الخميس 19 كانون الأول (ديسمبر) 2013

ثورات أوروبية لم تكتمل

الخميس 19 كانون الأول (ديسمبر) 2013 par جميل مطر

لم يخطر على بال قادة دول الاتحاد الأوروبي أن قمتهم المقرر انعقادها في فيلنيوس عاصمة ليتوانيا ستكون سبباً في اندلاع مظاهرات عارمة في كييف عاصمة أوكرانيا . كان الغرض من القمة وضع اللمسات النهائية على اتفاقيات شراكة بين الاتحاد الأوروبى وآخر مجموعة من دول أوروبا الشرقية والكتلة الشيوعية لم تنضم بعد إلى الاتحاد . هذه الدول هي أرمينيا واذربيجان وجورجيا ومولدوفا وروسيا البيضاء وأوكرانيا، ثلاثة منها تقع في القوقاز، الإقليم الذي لا يماثله في فقره واضطرابه إقليم آخر في أوروبا، وثلاثة هي أيضاً من بين الأفقر في أوروبا ولكنها خارج حزام العنف أو الإرهاب وهي مولدوفا وروسيا البيضاء وأوكرانيا .
لم تكن المفاوضات التي جرت بين الاتحاد الأوروبي وهذه الدول خلال السنوات الماضية سهلة، إذ كانت توقعات الدول المتقدمة للشراكة مع الاتحاد أعلى كثيراً من قدرة بروكسل على الوفاء بها . مثال ذلك طلب أوكرانيا الذي تقدمت به في اللحظة الأخيرة للحصول على معونة مقدارها عشرون مليار دولار للخروج من أزمتها الاقتصادية وتسوية بعض العقبات التي يعترض على وجودها الجانب الأوروبي . من ناحية أخرى لم تتوقف ضغوط موسكو على عواصم هذه الدول لمنعها من الانضمام إلى الاتحاد، وواحدة منها على الأقل دخلت مؤخراً في اشتباكات مسلحة مع روسيا، وهي جورجيا . فقط جورجيا ومولدوفا ذهبتا إلى ليتوانيا بنية التوقيع بالأحرف الأولى بينما الدول الأخرى راحت مترددة، وأكثرها متراجع .
كانت أوكرانيا إحدى الدول المتراجعة، ولعلها الدولة الأهم في المجموعة بأسرها، فهي الدولة الأكبر والأكثر ازدحاماً بالسكان (43 مليون نسمة) والأقل تخلفاً من الناحية الصناعية والاقتصادية، ولكنها أيضاً الأهم على الإطلاق من الناحية الاستراتيجية . أفضل شبه لها هو بولندة على امتداد تاريخها الحديث كدولة فاصلة بين الامبراطورية الروسية وامبراطوريات وسط وغرب أوروبا . فالكثيرون يعتبرون أوكرانيا بالوضع الأوروبي الراهن الحد الفاصل بين “أوروبا الغربية المتوسعة” من جديد وروسيا المتوسعة أيضاً من جديد على أمل إقامة كتلة “أوروبية آسيوية أي أوراسية” . فضلاً عن ذلك لا يخفى أن الروس لأسباب “سلافية” ودينية وقومية واقتصادية يعتبرون أوكرانيا درة التجمع الأوراسي، تحت الإنشاء، وخط الدفاع الجنوبي الذي اعتمدت عليه موسكو لقرون عديدة .
لأوكرانيا أسباب أخرى تسبغ عليها وضعاً خاصاً في عمليتى التوسع اللتين تنفذهما موسكو وبروكسل . هناك الوشائج التاريخية التي نسجت خيوطها سنوات طويلة في إطار الجوار الجغرافي واختلاط الشعبين . أدى هذا التداخل إلى أن أصبحت معظم المناطق الشرقية في أوكرانيا تتحدث الروسية بينما تتحدث أقلية في المناطق الغربية، ومنها العاصمة كييف، لغة أخرى .
من ناحية ثانية لا تقل أهمية، المعروف أن الكنيسة الأرثوذكسية عادت تقوم بدور مهم فى توثيق العلاقات بين الشعبين وتعميق مشاعر الولاء لروسيا عن طريق الإيمان المطلق بمكانة الكنيسة في المجتمع الأوكراني .
من ناحية ثالثة، مازالت أوكرانيا، رغم انفراط الإمبراطورية الروسية وأزمات عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في معظم الدول التي خرجت من الفلك السوفييتي، تعتمد بشكل رئيس على روسيا كسوق لمنتجاتها الصناعية والزراعية وكمصدر وحيد، حتى الآن على الأقل، للغاز . وفي الحالتين تحصل أوكرانيا على امتيازات المعاملة التفضيلية، وفي الحالتين تستخدم موسكو هذه المعاملة التفضيلية للضغط على أوكرانيا كلما لاحت بوادر تشير إلى احتمال أن تتوصل كييف إلى اتفاق مع بروكسل، أو كلما لاحت لموسكو إشارات تدل على نية أوكرانيا تنويع أسواقها واقتصادها وتوسيع دائرة علاقاتها الخارجية .
يحلو لمعلقين غربيين، وبخاصة في الولايات المتحدة، إطلاق صفة الثورة على المظاهرات التى عمت أحياء في مدينة كييف، واعتصام بعض المتظاهرين في ميدان الاستقلال تحت شتاء قارس . آخرون ذهبوا بعيداً فأطلقوا على هذه المظاهرات والاعتصامات عنوان “الثورة البرتقالية الثانية” تيمناً بثورة البرتقال الأولى في ،2004 يبالغ هؤلاء المعلقين فالثورة الأولى كانت ضد تزوير في الانتخابات استخدمها الغرب فأسبغ عليها سمات الثورة الديمقراطية الليبرالية وثورة الاستقلال عن نفوذ روسيا وضغوطها . هناك من دون شك آراء قوية تعتقد أن الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية اعتمدت تضخيم صورة ثورة ،2004 مثلما فعلوا مع ثورات وانتفاضات أخرى نشبت فى دول أوروبا الشيوعية . أجد صعوبة في مسايرة الرأي الذي يصنف مظاهرات كييف الراهنة باعتبارها ثورة، فالخلاف في أوكرانيا يتركز حول رغبة نسبة غير صغيرة من الشعب في الانضمام للاتحاد الأوروبي، مهما كانت التضحيات المادية التي سيتحملونها نتيجة فقدان سوق روسيا وغازها الرخيص، نسبة أخرى أيضاً غير صغيرة ترفض الخضوع لبروكسل وقيودها وشروطها ولا تريد الانفكاك عن الجارة الروسية .
تختلف “الحالتان الثوريتان” في أنه بينما حظيت “الثورة” البرتقالية في 2004 بعدد لا بأس به من القادة السياسيين، ورغبة قوية لدى الشعب لإنهاء استبداد جهاز الشرطة وإقامة حكم القانون والعدل السياسي، تفتقر “الثورة” الراهنة إلى قيادة من أي نوع، باستثناء ملاكم سابق دخل حلبة السياسة حديثاً بين سخرية الناشطين والإعلاميين الذين راقبوا الأداء السيئ للسياسيين الجدد، بل قيل إنه لا يوجد في الساحة السياسية منافس قوى يستطيع أن يقود ميدان الاستقلال في سعيه نحو السلطة والحلول محل الرئيس الحالى للجمهورية يانوكوفيتش .
في الوقت نفسه لا يتردد مراقبون خارجيون في التصريح بأن الشارع الأوكرانى، على الناحيتين الشرقية الموالية لروسيا والغربية المتعاطفة مع أوروبا، يبدو غير متحمس لخوض غمار “ثورة” أخرى، بعد تجربته الأليمة مع الثورة البرتقالية، التي انتهت بفوضى وانهيارات اقتصادية وانتشار أوسع وأعمق لفساد السلطة . الشارع الأوكراني، كشوارع كثيرة في العالم العربي وأوروبا الشرقية صار يميز بوضوح بين مظاهرات متفرقة وأعمال شغب واعتصامات عشوائية من ناحية وبين “ثورة” شعبية لتغيير أوضاع جوهرية في الدولة من
ناحية أخرى . في كل الأحوال مازال الأمل يتجدد في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وبعض دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا بأن الثورة هي الحل للخروج من ثنائيات تبدو مفروضة ومتعمدة، مثل ثنائية الاستبداد أو الفوضى وثنائية القمع أو الإرهاب .
أوكرانيا، مثل غيرها من دول التماس ضحية صراع بين كتل وقوى دولية كبيرة، ولا سبيل إلى خلاصها إلا ثورة حقيقية بدوافع وقيادات وطنية تحارب الفساد وتجهض محاولات عودة الاستبداد وتهدئ النوازع الانفصالية . ثورة تفرز قيادات سياسية جديدة تتولى مهمة التفاوض مع الدول الأكبر من مواقع الاستقلال الحقيقي والثقة بالنفس . -



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2165891

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2165891 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010