الجمعة 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013

وعد بلفور . . هبة العنصريين الأوروبيين إلى الصهيونية

الجمعة 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 par رغيد الصلح

طالبت قيادات فلسطينية بريطانيا، لمناسبة انقضاء 96 عاماً على صدور وعد بلفور، بالاعتراف بمسؤوليتها في وقوع المأساة التي حلت بالشعب الفلسطيني، وبالاعتذار إلى الفلسطينيين عن الانتهاك التاريخي لحقوق شعب فلسطين، والتعويض عما لحق به من جور وظلم عن طريق دعم حقوقه التاريخية .

لا ريب في أن القيادات الفلسطينية هي على حق في تأكيدها على دور وعد بلفور في قيام الكيان العبري، وفي مغزاه كتعهد يتناقض مع كل الوعود التي أعطيت إلى العرب خلال الحرب العالمية الأولى . ولا ريب في أنه من المناسب أن تستفيد القيادات الفلسطينية والعربية من الذكرى لكي توضح للبريطانيين مسؤولية الحكومات البريطانية، وليس العرب والفلسطينيين خلال العهود الماضية عن التدهور في العلاقات العربية - البريطانية . ولئن كان في بريطانيا من يضيق بالعودة إلى وعد بلفور وإلى الحديث عن مساوئه وأضراره من السياسيين، ولئن كان موقف هؤلاء عائد إلى أنهم يريدون استمرار السياسة التي مثلها ذلك الوعد المشؤوم تجاه العرب والفلسطينيين، فإن بين البريطانيين اليوم حركة نشطة ترمي إلى نبذ سياسة وعد بلفور، وتعمل على تصحيح نتائج تلك الواقعة التاريخية .

تتمثل هذه المحاولة بما تقوم به منظمات مدنية عريقة بين الاتحادات العمالية وأساتذة الجامعات ومنظمات سياسية وأهل الفكر والمؤسسات الكنسية من نشاط حثيث ومبادرات لا تنقطع عن مناصرة نضال الفلسطينيين والعرب ضد المشروع الصهيوني التوسعي . وإذ تستند هذه المواقف والمبادرات إلى منطلقات أخلاقية راسخة ونهج إنساني عميق، فإنها تتطلع إلى التخفيف من آثار وعد بلفور في العلاقات البريطانية - العربية . وتستفيد هذه الجماعات من تسليط الأضواء على الأضرار التي ألحقها وعد بلفور بالفلسطينيين وعلى آثاره السلبية في العلاقات البريطانية - العربية، لأنه يساهم معها في تفسير موقفها الراهن من الصراع العربي- “الإسرائيلي”، ويقدم حججاً إضافية وتاريخية على صواب موقفها الداعي إلى اتباع سياسة منصفة تجاه الفلسطينيين .

ولكن في الوقت نفسه الذي يحمل فيه العرب والفلسطينيون بريطانيا مسؤولية كبرى في نجاح المشروع الصهيوني على حساب الآمال الفلسطينية الوطنية المشروعة، وعلى حساب أمن واستقرار المنطقة العربية، فإنه من الضروري أن نضع وعد بلفور في إطاره القاري الأوروبي . لقد أعطي الوعد على خلفية الصعود المتزامن في أوروبا خلال القرن التاسع عشر للنزعة العنصرية، وتبلورها في مبادئ الداروينية الاجتماعية، جنباً إلى جنب مع تعمق الإمبريالية الأوروبية . وكانت بين التيارين نقاط تقاطع عديدة من بينها العداء للسامية وتحقير اليهود الأوروبيين والمطالبة بإخراجهم من القارة الأوروبية أو حتى بإبادتهم .

ولقد انقسم اليهود الأوروبيون، حيال هذه الظاهرة، إلى فريقين: واحد اندفع إلى مقاومتها عبر التأكيد على انتمائه الوطني إلى دول القارة والإنساني عبر انخراطه في الأحزاب والحركات الأوروبية ذات الطابع الإصلاحي والتنويري . وقد وقف العديد من هؤلاء ضد المشروع الصهيوني وناهضوه بقوة كما فعل لورد مونتيغيو، وزير الدولة لشؤون الهند في حكومة لويد جورج التي أصدرت وعد بلفور . لقد انتقد مونتيغيو، الوزير اليهودي الوحيد في تلك الحكومة، الوعد بحدة بقوله إنه طالما ناضل ضد عقلية الغيتو، وإن الوعد سوف يرسل اليهود لكي يعيشوا في غيتو دولي في فلسطين . أما الفريق الآخر، فقد اعتنق مبادئ الصهيونية التي لم تكن تتناقض مع مبادئ العنصريين الأوروبيين، إذ إنها هي الأخرى كانت تدعو إلى ترحيل اليهود من القارة الأوروبية إلى المشرق العربي . من هنا كنا نشهد التعاطف المعلن بين الأوروبيين اللاساميين، من جهة، والحركة الصهيونية من جهة أخرى إلى درجة أن دراسات وأبحاثاً كثيرة كانت تشير إلى أن غلاة المؤيدين للحركة الصهيونية، مثل بلفور وونستون تشرشل، كانوا هم أنفسهم من المعادين للسامية .

لقد انتشرت اللاسامية في أوروبا الشرقية حيث تكررت البوغرومات - أي المذابح - ضد اليهود . وانتشرت اللاسامية في غرب أوروبا، كما تدل محاكمة درايفوس الشهيرة، وهو ضابط يهودي فرنسي حوكم بتهمة تسريب معلومات إلى الألمان . وتحولت المحاكمة إلى موقعة فاصلة بين اللاساميين، من جهة، ودعاة المساواة بين سائر الأديان في فرنسا من جهة أخرى . برزت خلال المحاكمة قوة التيار الأول، إذ أرسل درايفوس إلى السجن رغم الدلائل القوية التي كانت تؤكد براءته من التهمة . وكانت هذه الموقعة من الأهمية بحيث إنها أقنعت الصحفي النمساوي اليهودي هيرتزل بأن الصهيونية هي الحل الوحيد للمسألة اليهودية .

وانتشرت اللاسامية في ألمانيا، بحيث كان القيصر وليم من المتعاطفين معها إلى درجة أنه نسب إليه تأييده للخلاص من اليهود . في الوقت نفسه تحولت ألمانيا إلى مركز لأهم المنظمات الصهيونية التي سعت إلى كسب تأييد الدولة الألمانية والقيصر الألماني وليم بصورة خاصة . كذلك لم يكن غريباً أن ينجح الصهاينة في كسب تأييد بعض المسؤولين الألمان ودعمهم لمشاريع الاستيطان في فلسطين . هذا ما لمسه الفلسطينيون الذين توفرت لديهم أدلة على أن بعض المسؤولين الألمان المتعاطفين مع الصهيونية حملوا الإدارة العثمانية في فلسطين على التساهل مع المستوطنين الصهاينة .

إن هذه العلاقات لم تكن لتشكل معلماً مهماً في تقديم الدعم إلى المشروع الصهيوني، ولكنها اكتسبت هذا الطابع مع وصول الهتلريين في مرحلة الثلاثينات إلى السلطة في ألمانيا . فعقب هذا الحدث تم توقيع معاهدة “التسفير” بين النازيين والمنظمات الصهيونية الألمانية، وارتفعت نسبة المهاجرين الألمان إلى فلسطين خلال الثلاثينات . وهذا التطور في العلاقات الألمانية - الصهيونية كان هو السبب الأبرز لوقوع الثورة الفلسطينية عام 1936 ولاستمرار هذه الثورة لمدة سنتين، تخللها تعاون حثيث بين النازيين والصهاينة .

إن المحطات الأوروبية المتعددة التي مرت بها الحركة الصهيونية قبل تحقيق هدفها في إقامة الكيان العبري لا تقلل من أهمية وعد بلفور ومن أثره في مآل المشروع الصهيوني، ولكنها تدلنا على أن الصهيونية لم تكن ربيبة بلد أو دولة معينة، وإنما هي الابن الشرعي للعنصرية الأوروبية وللعداء للسامية . لقد دفع العرب واليهود الأوروبيون معاً ثمن انتشار هذه العنصرية، ولسوف تستمر هذه المأساة إلى أن تتحرر فلسطين من الصهيونية والاحتلال ومظالم العنصرية ونظرتها البائسة تجاه البشر .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2165274

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2165274 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010