الأحد 22 كانون الأول (ديسمبر) 2013

إنهم يرقصون على أنغام الست..

بقلم:تركي الحمد
الأحد 22 كانون الأول (ديسمبر) 2013

في ظل هذه الأحداث المتلاحقة في الساحة الشرق أوسطية، من الاتفاق الأميركي الإيراني، إلى استمرار النظام الأسدي القمعي في دمشق بدعم من الدب الروسي المتحفز، إلى تغير ملحوظ في البوصلة السياسية المصرية نحو موسكو، وبدايات غزل سعودي للكرملين، والتغلغل المطّرد للاتحاد الروسي في المنطقة نتيجة التردد الأميركي، وضبابية هذا الموقف الحائر والضعيف تجاه هذه الأحداث كل ذلك يدعو للاعتقاد بأن موسكو اليوم قد تخلت إلى حين عن الرقص مع تشايكوفيسكي وراقصي البولشوي، وأخذت ترقص وتشدو مع أم كلثوم: ” إفرح يا قلبي لك نصيب تبلغ مناك ويا الحبيب”، بينما ترقص طهران على كلمات وأنغام أغنية: ” عادت ليالي الهنا، والقلب نال المنى”. فمنذ مجيء باراك حسين أوباما إلى المكتب البيضاوي قبل خمس سنوات فقط، والسياسة الخارجية الأميركية في حالة انحدار وتخبط وعدم قدرة على تبين معالم الطريق في عالم هو اليوم في حالة تغير وتبدل في مواقع الدول على سلم قوى يفرض نفسه شيئا فشيئا. لقد كانت سياسة الرئيس السابق جورج دبليو بوش الخارجية متطرفة ومستهجنة ورعناء في كثير من جوانبها وفي عنفها، موجهة من قبل أيديولوجيا يمينية مغرقة في محافظتها وأساطيرها الدينية والسياسية، نشرت العنف والدمار في أرجاء كثيرة من العالم، كردة فعل قد تكون مفهومة، وإن كانت غير مبررة، على هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول التي أصابت الكبرياء والغطرسة الأميركية المتصاعدة في صميم فؤادها، ولكنها كانت سياسة واضحة المعالم حيث يمكن التنبؤ بمسارها واتجاهاتها وبالتالي تحديد كيفية التعامل معها على أسس واضحة، رغم دوار انهيار البرجين. أما السياسة الخارجية الحالية للولايات المتحدة فإنها تبدو كمسار سفينة تمخر في محيط تهب فيه عواصف البحر وتتكاثر أسماك قرشه من كل اتجاه، وقد ضاعت البوصلة، وتعطلت الدفة، واحتجبت كواكب السماء الهادية إلى بر الأمان، في ذات الوقت الذي شلّ فيه الخوف من حيتان البحر والحيرة قدرة الربان على التفكير السليم والحركة الملائمة.
هذا التردد والعجز للولايات المتحدة، أدى، وهو ما تجلى بوضوح منذ بداية الأزمة السورية على وجه الخصوص، إلى نوع من انفضاض الحلفاء من حول ” العم سام”، المتمثل حاليا في اتساع هوة عدم الثقة بين أميركا وحلفائها في العالم، وهو ما نراه جليا في التوتر الحالي القائم بين أميركا والسعودية مثلا، وهي الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة منذ لقاء الملك عبدالعزيز بالرئيس روزفلت على ظهر المدمرة الأميركية كوينسي في البحيرات المرة عام 1945، وإرساء قواعد التحالف الاستراتيجي بن أميركا والسعودية، وهو توتر لم يسبق له مثيل في حدته، رغم حرص الطرفين على تبادل الكلمات الطيبة، إلا في أعقاب هجمات سبتمبر/ أيلول عام 2001، وأزمة حظر النفط أيام حرب أكتوبر/ تشرين أول، عام 1973. إلا أن التوترات السابقة كان يتم احتواؤها من خلال الإطار العام للتحالف الاستراتيجي بين المملكة وأميركا، وفي ظل إدارات كانت تعي ماذا يعني أن تكون الولايات المتحدة ” سوبر باور” أو ” السوبر باور”، أما التوتر الحالي فيبدو أنه سيشكل تغيرا كبيرا في السياسة الخارجية السعودية ورسم خريطة تحالفاتها الدولية الجديدة، بما قد يشكل انحرافا كبيرا، وليس كليا بطبيعة الحال، عن التحالف الاستراتيجي التاريخي بين الدولتين، إذ يبدو أن السعودية قد اقتنعت أخيرا بحكمة المثل الأنكليزي بعدم وضع كل البيض في سلة واحدة، والإنكليز في النهاية هم أرباب الحكمة السياسية في العصر الحديث.
أميركا اليوم تعاني من أزمة عدم ثقة من حلفائها، وخاصة في المشرق العربي، أو المشرق المريض كما يجب أن تكون تسمية واقع الحال حقيقة، تتمثل في عدم اطمئنان الحلفاء إلى جدية الولايات المتحدة في الوقوف إلى جانبهم عندما تبدأ العواصف في الهبوب. صحيح أن الولايات المتحدة كانت، وطوال تاريخها المعاصر تقريباً، ” وصولية” في علاقتها مع حلفائها إلى أبعد الحدود، مع قصر نظر شديد، حيث أن التحالف مع أحدهم ينتهي بمجرد تحقيق الغرض الآني للتحالف، وذلك مثل زواج متعة قصير الأمد، أو حتى علاقة عابرة غير شرعية بين رجل وامرأة. وصحيح أن العلاقات الدولية تقوم في جزء كبير منها على المصالح والتحالفات غير الثابتة، ولكن مشكلة الولايات المتحدة، وخاصة بعد نهاية الحرب الباردة، أنها لم تعد تفرّق بين الاستراتيجي والتكتيكي، القصير الأجل والطويل الأجل في هذا المجال، وهو ما يبدو جليا في إدارة أوباما الحالية، وما الانسحاب من العراق قبل الأوان وتركه لقمة سائغة للحرس الثوري الإيراني، والموقف الأميركي المتفرج على المجازر اليومية في سوريا، ومحاولة تسوية الأمور مع حكم الملالي في إيران بأي ثمن ممكن، حتى لو كان ثمنا بخسا دراهم معدودة على شكل تنازلات إيرانية هامشية، أو على حساب حلفاء تاريخيين في المنطقة، إلا أمثلة هي غيض من فيض على أزمة السياسة الخارجية الأميركية الحالية. هذا لا يعني القول إنه ليس لإيران الحق في السعي إلى تحقيق مصالحها القومية التي تراها، ولكنه لا يعني ترك الحبل على الغارب حيث يكون تحقيق تلك المصالح على حساب مصالح قومية أخرى، وبمباركة القوة الدولية الأعظم التي لن تحظى في النهاية بثقة الملالي في إيران، وهم أصحاب تجربة تاريخية في التعامل مع أميركا في هذا المجال، فلن تتخلى إيران عن تحالفها الاستراتيجي مع روسيا أو سياستها وتطلعاتها السياسية الإقليمية في منطقة الخليج والهلال الخصيب ووسط آسيا، حتى لو قامت الولايات المتحدة برش العطور الباريسية الفاخرة في سماء طهران ومشهد وتبريز، ولا ننسى قُم المقدسة.
على الجانب الآخر، نرى الدب الروسي وقد بدأ يستعيد عافيته بعد دوار سقوط اتحاد السوفيت الاشتراكي، وعادت الدولة الروسية إلى تحديد أولوياتها الاستراتيجية التي لم تتغير كثيرا في خطوطها العامة منذ إمبراطورية القياصرة البيض في القرن التاسع عشر، وحتى إمبراطورية القياصرة الزرق في القرن الحادي والعشرين، مرورا بإمبراطورية القياصرة الحمر في القرن العشرين، والتي تتلخص في الهيمنة على القلب الجيوسياسي للعالم، أو الوصول إلى المياه الدافئة وفق التعبير القديم، وهو منطقة الشرق الأوسط التي لم تتغير أهميتها كمنطلق للسيادة العالمية حتى في عصر العولمة وثور التكنولوجيا الرقمية وغير الرقمية، ويبدو أنها قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى من ذلك، والفضل الأكبر في ذلك اليوم هو للسياسة الخارجية الأميركية التي يبدو أنها قد استكانت إلى وهم وأسطورة ” نهاية التاريخ وخاتم البشر”، بعد ثمالة سقوط الاتحاد السوفيتي، وقيلولة ما بعد نهاية الحرب الباردة. سقطت إمبراطورية القياصرة ولم تحقق أهداف الدولة الروسية نتيجة أوضاعها الداخلية التي أدت إلى ثورة أكتوبر/ تشرين أول عام 1917، ونتيجة وقوف تحالف القوى الأوروبية آنذاك أمام ذلك. وسقطت إمبراطورية السوفيت ولم تحقق أهدافها، وإن بدا ذلك وشيكا في مرحلة من المراحل وخاصة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، ولكن ذات الأوضاع الداخلية والجمود الأيديولوجي الذي أدى إلى سقوط دولة لينين وستالين، بالإضافة بالطبع إلى وقوف المارد الأميركي في وجه مارد سوفيتي كان يعاني من تقرحات داخلية ومصاعب خارجية أوردته في النهاية موارد الهلاك، حين حاول أن يجاري ماردا مكتمل الأعضاء، في سباق تسلح لا يُبقي ولا يذر. اليوم، يأتي توفيق التناقضات الجدلية الهيغلية (النقيض، نقيض النقيض، التوفيق)، أي الاتحاد الروسي أكثر صحة نسبيا من قياصرة آل رومانوف، وقياصرة السوفيت من آل لينين، وفي المقابل يقف مارد متردد غير قادر على تبين معالم الطريق، أمام مارد متحفز ومتحمس يعرف تماما ماذا يُريد. المارد الروسي الجديد، أو المتجدد حقيقة، يطرح نفسه أمام العالم على أنه حليف موثوق ويمكن الركون إليه، على عكس المارد الأميركي الذي يتعامل مع حلفائه وفق أغنية الشحرورة: ” وصلتينا لنص البير وقطعتي الحبله فينا”، وليس أدل على ذلك من مساندته لنظام بشار الأسد في سوريا الذي لم تعد جرائمه ضد الإنسانية بحاجة إلى دليل، إلا إذا كان وجود الشمس بحاجة إلى دليل، وثبات موقفه تجاه سياسات الملالي في إيران، دون أن يجد رادعا حقيقيا يجعله يتوقف عن ذلك. أو حتى يكبح جماح اندفاعه، كما فعلت الولايات المتحدة أيام إدارة الرئيس جون كينيدي في أزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا (أزمة الكاريبي) عام 1962، أو أيام الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979، في آخر أيام كارتر وبداية عهد رونالد ريغان.
من المؤكد بالطبع أن روسيا دولة تسعى وراء مصالحها، وهذا حقها وحق جميع الدول، ولكنها تفعل ذلك في إطار أنها دولة عظمى تحاول العودة إلى موقع السيادة العالمية، من خلال بناء تحالفات استراتيجية بعيدة المدى على أسس من الوضوح والثبات النسبي. أزمة حقيقية تعاني منها السياسة الخارجية الأميركية، ولعلها مؤشر على بداية انحسار الحقبة الأميركية الصرفة التي دشنت عهدها بسقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، وبداية حقبة سياسية جديدة ستكون الولايات المتحدة لاعباً رئيسياً فيها لا شك، ولكنها لن تكون اللاعب الوحيد، أو حتى المحور الذي يحدد مسار الأحداث في الشرق والغرب.
بمثل هذه القراءة للوضع الدولي المعاصر وموقع الولايات المتحدة فيه، فإنه يجب على حلفاء أميركا في عالم العرب تحديدا إعادة رسم خريطة طريقهم الاستراتيجي، لا من حيث بناء تحالفات جديدة فقط، ولكن من حيث كيفية تنمية قدراتهم الذاتية الداعمة لموقعهم في أي تحالف دولي قادم. أو حتى أن يكونوا هم حجر الزاوية في بناء تحالفات جديدة بعيدا عن التبعية المطلقة. أما في اللحظة الراهنة، فكأني أرى الدب الروسي وهو يتمرغ على ثلوج موسكو ناصعة البياض، ويغني جذلا مع الست رحمها الله: ” هلت ليالي القمر”، في الوقت الذي يهز فيه الأسد الإيراني رأسه طربا وهو يدندن بأغنية الست أيضاً: ” عطف حبيبي وهناني، يا فرحتي لما صافاني”.. هذا، ودامت الفرحة في دياركم..



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 6 / 2165341

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2165341 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010