الجمعة 20 كانون الأول (ديسمبر) 2013

ثوار وثورات ما بعد الحداثة

د.عدنان عويّد *
الجمعة 20 كانون الأول (ديسمبر) 2013

إن مفكري ما بعد الحداثة كما يعرف الجميع, هم من قالوا إن العالم الذي نعيشه اليوم, هو عالم نهايات القيم الأخلاقية الإيجابية. أي نهايات عالم الخير والجمال والحب والبطولة والرجولة والدين السمح, وكل القيم التي يشعر الإنسان أن بانتمائه إليها يحقق ذاته الإنسانية, هذه الذات التي ناضل آلاف السنين من أجل تحقيقها بعد أن عاش كل سنين ذاك التاريخ يقاوم الجهل والظلم والاستعباد والقوانين العمياء في الطبيعة والمجتمع التي حولته في بعض مراحل تاريخه إلى سلعة يباع ويشترى في أسواق النخاسة. إن مفكري ما بعد الحداثة يريدون أن يقولوا: إن كل تاريخ نضال الإنسان الماضي من أجل العودة به إلى مرجعيته الإنسانية, جاءت الطبقة الرأسمالية الاحتكارية العالمية لتسلبه ما استطاع تحقيقه في مشروعه الإنساني, وتجعله يعيش حالات جديدة أخرى من الغربة المادية والروحية بكل ما تحمله هذه الغربة من دلالات. نعم لقد سلع النظام العالمي الجديد بقيادة هذه الطبقة الإنسان وحولته وغرائزه معًا إلى بضاعة تباع وتشترى في أسواق نخاسة اقتصاد السوق. من هنا فقد الإنسان كل أمل في النجاة, فكان لا بد من التعبير عن عالم ضياعه هذا في فكر وأدب وفلسفة كتاب العالم الجديد, عالم ما بعد الحداثة, عالم الموت واليباس والضياع والغربة والتفتت والتشرد والقتل والرصاص والدم والتذرير والجنس الرخيص والقذارة بكل ما تحمله في الشكل والمضمون... هذا هو عالم ما بعد الحداثة الذي بشر به مفكروا وفلاسفة النظام العالمي الجديد.
أمام هذا الصور القاتمة عن حياة الإنسان ومستقبله كما صورها لنا مفكرو الغرب, كثيرًا ما امتلكتنا الدهشة والاستغراب من عالم الغرب وجشاعة قادته وكل من يتحكم بحياة إنسانه. بيد أن هذه الدهشة والاستغراب سرعان ما بدأت تتلاشى ملامحها شيئًا فشيئًا أمام نتائج ثورات الربيع العربي, وبخاصة في سوريا ومصر وليبيا. إن ما يجري في هذه البلدان اليوم من قتل ودمار وسلب وامتهان للإنسان وقيمه الفاضلة من قبل قادة هذه الثورات وعلى رأسهم شركاء قادة النظام العالمي الجديد في وطننا العربي, يجعلنا نقر بأن عالم ما بعد الحداثة هو أمر واقع وليس حكاية من حكايات فلاسفة الغرب الذين دائمًا يخرجون لنا بنظريات ليس لها أي وجود على الواقع, وإن وجد لها ما يبرر وجودها فهي مواقف أو مواضيع تخص العالم الغربي أو جزء منه لا أكثر.
تعالوا معي لنرى كيف تجري معالم عالم ما بعد الحداثة في وطني سوريا بشكل عام وبلدي دير الزور بشكل خاص على يد ثوار ما بعد الحداثة.
ثوار ما بعد الحداثة في بلدي ليس لهم هوية طبقية, فهم من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال, وثوار بلدي ليس لهم أيديولوجية محددة وواضحة لمشروعهم الثوري المابعد حداثوي, فهم يسيرون على بركة الأهواء والمزاج والمصالح لأنانية الضيقة, لذلك تجد فيهم رجل الدين, وتجد فيهم اليساري الطفولي, وتجد فيهم, التاجر الجشع, وتجد فيهم الحشاش واللص والخارج على القانون. بيد أن اللافت للنظر في كل هؤلاء أن القتال باسم الدين قد جمعهم... الكل قد أطلق الذقون, والكل قد كبر باسم الله, والكل سار تحت ألوية الرسول والصحابة والتابعين وتابعي التابعين, والكل صار أبو حفصة والقعقاع وعمر وبكر وخالد وحمزة, والكل أصبح يصلي والسلاح إلى جانبه.
باسم الدين الحنيف الذي تعلمنا منه المحبة والرحمة والنظافة والإيمان واحترام الآخر في رأيه ودينه, وتحريم دم المسلم وغير المسلم وماله وعرضه, باسم الدين الذي علمنا أن نبني أنفسنا وأسرنا ووطننا وعالمنا الإنساني أفضل بناء, جاء ثوار ما بعد الحداثة ليمارسوا علينا اليوم قوانين ثورتهم بصيغها الجديدة. .. نعم لقد جاؤوا باسم الحرية والعدالة وشعارات لا إله إلا الله, لكي يمارسوا القتل والذبح والسرقة والتعدي على أموال الناس وقطع أرزاقهم وفرض الحصار عليهم وقطع الماء والطعام والكهرباء والاتصالات عنهم, باسم الدين والحرية والعدالة جاؤوا لكي يهدموا الكنائس ويحللوا دماء الأقليات الدينية والمذهبية من دينهم أو من الديانات الأخرى من أبناء وطنهم, لقد جاؤوا من أصقاع هذا العالم, لكي يفرضوا على المواطنين السوريين سلوكيات وقيمًا يدعون أنها قيم الفضيلة والخير حتى لو طبقت في الشكل, جاؤوا وجاء معهم هؤلاء الغرباء في الشكل والمضمون كي يمارسوا على السوريين ساديتهم وحقدهم الجاهلي, جاؤوا وجاء معه البترودولار, لينشروا في سوريا مشروع ديمقراطية أميركا والغرب، جاؤوا وهم يحملون معهم مفاهيم جديدة للثورة التي يدعون أنها ثورة شعبية, هذه الثورة التي باسم الشعب راحت تفرض على الشعب الحصار في مدينة دير الزور وتمنع عنه الخبز والغاز والمازوت والكهرباء والاتصالات والتعليم والتواصل الاجتماعي, ثورة جاءت لكي تجوع الشعب وتزرع عنده الخوف والكره والحقد والشوق لمشاهدة الدم والرذيلة, ثورة قطعت البلاد إلى إمارات (كونتونات) وكل إمارة لها أميرها وقادتها وحصتها من ثروات الشعب النفطية أو غيرها, وما تبقى من ثروات لا تعجبهم سرقوها وباعوها لأردوغان. ثورة حداثية بامتياز, استطاعت أن تزرع في نفوس أبناء الشعب كل ما يدل على البؤس وفقدان الأمل بالحاضر والمستقبل, وأي حاضر وأي مستقبل هذا الذي يريده الشعب بعد أن فقد كل شيء من مال وحلال ومأوى... نعم إنها ثورة ما بعد الحداثة التي رحنا نعيش مفرداتها على لسان كل إنسان في وطننا الحبيب سوريا, حيث أصبح كل فرد منا يشعر بالحزن والألم والقهر والظلم وفقدان الأمن والحرية والاستقرار والبحث عن أبسط مقومات إنسانيته... نعم إنها ثورة وثوار ما بعد الحداثة.

- د.عدنان عويّد كاتب وباحث من سوريا

d.owaid50@gmail.com



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2165381

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165381 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010