الثلاثاء 17 كانون الأول (ديسمبر) 2013

عندما يتحوّل الطالب أستاذاً

الثلاثاء 17 كانون الأول (ديسمبر) 2013 par نسيم الخوري

يتدفّق الغرب إلينا “شاهراً سلاح” المعاهد والجامعات كأدوات فعّالة في نحت الأجيال والأبناء . تلك ظاهرة لافتة ترشدنا الى مستقبل هذه الكتل الهائلة من الأجيال التي حباها الله كنوز الأرض والسماء، وتستأهل إخراجها من نصوصنا المغمّسة بالدم نحو السؤال التالي: هل من الممكن تقييم مناهج العرب بهدف قراءة ملامح الطريق المنتظرة؟ هذه مهمة كبرى تتخطّى مقدرات أيّ نص، لكنّني أروي ما كان يحصل معي خلال تحضيري للدكتوراه في الدراسات الإسلامية والفكر العربي الحديث في جامعة السوريون في باريس: كان أستاذي المشرف المستشرق أندريه ميكيل يستقبلني في منزله مرّة كلّ أسبوعين متابعاً موجّهاً . وحين أزوره، كانت تأتي زوجته حاملة كوبين من الشاي فوق صينية قش فتقدّم لزوجها كوباً، وترشف كوبها جانباً في معظم الأحيان بانتظار زوجها الذي يفرغ كوبه وملاحظاته الصارمة . بقينا على هذه الحال خمسة أعوام إلى أن زفّ إليّ موافقته النهائية على طبع الأطروحة وتسجيلها للمناقشة . يومها دخلت الزوجة بصينيتها وفوقها ثلاثة أكواب من الشاي قدمت لي أحدها . صعقت لهذا التحوّل وسرعان ما لملم أستاذي الدهشة النافرة في ملامحي قائلاً: أنت الآن لم تعد طالباً بل زميل له الحق مشاطرتي رشف الشاي، وأصبحت بعد مناقشتي للأطروحة مساعداً له .
أورد هذه القصة للإضاءة فقط على سلطات التعليم الجامعي ودور المناهج الأكاديمية التي يخضع لها طلاّب الدراسات العليا والباحثين الى جانب المناهج التعليمية المكثّفة التي تخوّلهم التعليم العالي، في حين إذا كشفت الأغطية عن تجاربنا في كيفية استيراد الجامعات وتحضير الكثير من شهادات “الماستر” والدكتوراه لأدهشتنا الفوارق وانحدارات الأكاديمية الملحوظة . فقد تحوّلت معظم العواصم العربيّة إلى “سوق” جامعي واسع، بعدما فتحت الدول العظمى أعينها علينا بهدف التغيير الجذري البطيء والاستراتيجي للأجيال في غفلة وارتباك من الأهل والأنظمة التربوية . فالجامعات والمعاهد والبرامج المستوردة تشكّل العتبات التي تضرب في مجتمعاتنا لهذا التغيير عبر إغراءات كبيرة ومساهمات تقنية ظاهرة وتأسيس لفكرٍ متحوّل يصعب رصد تفاصيله وفلسفاته في الجامعات وفروع الجامعات والمعاهد البحثية وفق استراتيجيات غير واضحة المعالم بعد في الذهن التربوي العربي، وهي لا تخضع لشروط التسلّم والتسليم مثل البضاعة . لو أخذنا، مثلاً، المناهج في المغرب العربي قد يستحيل علينا نزع البصمة الفرنسية ووظائفها المتعدّدة من الألسن والنصوص من دون نسيان الآثار الطفيفة للتعريب الذي يمكن إدراجه في رفض الغرب . وهذا أمر ينطبق تاريخياً على المشرق في لبنان ومصر والأردن وتركيا وبعض دول الخليج، حيث يمكن رصد أعداد هائلة من الدول التي تحضن في ديارها جامعات ومعاهد تتجاوز حاجات هذه الدول وتطلّعاتها في زمنٍ متحوّل ومتردّد وغير مستقرّ في هوياته مع الألفية العنيفة .
هذه تجارب تتخطى، الحدود الثقافية والتعليمية والتربوية والفكرية للعرب، على اعتبار أننا في عصر من الفتون بتحولات القشرة تندرج بين صراع الحضارات وحواراتها، وأدواتها الفضلى ليست الأنظمة والبنى السياسية الغارقة في الصراعات الدينية والمذهبية والإثنية الطويلة، بل أحرام الجامعات حيث الشباب الرصيد الأغنى في تغيير البنى الثقافية والاجتماعية التي تتوخى خلخلة معظم المفاهيم والأعراف السائدة . نحن في زمن متداخل بين الاستشراق والتغريب والأسلمة في أرض يعتورها الاستسلام للحروب والفوضى المنظّمة التي يصعب رصد “ثمارها” . هناك بلدان عربيّة شكلت نماذج حادّة في اعتماد المناهج المصفّاة الهادفة والمغمسة بالإيديولوجيا الدينية أو السياسية بغية تحديد الوظائف التعليمية المحدّدة للأجيال، لكنها بلاد تمّت تصفية معظم مادّتها الرمادية أي الأدمغة والمخترعين والمفكّرين فيها، أو رحّلت كما حصل في العراق أوفي سوريا ولبنان ومصر ومعظم العواصم المتأرجحة بين الدم والخوف منه . ألسنا نقيم جميعاً في مرجلٍ من الغليان الرهيب الذي يحجبنا عن المتغيرات في مناهج الدراسة والمستقبل وقد ينزلق متناولها في الخطابية والارتجالية؟ ألسنا في خروج من فكرة الوطن إلى فكرة العالم العربي ومن جامعة الدول العربية الى جامعتين أو أكثر ومن جامعات العرب الى ألوف بين وطني ومستورد؟ لست من المتفائلين بمجايلة زمن قد تصبح فيه الجامعات أعرق من البرلمانات أو المؤسسات أوالأنظمة، بل زمن يستحيل فيه البحث في الهوية ولو بصيغة المفرد لا بصيغة الجمع وهنا الكارثة الكبرى . نحن في عصر تتقدم فيه الخبرة على المعرفة والأبناء على الآباء .
وقد يكون مفيداً الانخراط أكثر في حقول الخبرة والمختبرات والتقنيات من دون أن تهمل المعرفة التي يفترض أن تؤمن في هذا العصر تراكميتها من خلال التقنيات والتجارب البحثية . فقد أصبحت التقنيات مطراً يهطل طيلة العام لا يمكن حجبه، وتسقط المنابر والمكاتب وصفّ التلامذة والطلاّب كما القطعان، وتعصف بأحرام الجامعات والجامعيين سعادة التحاور والتجادل والتكامل والتصويب . فالفريق البحثي لا الصف هو الجوهر، وقد يشارك الطلاب في تغيير المناهج وفقاً للحاجات ولأسواق العمل المفتوحة على العالم ولنوافذ الشبكات الاجتماعية المشرّعة على كلّ شيء، والحجب فيها يولّد السرّ لديهم وفي الأسرار تكمن الرغبات والخروج من الجماعة كما من الذات .
قد يجد المنظّرون المتشبّثون بالمنابر أنفسهم منصاعين حتماً إلى اللهاث وراء التقنيات بهدف المعرفة العالمية الحديثة ولكنهم قد يتلمسّون الفشل الشائك إذ يتحوّل الطالب أستاذاً . وقد نجد الشرق غرباً من حيث الشكل، في حين قد نجده منكفئاً في جمود مخيف . معظم أبناء العرب يحلمون بالتعليم العالي والاختصاص في جامعات الغرب حتّى الذين تربّوا في مناخات عربيّة معادية لهذا الغرب، لماذا يأتون إلينا لنتغيّر في مطارحنا لا نحيد . لا أعتقد أن انتقال الجامعات الى بلادنا يفي بالأحلام العربيّة بمستقبل عربي، لأن القشرة سرعان ما تسقط وعندها تبدو الإجابات عمّا نحن فيه من سابع المستحيلات . وكي لا تكون محاولتي الإجابة عن السؤال المطروح مفعمة بجلد الذات، فإنني ألفت الأنظار بين المراهنين على التغيير ليس عن طريق الغرب كما هو، ولا عن طريق الدم ولا عن طريق الساحات الثائرة، بل عن طريق الأبناء والأحفاد حين نعرف أين هم وبماذا يلعبون صغاراً وكيف تصقل مصطلحاتهم ورؤاهم في الجامعات في الداخل كما في الخارج منفصلين ومندمجين .
نحن أمام أجيال تدمج الغرب بالشرق بعدما انقرض مصطلح العالم الثالث نهائياً، ولربّما نراها تتهادى واعية وتتشارك في مصطلحات العالم الجديد ومفاهيمه ووضع استراتيجياته . يخطئ من يحصر التحولات بالشرق الأوسط وحسب، لأنها على مستوى الكوكب، ولا يستطيع أحد أن يقيس الزمن الذي سنصل فيه إلى التغيير الحقيقي إلاّ بالانكباب على أجيالنا الجديدة، إذ نخطو الى الخلف ونصطفّ في بقع تتجاوز في قساوتها السجون .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2165247

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2165247 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010