4 ـ فقدان الأمن الثقافي: فأغلب مثقفينا اليوم يدورون ما بين طاحونة الوظائف الحكومية، ويقضون يومهم في البحث عن لقمة العيش، وبين ما نطلق عليه “بالثقافة الرسمية المحاصرة” وفي كلا الحالتين، لا يمكن أن ينجح الكثير منهم في التخلص من الواجهات الزجاجية الملونة التي يعيشون خلفها، وللأسف الشديد حتى ثقافة الجياع هذه لم يستطع مثقفونا استغلالها بالطريقة الصحيحة، كما فعل مثقفو أوروبا ودول أميركا الجنوبية والولايات المتحدة الأميركية في وقت من الأوقات، فأين الأمن الثقافي الذي يدفع الأقلام والعقول للعطاء والبذل والاجتهاد والنقد البناء؟ في وقت لا تتمكن فيه العديد من أقلامنا العربية الشريفة المخلصة من الحديث همسا عن أخطاء الحكومات والمسئولين فيها، خوفا على أنفسهم وأسرهم من التنكيل والمعتقلات.
نعم .. يبدو أن سلبية المثقف العربي تجاه “الجوع القائم والجوع القادم” لن تكون اقل من سلبيته تجاه قضايا كثيرة لم يستطع بعد سنوات من الكتابة الصامتة أن يفك طلاسمها كالديمقراطية والحرية والعدالة والوحدة العربية، كما لا يبدو بأن الحكومات العربية ستستطيع أن تتخلص من عقدة خوفها من تلك الأقلام المخلصة والناقدة البناءة لأخطائها، أو حتى إن تقترب وتتقرب من تلك الأقلام لتستفيد منها ومن أفكارها، وهي واحدة من الإشكاليات الرئيسية التي اشرنا إليها بفقدان الحوار الشفاف والبناء ما بين الثقافة والسياسة في عالمنا العربي.
فالمثقف العربي (وتحت ظروف الحياة القاسية، يضطر في كثير من الأحيان أن يكتب بعدة لغات وعدة لهجات وعدة ألوان، وهو فيما إذا قابل السلطة يحتار بأي لغة يتكلم، وبأي لهجة يتفاهم، وبأي لون يخاطب، وتضيع الحقيقة، وهو لم يهتد بعد إلى اللغة واللهجة واللون).
5 ـ فقدان المرجعية الثقافية: فالمثقف العربي هنا فاقد للوجهة والواجهة الثقافية، فاقد للهوية الوطنية والقومية والحضارية، فلا تكتب النخبة الثقافية في عالمنا العربي بالعربية ولا تتكلم بالعربية، بل تلوي لسانها لتخاطب العامة بتلك المصطلحات والمفاهيم التي لا يفقهها سوى البعض من النخبة الثقافية، وإذا تحدثت بلغة الأمة، فهي كمن يتحدث إلى بقايا بشر لا قيمة لهم ولا فائدة منهم، فالبحث عن الهوية القومية والهوية الوطنية لدى أي شعب من الشعوب، يبدأ من البحث عن لغته، فإذا ضاعت اللغة أو غيبت أو فقدت، ضاعت وراءها الأمة بأسرها، وأي أمة تستطيع أن تدعي استقلالها وهي فاقدة للغتها.
كذلك ومما يجب أن يشار إليه هنا، هو فقدان المثقف العربي للنموذج العالمي الحضاري التوجيهي، فبالرغم من الحياة تحت ظلال الإسلام والقران الكريم .
إنما ـ وللأسف الشديد ـ لم يتمكن المثقف العربي بعد من تأكيد مرجعيته الفكرية الإسلامية تلك، ولا أتصور شخصيا بأن أي فكر عالمي آخر غير الثقافة الإسلامية قادر على فتح جميع الشبابيك المغلقة في وجه الشعوب والحضارات، ولو نظرنا إلى أوروبا وأميركا على سبيل المثال لا الحصر واستعرضنا النماذج الثقافية التنموية التي تبنتها، سنجد أنها حققت نتائج مادية كبيرة، ولكنها لم تستطع أن تقدم للإنسان فيها الحل الشامل لمشكلاته الاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية.
فعندما جردت هذه الثقافة المرجعية للمثقف العربي المسلم من دورها الحضاري كوجه وواجهة للأمة ككل، وللقيادات الثقافية والسياسية على وجه الخصوص، وعندما (جردت هذه الثقافة من بعدها المعرفي في الوقت الحاضر، وأصبحت مجرد حرفة، وأصبح الإسلام مجرد شعائر وطقوس لدى البعض، أكثر منه معرفة وتفاعلا مع الحياة، باعتباره جذر الثقافة العربية الضارب .. حدث هذا الاستلاب، ولم يعد الفرد العربي ـ ولا المثقف العربي ـ يدرك إلى أين هو ذاهب !!! ) ولا إلى أي وجهة هو موليها!!.
إذا فالمثقف العربي اليوم تنتظره حروب كثيرة، ومعارك أكثر شراسة، إذا ما أراد تحقيق تلك المعادلة الأممية بين الثورة الثقافية والنضال السياسي، فحروب المثقفين العرب اليوم هي حروب ومعارك من نوع لا يستخدم فيه رصاص البندقية بقدر ما تستخدم فيها كتابات الحرية والنضال الفكري، ومعارك هي بحاجة إلى تجديد في الأقلام بشكل يومي، وشهداء للكلمة في سبيل مجتمع جديد، لا تنفصل فيه الثقافة عن السياسة وهندسة المعاني الأدبية عن المعادلات السياسية والوطنية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2165834

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

2165834 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 23


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010