ينقصنا طول البال، وربما تستفزنا بعض الأفكار التي يطلقها الطرف الآخر، وهي أفكار قد لا تتفق ومعتقداتنا أو توجهاتنا وفلسفتنا في الحياة، بحيث تحول بيننا وبين الاستماع إليه. هذا حق تكفله لنا شريعة المزاج المتقلب للطبيعة البشرية، كما تكفله لنا الحرية الشخصية في اختيار الطرف الآخر سواء أكان متحدثا لبقا أو متحذلقا ثقيل الظل.
في بعض الحالات الإعلامية، لا يسمح للشخص بتقديم مزاجه الشخصي على المصلحة الجماهيرية؛ ولهذا وجب على البرامج الحوارية اعتماد ضوابط معينة، لتحقيق هدف الاتصال بالجمهور وبث الرسالة المراد تسريبها.. أو كما يسميها أهل الاختصاص؛ التأثير في المتلقي وهو الحوصلة النهائية لعملية الاتصال، ويتضح ذلك من خلال إحداث تغييرات في سلوك المتلقي في اتجاه معين ومقصود.
سمة البرامج الحوارية العربية هذه الأيام، هي أن يتقمص المقدم شخصية المحاور بكسر الواو والمحاور بفتح الواو في الوقت ذاته، فيما يكتفي الضيف بإشغال الحيز المكاني لوجود جسده شأنه شأن الطاولة والكرسي. كما أن بعض مقدمي هذه البرامج لا يتقنون فن الإنصات ولا يسمحون للضيوف بالإجابة عن ربع الأسئلة المطروحة، لأنهم يعرفون إجابتها سلفا من خلال التحضير الجيد للحوار بأسلحة معلوماتية تعمل كقذائف نارية جاهزة، يتم توجيهها بحرفية إلى وجه الضيف الذي يتجرأ ويطرح فكرة مخالفة لأمزجتهم. وأكثر من ذلك، فهم يستأثرون بالحديث لأنفسهم ويتدخلون لإدارة دفة الحوار لصالح أفكارهم الشخصية ويقاطعون الضيف ويكممون فمه ويتصيدون أخطاءه حتى ينتهي الأمر بالضحية إلى الاستعانة برسائل جسدية دفاعية كتقطيب الجبين أو التململ في المقعد أو الاكتفاء برسم شبح ابتسامة، من شأنها أن تحمل من المعاني الكثير ما يفصح عمّا بداخله من غيض مكتوم، بعد أن يقطع عليه طريق الكلام.
يمتد طموح مقدمي هذه البرامج “الانفعالية” إلى أبعد من محاولة إيصال الرسالة إلى المتلقي، فالهدف الأساس هو حصد إعجاب الجمهور على طريقة استعراض العضلات بحجة أن الجمهور “عايز كده”! إلا أن نتيجة الحوار من طرف واحد تشبه تماما نتيجة الحب من طرف واحد؛ حيث تتضمن خلق فجوة نفسية بين الطرفين ستنعكس بالتأكيد على الجمهور، المتلقي، وبالتالي يحدث تشويه في محتوى الرسالة الخبرية، بحيث يختلط الأخضر باليابس.. فالبرامج التي تروّج للهجوم على الضيوف قبل أن تتيح لهم الفرصة للدفاع عن أفكارهم، تلغي وظائف الإعلام الحر؛ فلا أخبار ولا تغيير للاتجاهات ولا زيادة للمعلومات ولا تنمية للعلاقات الإنسانية. الوظيفة الوحيدة التي تجيد إتقانها هي نفش ريش المذيع، الطاووس، والقضاء على أوقات فراغ المشاهد وأعصابه، كما تروج لسياسة ضبط النفس وذلك باعتماد الضيف نموذجا.. الضيف الذي سيتاح له الخروج بانسيابية من الأستوديو بشهادة حسن سيرة وسلوك، بعد أن يبلع لسانه ويفقد ثقته بنفسه إلى الأبد.
حكيم أميركي عاش قبل أكثر من قرن من الزمان.. لم يكن يحلم بمنصب مذيع استفزازي، فقد كان كاتبا وشاعرا وطبيبا حصد شهرته من خلال إتقانه فن الخطابة بأسلوبه المشوق الذي كان يجتذب تلاميذه وجمهوره. أوليفر وندل هولمز، كان يفضل الاستماع إلى الآخرين عن التفوه بالكلام طيلة الوقت خوفا من الوقوع في أخطاء معلوماتية أو قواعدية، لإيمانه بأن “الكلام من اختصاص المعرفة.. أما الاستماع فهو امتياز الحكمة”. اختار هولمز أن يكون حكيما عن أن يكون مقدم برامج حوارية تعمل بأسلحة كاتمة للصوت.
الأربعاء 25 كانون الأول (ديسمبر) 2013
برامج حوارية كاتمة للصوت!
بقلم:نهى الصراف
الأربعاء 25 كانون الأول (ديسمبر) 2013
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
13 /
2177983
ar وجهات العدد ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
21 من الزوار الآن
2177983 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 22