الأربعاء 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013

الانتصار والانكسار في لغة الدول العظمى

الأربعاء 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 par نسيم الخوري

ليس هناك، في قاموس الدول العظمى، من منتصرٍ أو غالب يتباهى برفع علامة النصر في وجه العالم أو منكسر ذليل ومغلوب مهمل في الزوايا . هناك لياقة مصالح كبرى، إن لم نقل دبلوماسية عالية المستوى، لا يعرفها الصغار، تحكم أصول التعامل في الأرباح والخسائر بين روسيا وأمريكا، إذ يحافظ الخصم على هيبة خصمه عندما يتراجع . ويليق بنا أن نخلع من أذهاننا فكرة أن تهين دولة عظمى دولة عظمى أخرى أو تكسر عزتها أو عظمتها مهما احتدت الخصومة والصراعات أو حروب الحلفاء . وهنا ثلاثة أفكار:

1- إن منتصرين كبيرين يخرجان من سوريا هما روسيا وأمريكا، وكلاهما يحافظ على صورة الآخر وهيبته ويغطي هزيمته فلا يعرّيه . فالتراجع وتغيير المواقع مقبول ومفهوم ومبرر خصوصاً لدى السياسيين الكبار في عراقتهم ومواقعهم، ولو حكمتهم المصالح . يؤخذ على الرئيس سليم الحص، مثلاً، تمسكه الشديد بالمبادئ والأخلاق في ممارسة السياسة، فيقال بأنه دكتور وأكاديمي على قاعدة أن الجامعات غالباً ما تفرز رجالاً يتشبثون بالمثل وتراهم مقبولين من عامة الناس ومقنعين في نقد التواءات السياسة وفسادها لكنهم مدانون من محترفي السياسة .

وقد سبق لأمريكا وروسيا أن خرجتا منتصرتين من جروح الحرب الكونية الثانية، لكن اندحار دول المحور وضع الدولتين في صراع أدى إلى تجزئة العالم وجذب الدول الإقليمية والصغيرة والأفراد إلى فلكيهما في بناء السياسة الدولية وتقاسم النفوذ والمصالح . وكان الشرق الأوسط نقطة الجذب الثمينة، لا بكنوزها الدينية، بل بثرواتها النفطية، بالرغم من التقارير التي تبشر أحياناً بكساد النفط والاستغناء عنه بطاقات بديلة كأدوات ضغط على الدول النفطية بهدف استمرار تعاونها .

صحيح أن الحروب المشتعلة بالوكالة بين الدولتين العظميين عبر عقود الحرب الباردة (1945 -1991) قد آلت إلى كارثتين: سقوط العراق ودحره في رمل الخليج في 2 أغسطس/ آب ،1990 وسقوط اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية في 25 ديسمبر/ كانون الأول 1991 المتراخي فوق أوراسيا بين 1922 و،1991 غير أن هاتين الكارثتين لم تنسفا احترام الدولتين المتبادل، وهبت موسكو بعد سقوط البرجين في نيويورك 11/9/2001 إلى إعلان تحالفها مع واشنطن لمحاربة الإرهاب .

2- في ضوء هذه الفكرة، ومن نقطة التفاهم بين مبادرة موسكو وواشنطن على إتلاف الكيماوي في دمشق والجنوح نحو إمكانات الحوار في جنيف حول سوريا الذي يبدو عصياً في نتائجه بعد ولو كان ممكناً ومعقداً في انعقاده، تدهشنا “إعصارات” الإعلام العربي التي يغرق الكتّاب والمحللون في حمى حماسية من التشفي السطحي التي تبرز هزيمة أمريكا وانكسارها أو تغالي في المقابل، بانتصار روسيا وتفخيم عظمتها وهي لا تفعل سوى تجذير الانقسامات المحلية وزيادة الاشتعال . هذا الخطاب الاستقوائي بدولةٍ عظمى المحشو بعدائية قاتلة لدولةٍ أخرى لا يعني كثيراً في هويات الأوطان، لكنه يدفع الحنين النرجسي للشعوب إلى الترحم على الماضي الذي لا يعود قطعاً . ولأن التنازلات والحوارات فوق الكوارث لها أعباؤها وآلامها وانفعالاتها وتجعل بعض المسؤولين أحياناً أجساداً بلا أرواح، لا تعنيهم أطنان الآلام التي أورثوها لشعوبهم كما في “ثورات العرب” وكل الثورات والحروب في العالم، فإن هؤلاء لا يعودون ينظرون إلى الواقع إلا بمعنى الغالب والمغلوب أو المنتصر والمهزوم، مع أن أقصى أحلام الشعوب التوصل إلى وقف النار والتحلق حول طاولة للخروج من مواقد النار نحو الاستقرار .

قد يمكن هضم الموجة الإعلامية العاطفية التي تختصر حاجة نشوة الانتصار العابرة، وقد يكون مبرراً ومفهوماً شعور دمشق بأن بوتين كان في عنق الزجاجة وخرج ليدخل أوباما مكانه تدليلاً على قوتها كبقعةٍ موضوعية للأزمة، ولربما تأتي لافتة معادلتنا بأن روسيا تسترجع عظمتها من سوريا أو أن أمريكا تفقد عظمتها من سوريا ومصر، لكن الأهم عدم نسيان خسائرنا أولاً، إذ لم يتغير شيء سوى ازدياد شراسة الإخوان المسلمين الموصول حبل صرتهم بالغرب كما بالفصائل الإسلامية في الدفاع عن الدين، فنغالي رافعين علامة النصر مع أننا ما زلنا في شرق أوسطي من الشوك . تقف موسكو وواشنطن، اليوم، فوق بقعة “أرض” صغيرة وسطية مشتركة اسمها التفاهم مجدداً على محاربة الإرهاب والتطرف الديني .

3- ليس هناك من إشكاليات كبرى في إعلان تغيير المواقف والتحولات لدى واشنطن وموسكو لأنهما تشبهان أساطيلهما في المتوسط تمخره بحثاً عن العناوين الصالحة لقيادته العصية . الحقيقة أن دورة الأساطيل الكبيرة في المتوسط تستلزم مساحات وأزمنة وجهوداً تقنية وأعرافاً سياسية دولية مثقلة بالألغاز وعدم التسرع لأنها لا تتبدل كل يوم، وهي تختلف في دورانها عن حركات السفن والقوارب الصغيرة فوق سطح الماء . صحيح أن أمريكا كابدت ارتباكاً ملحوظاً في سياستها الخارجية، بعدما خرجت من أزمتها الداخلية مجددة ديونها وجدول تمويل مصاريفها، لكنها لم تسف قط فوق شفتي الروسي أو حياله . هكذا نفهم، مثلاً، كيف رفض مجلس العموم البريطاني المشاركة في ضرب سوريا فقيل بأنه أحرج أمريكا التي رمى رئيسها بقرار الضربة إلى الكونغرس .هكذا نلج عتبةً من التثاقل والجمود والقتال الشرس تختلط فيها المعارك بالمفاوضات بالتنازلات الحاملة معاني الانتصار قبل أن يتحاشر الأحلاف فوق المساحة الصغيرة المتاحة لوقف إطلاق النار الذي يستوجب، في رأيي، السكون والجمود ووقف اللغو السياسي في معاني الانتصار والانكسار عند الكلام عن الدول الكبرى .

drnassim@hotmail.com



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2165521

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2165521 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010