الجمعة 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013

الاستقلال الوطني والتعاون الإقليمي العربي

الجمعة 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 par رغيد الصلح

لست أعتقد أن أحداً من القيادات الاستقلالية اللبنانية تصور أن الأوضاع في لبنان سوف تصل إلى هذا الحد من التدهور، وإلى أن بلدهم سوف يتعرض إلى هذا النوع من التحديات والأخطار، وأن ذكرى الميلاد السبعين لدولة الاستقلال سوف تصطبغ بالدماء . فالتخلص من نظام الانتداب نفسه تم بأقل ما يمكن من الخسائر البشرية، ولكن إذا لم يدفع لبنان ضريبة الدم ثمناً لاستقلاله فإن ذلك لا يقلل من أهمية ذلك الإنجاز الذي حققه اللبنانيون قبل أمم كبيرة ودول عريقة مثل الصين والهند واندونيسيا، والذي سبقته حوارات فكرية ومناقشات مهمة تضيف إلى ثروات لبنان المعنوية والفكرية العديد من الخبرات والمعارف . ولقد تطرقت هذه المناقشات والحوارات إلى أهم قضايا الأمن والحرية والتقدم، ومرت بثلاث محطات رئيسية في تاريخ لبنان وربما المنطقة العربية .
كانت المحطة الأولى هي تحرير لبنان من نظام الانتداب والحماية الأجنبية . ولقد سقط هذا النظام بعد أن سقطت فرنسا نفسها عام 1940 في قبضة الاحتلال الألماني والمتعاونين معه من الفرنسيين بزعامة الجنرال بيتان . ولكن ذلك وحده لم يكن كافياً ليخلص لبنان ويضمن حريته لولا تمسك الاستقلاليين اللبنانيين بالاستقلال، وقد أرادوه ناجزاً غير مقيد بأي شكل من أشكال الانتداب والوصاية والتبعية . لذلك أعلن الزعماء الاستقلاليون عندما طلب منهم الفرنسيون ومعهم الحلفاء توقيع معاهدة مع فرنسا أن لا امتياز ولا مركز ممتاز لأية دولة أجنبية .
ولكن هل كان الاستقلال الناجز كافياً لضمان حرية لبنان وأمنه وسط أعاصير الحرب والتقلبات العالمية ومشاريع الصهيونية التي كان من بينها أطماع صريحة في مياه لبنان وبناء مستوطنات في جنوبه، كما جاء في مراسلات حاييم وايزمان مع الحلفاء؟ كان زعماء الاستقلال يعرفون أن الطريق الأفضل للوقوف في وجه هذه التحديات هو التعاون مع الدول العربية الأخرى لتحقيق هذه الغاية، لذلك عندما دعت مصر إلى “مشاورات الوحدة العربية”، وافقوا على مختلف اتجاهاتهم، على المشاركة في هذه المشاورات التي شكلت المحطة الثانية في الرحلة التكوينية للاستقلال . ولكن قادة الاستقلال انقسموا هنا إلى فريقين:
الأول، تمثل بالزعماء اللبنانيين الذين رحبوا بالدعوة إلى التعاون العربي المتضمن بعض عناصر الكيان الكونفدرالي . تعبيراً عن هذه النظرة، توصلت الحكومات العربية خلال اكتوبر/تشرين الأول 1944 إلى ما دعي ببروتوكول الإسكندرية . وقد تبنى البروتوكول هدف التنسيق بين الدول العربية القائم على التوافق فيما بينها، مع اعتماد التصويت والإلزام في بعض الحالات وخاصة التحكيم في حالات النزاع بين دولتين عربيتين أو أكثر .
الفريق الثاني تمثل بالزعماء الذين عارضوا بروتوكول الإسكندرية لأمرين: أولاً، لأنهم اعتبروه وثيقة فدرالية تمهد لتأسيس كيان عربي فدرالي يضم لبنان . ثانياً، لأنهم اعتبروا أنه حتى لو كان مشروع كونفدرالية فإنه يمكن أن يتحول مع الزمن إلى فدرالية تقضي على استقلال لبنان . ونجح هذا الفريق في إبعاد الفريق الأول عن محادثات تأسيس الجامعة ولعب دوراً رئيسياً في تحويل مشروع الجامعة من كيان فدرالي إلى “مؤتمر دائم للحكومات العربية”، أي إلى أدنى صيغة من صيغ التعاون الإقليمي .
هذه النتيجة تعيدنا إلى الإشكالية التي طرحناها أعلاه: لقد تمرد اللبنانيون على نظام الانتداب، وتخلوا عن المطالبة بالحماية الأجنبية والغربية تحديداً، وعرقلت الحكومة اللبنانية قيام نظام إقليمي عربي فاعل فكيف للبنانيين أن يصونوا استقلالهم من التحديات؟ وما الخيار الذي عثروا عليه بديلاً عن نظام الانتداب والحماية الغربية أو عن السلام الإقليمي أو بالأصح العربي؟
وفّر مؤتمر تأسيس هيئة الأمم المتحدة عام 1945 فرصة مناسبة للتطرق إلى مثل هذه الموضوعات . خرج مؤتمر سان فرنسيسكو بمساومة بين ممثلي القوى العظمى التي أرادت تجديد نظام الانتداب وتكريس دورها كقيم على أمن المجتمع الدولي، وبين الدول الصغيرة التي دعت إلى الاعتراف بحقها في إقامة تكتلات إقليمية مستقلة خارجة عن سلطة القوى العظمى وهو ما تكرس في الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة . بيد أن هذا الاتفاق حول التكتلات الإقليمية في العالم ترك ثغرة شغلت عدداً من المعنيين بمصالح الشعوب واستقلالها وحريتها ومن علماء السياسة الدولية . فما هي هذه الثغرة وهل من صلة بينها وبين ما يجري في المنطقة العربية اليوم؟
تجلت تلك الثغرة في اعتبار الهيمنة وكأنها صفة ملازمة للنظام الدولي وحده، وبالتالي فإن الهيمنة الدولية هي التحدي الأكبر الذي يواجه الشعوب والأمم التي تنشد الاستقلال والحرية . ولكن خلافاً لهذه النظرة لاحظ عدد من علماء السياسة مثل هدلي بول أستاذ العلاقات الدولية الراحل في جامعة اوكسفورد وواضع الكتاب الشهير بعنوان “مجتمع الفوضى” وجون مارشهايمر الذي أسهم في وضع الكتاب الشهير حول جماعة الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة، أنه توجد هيمنة إقليمية مثلما توجد هيمنة دولية .
استندت هذه الملاحظات حول أخطار الهيمنة الإقليمية إلى تجارب وخبرات تاريخية في العلاقات الدولية، مثل تجارب الهند مع الباكستان واليابان مع جيرانها من الدول الصغيرة وحتى الصين وألمانيا مع الدول الصغيرة في وسط وشرق أوروبا . كذلك استندت هذه الملاحظات إلى سوابق في العلاقات العربية العربية . ولكن هناك اختلاف بين الهيمنة العالمية والهيمنة الإقليمية . فبين القوى العالمية الكبرى والدول الصغيرة فارق كبير في القوة بحيث لا يسمح لهذه الدول الأخيرة بتحدي الهيمنة الدولية، بينما يقل هذا الفارق عادة بين المهيمن الإقليمي وجيرانه بحيث يسمح لهم بالحفاظ على درجة عالية من المرونة والحرية في علاقتهم بالجار الأكبر . ثم إن اشتراك دول الإقليم الواحد تشترك في المصير والثقافة واللغة كما هو الأمر في أمريكا اللاتينية والمنطقة العربية يخفف من الشعور بالتمايز ويسهل تقديم التنازلات المتبادلة بين الدولة المهيمنة وجيرانها الصغار بينما لا يتوفر مثل هذا الشعور بين قوة الدولة المهيمنة والدول الصغيرة التي تهيمن عليها .
فضلاً عن هذه الفوارق التي تلعب دوراً مهماً في قبول الدول الصغيرة التعاون مع مهيمن إقليمي بينما ترفض التعاون مع مهيمن عالمي، فان هذه الدول الصغيرة كثيراً ما تشعر بأن انخراطها مع المهيمن الإقليمي في تكتل واحد سوف يساعد على ضبط تطلعات الهيمنة عند الدولة القوية . هذا الشعور لعب دوراً رئيسياً في حث البلاد الواطئة (هولندا، بلجيكا، لوكسمبرغ) في أوروبا على المساهمة مع ألمانيا في تأسيس السوق المشتركة، ويجعل سنغافورة تتحمس لتنمية رابطة دول جنوب شرق آسيا . إن بعض الدول العربية الصغيرة تعاني في علاقاتها مع جاراتها الأكبر والأقوى منها توترات ومشكلات، فهل تدرك هذه الدول أن تعزيز جامعة الدول العربية ومؤسسات العمل العربي المشترك يحد من نمط الهيمنة، ويعزز الطابع التعاضدي للعلاقات العربية العربية؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 6 / 2165364

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165364 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010