الجمعة 27 كانون الأول (ديسمبر) 2013

الاتحاد الخليجي تتويج موضوعي لمسيرة مجلس التعاون

الجمعة 27 كانون الأول (ديسمبر) 2013 par محمود الريماوي

بمقارنة مسيرة نشوء الاتحاد الأوروبي التي استغرقت أكثر من نصف قرن، وبدأت مع منتصف القرن العشرين بعد نحو خمس سنوات من الحرب الكونية الثانية، فإن تكتل دول الخليج العربية قد تأخر بعض الشيء في إنجاز الهدف النهائي للتكتل وهو الاتحاد. في الحالة الأوروبية فإن هدف الاتحاد كان يتعلق بتوحيد ما لا يقل عن ثلاثين دولة بقومياتها ولغاتها وأديانها المختلفة، بينما في الحالة الخليجية يتعلق الأمر بست دول فقط ذات لغة واحدة وإرث ثقافي مشترك، وبنسيج اجتماعي متشابه، وبنمط إنتاج اقتصادي متقارب. ومغزى ذلك أن الاتحاد الخليجي المزمع يتطلب قيامه فترة أقل. لقد مضت زهاء ثلاثة عقود على نشوء مجلس التعاون، ومن المنطقي أن يتقدم هذا التكتل نحو صيغ توحيدية واتحادية تتوّج مسيرة التعاون، وتصب في صالح دول المنطقة وشعوبها، كما في حفظ الأمن والاستقرار فيها.
لقد أثبتت مسيرة مجلس التعاون عدم انقطاع هذا التكتل عن محيطه العربي، بل لعل العكس هو الصحيح فقد ازداد التواصل مع المجموعة العربية ضمن منظمة الجامعة العربية وهيئاتها كما على مستوى العلاقات الثنائية بين كل الدول الخليجية وبقية الدول العربية، ورغم ارتفاع دعوات وشعارات مثل الإنسان الخليجي والثقافة الخليجية، ففي واقع الأمر إن التراث الثقافي والروحي والفكري العربي ظل على الدوام هو المرجعية الثقافية لدول الخليج حتى لو تضخمت العمالة الآسيوية في هذه البلدان، وحلت في كثير من الحالات محل العمالة العربية.

يُذكر هنا أن التوجهات لم تتوقف نحو توسيع مجلس التعاون أمام اليمن والعراق والأردن والمغرب. ورغم تعثر تحقيقها في ظل الحاجة إلى ظروف موضوعية لإنضاجها، فإن الانفتاح على دول أخرى يعكس روحا إيجابية وينفي محاذير الانغلاق، أو الاكتفاء بتكتل الدول الست وكأنه غاية الإرب وخاتمة المطاف.

يعود التوجه العلني نحو إقامة اتحاد خليجي لنحو عامين مع دعوة أطلقها العاهل السعودي الملك عبدالله في قمة الرياض الخليجية (الثانية والثلاثين). وكانت دعوة تستقيم مع طبيعة الأشياء ومنطق الأمور. وخاصة مع وجود هياكل اتحادية قائمة من أهمها درع الجزيرة. ومع إقرار مواثيق تتعلق بحرية التنقل والتملك والعمل للمواطنين في سائر دول المجلس، وقد أفاد مقيمون من هذه القوانين بالتنقل بين بعض دول المجلس اعتمادا على التمتع بالإقامة في إحدى هذه الدول.

لقيت هذه الدعوة قبولا وترحيبا مبدئيين بها لدى دول الخليج وشعوبها، ولم تثر حفيظة أحد، فمن حق أهل البيت الارتقاء بصيغ تعاونهم، وليس لأحد أن يقف في طريقهم. هل كان يتخيل أحد أو ما زال يتخيل أن يكون هناك اعتراض من طرف غير أوروبي على قيام الاتحاد الأوروبي؟ حتى المعترضين من داخل دول الاتحاد القاري فإنهم يعترضون على سياسة بذاتها ينتهجها الاتحاد حيال مسألة من المسائل، وذلك احتكاما إلى الديمقراطية المكرسة، ولا تتجه الانتقادات أو الاعتراضات نحو مبدأ قيام الاتحاد. فعصرنا هو حقا عصر التكتلات الكبيرة، دول مثل الولايات المتحدة أو الصين لا تطرح مثل هذه التوجهات الوحدوية مع الآخرين على أجندتها لأنها دول كبيرة شاسعة إحداها بحجم قارة. ومع ذلك قام تعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في مجالات عدة ويجمعهما حلف شمال الأطلسي. وإذ اصطدمت الدعوة للاتحاد بتحفظ دولة خليجية واحدة هي سلطنة عمان، فإن هذا التحفظ اقترن بالتزام السلطنة المعلن بالبقاء ضمن منظومة مجلس التعاون. فإذا ما قام الاتحاد كما هو مأمول وظلت مسقط على موقفها المتحفظ أو المعترض، فإنها مع ذلك لن تكون بعيدة عنه عملياً لوجودها ضمن الهياكل الأصلية لمجلس التعاون، وسينشأ هناك واقعياً تكتل بعنوان: خمسة زائد واحد، وستظل السلطنة مدعوة للانضمام إلى الاتحاد المزمع.

من الواضح الآن أن فلسفة الاتحاد في جانب منها تكاملية، بحيث تسد بعضها- ما أمكنها ذلك- حاجات دول أخرى، ويحول الاتحاد دون تضارب المصالح فلا تنشأ على سبيل المثال صناعات كبيرة بعينها في دولة ما، بينما مثل هذه الصناعة قائمة في دول أخرى، ويستفيد كل طرف من تجارب وخبرات غيره في سائر المجالات، ويجري حل مشكلات مثل البطالة في إطار جماعي تدريجي. إن مشروع الربط بسكة الحديد بين دول المجلس من شأنه أن يخلق واقعا اقتصاديا اجتماعيا شديد الحيوية، وقد تقاربت الدول الأوروبية بالربط في ما بينها بشبكة سكة حديد لأغراض تنقل الأفراد والسلع بانسيابية بالغة. الأمر الذي ساهم في التنشيط السياحي والاقتصادي والتفاعل الثقافي. علاوة على أن المشروع بحد ذاته مُجزٍ اقتصادياً، ويوفر فرصاً للعمالة والاستثمار في مرافقه المختلفة.

أما الجانب الآخر لفلسفة الاتحاد فهي دفاعية. فدول الخليج منفردة أضعف من أن تشكل وزنا استراتيجيا في معادلات القوى القائمة، مهما بلغ مستوى التسليح في دولة واحدة. وهو الأمر الذي شجع على اجتياح الكويت من طرف النظام العراقي السابق، وهو ما يجعل الجارة إيران ترفض التفاوض والتحكيم بشأن جزر الإمارات الثلاث التي استولت عليها، حتى أنها ترفض مجرد إجراء مباحثات سياسية حولها. هناك أموال طائلة تدفعها الدول منفردة لغايات دفاعية دون أن تضمن تحقيق الغاية المرجوة منها، وذلك لغياب نظام دفاع وردع جماعي، ولضعف التنسيق السياسي في بعض الحالات، ولقصور التنوع في مصادر التسلح وهو الأمر الذي تم تداركه جزئيا في السنوات الأخيرة.

من الخطأ القول اليوم إن قيام اتحاد خليجي سيشكل تهديداً أو تخويفاً أو استفزازا لأحد. لقد حدثت منازعات حدودية بين دول الخليج نفسها في العقود الأربعة الماضية، وغالبا ما تم حلها بالتقاضي أو التحكيم أو بمجرد الاستجابة لوساطات، لكن منازعات من هذا النوع لم تنشأ مع دول الجوار، علما أن هذه الدول تقبل في حالة نشوء مثل هذه النزاعات الاحتكام إلى الوسائل السلمية وإجراءات التقاضي، ولم يحدث أن استخدمت هذه الدول القوة في ما بينها، أو بينها وبين جيرانها، أو هددت باللجوء إليها.

تاريخ دول الخليج مطبوع بسياسات سلمية، تشهد على ذلك الوقائع والمجريات لا شهادة الأشقاء والأصدقاء. وليس لديها إلى ذلك مطامح توسعية أو نزعات إمبراطورية، فجُلّ همّها ينصبّ على توفير أسباب المناعة الذاتية، مع النأي عن التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، خاصة لدى الأشقاء ودول الجوار. الأمر الذي يُزكّي الفلسفة الدفاعية للاتحاد المزمع، ويؤشر على الحاجة الموضوعية لقيامه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2165816

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2165816 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010