السبت 7 كانون الأول (ديسمبر) 2013

الفرصة الدوليّة للتفكير

السبت 7 كانون الأول (ديسمبر) 2013 par نسيم الخوري

بين تجهيز الطاولات وجداول الأعمال، وبين الإجهاز على الأرواح وقوائم القتلى، يقيم العرب في ما أسمّيه الفرصة الدولية للتفكير، وهي من أقسى الأزمنة . فقد يرى الناظر من بعيد إلى خارطة الوطن العربي، أعني عذراً “العالم العربي”، مشهداً تسيل منه القلوب مدمّاة . تتوالى التفجيرات والخرائب العارمة في عدد من عواصم العرب في الشرق الأوسط، وتشتعل النيران بالمواطنين الأبرياء، وتندفع فئات كبيرة متعدّدة محكومة بالسذاجة إلى تعميم ثقافة القتل والاغتيال المتنوّعة والاندثار من دون دراية بأنّها تريق الأوطان والدماء لحساب الغير . أمّا العقل العربي، فيبدو مشغولاً، من ناحية، بتتبّع التوترات والأزمات المتفشّية والأحداث العسكرية المعقّدة والانتظارات الظرفية، بينما يبدو من ناحية أخرى متلهياً في المقاهي والمنتديات وحلقات النقاش بنبش تراثٍ ثقيل من مصطلحات التعايشات الجديدة التي تبدو كأنّها مستحيلة أو محكومة بالانصياع لإرادات الغير ومصالحه في مسيرات التغيير .
هذا التراث المستورد أشبه بشجرةٍ يتخيّل متظلّلوها أنّها تقيهم الحرائق والمتفجّرات، لكن كلّما تيقنّا من يباسها ودفع حطبها إلى المواقد، وجدنا أيادي مجهولة غريبة تمتدّ مجدّداً من تحت التراب، تنفض يباسها، وترسم أوهام الخضرة فيها فترفعها حيّةً في الذاكرة الجماعية: مسلم سني، ومسلم شيعي، وعلوي وزيدية ومسيحية وإسلامية، وأحاديث واجتهادات تقفز بين المعلومات والتحليلات لتصبّ في ما يعرف اليوم بتحالف الأقلّيات الذي يقرب من الخيال، إن لم يكن من منطق الوقائع العابرة . فماذا يعنينا الصعود إلى القمر في التفكير أو التغطّي بهدأته إذا كان هذا الصعود سيقودنا حتماً إلى الانتحار؟
لا يعني القتل في القاموس الدولي شيئاً، ولا يعني الدمار سوى خلق فرص للشركات والمصانع لإعادة البناء، ولا يعني تبادل الاتهامات بالتفجير شيئاً بين دول المنطقة وأنظمتها وأحزابها وطوائفها وفصائلها، ولا يعني ثقل مصائب الحروب في أرض الغير شيئاً ولا استمرارها في الزمن لأنّها أسواق سلاح، يعنيها شيء واحد إذا كانت استطالتها تعطي الإدارة الدولية الكبرى فرصةً للتفكير، خصوصاً عندما تصقل أوتاد المصالحة في أرض المعارك .
نحن، إذاً، بالمفهوم الدولي في مرحلة مؤتمرات المصالحات العنيفة، أو في زمن السلام الدموي، أو المرحلة الأعنف التي خبرناها تماماً في لبنان قبل التوجه إلى مؤتمر الطائف وفي خلاله . وقد لا تنتهي الأمثلة المشابهة التي شهدناها قبل “ثورات العرب”، ضد النظام في فيتنام وكمبوديا ولاوس والكونغو واليونان والشيلي وغواتيمالا وأنغولا والسلفادور ونيكاراغوا وباناما والجمهورية الدومينيكية وغرينادا وليبيا والخليج العربي وكوريا ولبنان، ومن بعدها في العراق وتونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، وبلدان ناشئة كثيرة أسهمت واشنطن في إطاحة الأنظمة فيها بهدف استبدالها إمّا بديكتاتوريات عسكرية، أو ب“ديمقراطيات” غير شفافة لا يمكن سوى أن نركنها بين قوسين . يكفي استرجاع ما كتبه الجنرال الأمريكي جون ستوكويل، في وكالة الاستخبارات المركزية، في كتابه “البحث عن الأعداء” وهو من الضبّاط الذين استنكروا علناً العمليات السرية التي كانت تقوم بها الوكالة التي“أجرت اكثر من ثلاثة آلاف حملة أساسية منذ تأسيسها رسمياً عام ،1947 وبلغت حصيلة القتلى الذين قضوا مباشرة نتيجة هذه العمليات أكثر من عشرة ملايين”، ومن شاء الحساب فليمسك قلماً وورقة صعوداً فيضاعف الرقم منذ سبتمبر/أيلول 2009 حتّى اليوم .
يكفينا لكي نفهم تلك المرحلة من العواصف العربية والإقليمية الحافلة بجنيف وانتظاراتها فلسطينياً وسورياً وإيرانياً وتركياً و“إسرائيلياً” وعربياً وإسلامياً ومسيحياً، تلك الجنيف التي لا بدّ أن ننتظرها طويلاً في زمن السلام الدموي العنيف، يكفينا أن ننقل بعض ما كتبه هذا الضابط الأمريكي بعد استقالته من مستنقعات الدماء في أنغولا في وثائق الحرب الأنغولية: “كأن هناك شيئاً لم ينضج بعد في الذهن الأمريكي . فعند انسحاب البرتغال، باتت أنغولا بركة واسعة من الدماء تتقاتل فيها قوى ثلاث، واختلف الرأي الأمريكي حول الأسلوب المعقول في التصرّف والمعالجة، إلى أن توصّل مجلس الأمن القومي الأمريكي إلى قرارٍ غريب: اتركوا هذه القوى تتقاتل، وساعدوا أيّ طرف منها بالطريقة التي تجعله يستمر في القتال . لا يفترض بنا حسم الموقف، حتّى انتهاء انتخابات الرئاسة الأمريكية بين فورد وكارتر، وإلى حين نسترد حرّيتنا في القرار والعمل” . تلك هي فرص التفكير الدولية التي يغيب فيها الموت ويفرغ من معانيه حتّى ولو تمزّقت البلدان من الداخل بأيدي أهلها، طالما لم تتّضح المصلحة والحصص بشكلٍ واضح وأمين . بهذا المعنى نفهم كيف امتدّت الحرب الأهلية الأنغولية ثلاثة عقود تقريباً منذ بداية 1974 إلى نهاية ،2002 بين المعارضة التي قادها جوناس سافيمبي الذي كان مدعوماً من الصين و“إسرائيل” والولايات المتحدة، وبين الجيش الشعبي الأنغولي الذي كان مدعوماً من روسيا وكوبا وليبيا والجزائر . بلغ المقاتلون حدّ الإعياء، وانتهت الحرب بمقتل جوناس سافيمبي ونهاية المعارضة المسلحة المعارضة للحكم الشيوعي، ووصول الجيش الأنغولي المدعوم من روسيا إلى الحكم .
نحن في مرحلة مشابهة من التفكير الدولي الذي يوحي للعالم بأنّه يمنح فرص الحسم في عواصم العرب المنكوبة لأهلها، خصوصاً في سوريا كمثالٍ للإمعان في تأليب الدول والأنظمة والأكثريات والأقليات على بعضها بعضاً فتزيد الشروخ والفتن . لكن سواء كتبنا العالم العربي أو الوطن العربي والإسلامي، فهي مساحات تحمل دمغة البشرية عبر الديانات التوحيدية الثلاثة منذ آلاف السنين وهي غنيّة جدّاً بالأقليّات الدينية والمذهبية، من دون نسيان الأقليات العرقية والقومية التي يعني استمرارها وعقلانيتها نوعاً من التعدّد في إطار الوحدة التي لن يجرفها التاريخ، إذ تسير وفق رياح التغيير بحكمة لطالما تحوّلت فيها مراكز السلطات والقرار من العراق شرقاً إلى بلاد الأندلس غرباً، وهو أمر ليس من قدر العرب والمسلمين وحسب، بل من قدر التاريخ حفلت به بلدان أوروبا وما زالت . لا يندرج ارتفاع النبرة واحتداد النقاش في تحالف الأقليات إلاّ في إطار استخدام السلاح الدولي القديم القائم على إثارة الفتن والمشكلات والتمزّقات في الداخل، ودفع المنطقة العربية والمسلمين إلى مزيدٍ من التشظيات والحفاظ على معظم الأدوات وأسباب الصراعات القديمة التي كاد ينساها الناس والحؤول دون الحركات والأفكار الجديدة من أن تأخذ طرقها بالتطور والنمو الطبيعيين، بل دفعها بكلّ الأساليب إلى الوقوع في أسواق العنف الذي لا يمكن إلاّ أن يستجلب الخارج للاستعانة به والوقوف أمام أبوابه . ماذا ينتظر هذا الخارج اليوم؟
كعادته ينتظر فرصاً للتفكير تتوسّع اليوم أكثر، خصوصاً عندما عادت تتكاثر الدول الكبرى المتغامزة ويتحاشر ممثّلوها ويتناكزون خلف المنابر الدولية . قد يروّجون في الأرجاء أنّهم على طريق الاكتفاء الذاتي في موضوع الطاقة البترولية، أو أنّهم لا يترددون في حرق بترولنا بالفتن أو بالأسعار للسيطرة على الأسواق، لكنهم مسكونون بالزمن القائم أبداً على سحب بترولنا حتّى النقطة الأخيرة بمختلف الأساليب والحروب وفرص التفكير والانتظار .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2178295

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2178295 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40