الثلاثاء 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2013

تبدلات سريعة فوق لوحة الشطرنج

الثلاثاء 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 par د. يوسف مكي

آخر المشاهد في الساحة الدولية، اتهامات ألمانية وفرنسية وإسبانية، للاستخبارات الأمريكية، بالتجسس على قادتها، واعتراف الأخيرة بأنها نفذت ذلك، مع تقليل من شأن هذا السلوك . هل هي فعلاً المرة الأولى التي يكتشف فيها حلفاء أمريكا تجسسها على قادتهم، أم أن أوضاع أمريكا المتردية سياسياً واقتصادياً، تسمح بالمجاهرة علناً بنقد سياساتها؟

أتت هذه الاتهامات، مع تغيرات سريعة في السياسات الدولية، لعل أبرز ملامحها التحول المفاجئ في السياسة الأمريكية، تجاه المسألة السورية، والعلاقة مع إيران، والصدامات بين الجماعات المسلحة في سوريا، وانتزاع ما يدعى بالدولة الإسلامية في العراق والشام، مناطق من الجيش الحر، ما اضطر أعداداً كبيرة من مقاتليه للجوء إلى الأكراد وجيش النظام في عدد من المحافظات هرباً من القتل .

في هذا الحديث نعمل على قراءة لوحة الشطرنج، ومن يحرك بيادقها، ونحاول فك طلاسم المشهد السياسي على رقعتها . ولا مفّر من نقطة بداية نرتكز عليها . وفي هذا السياق ربما يكون خطاب الرئيس الروسي بوتين، في مجموعة العشرين أهم مظاهر التغيير في التوازن الدولي، خلال الأسابيع الأخيرة . فهذا الخطاب هو الأول من نوعه، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي . ففيه إعلان صريح بعودة روسيا بقوة إلى المسرح الدولي، ليس كشريك لأمريكا، بل كمنافس وقائد لكتلة قوية، تتصارع معها في المصالح والمواقف والاستراتيجيات، وتستعيد روح التعددية القطبية .

مسلسل الأحداث طويل ومتشابك، ويحمل في تمظهره كثيراً من الطلاسم، لكن السياسة هي في النهاية وعي بما يجري وصراع إرادات وقدرة على الفعل، والاستراتيجية الصحيحة هي التي تفي بمتطلبات الإرادة والفعل .

الموقف الروسي الصلب من المسألة السورية، وإعلان بوتين الصريح، استعداده للذهاب في المواجهة مع الغرب لآخر الشوط، دفع بالأمريكان والروس للخروج بصفقة، نزع السلاح الكيماوي السوري، مقابل إيقاف الضربة العسكرية، وبهذا اختزلت الأزمة بنزع هذا النوع من السلاح . لكن للسياسة والمصالح أحكامهما .

مكالمة الرئيس أوباما مع الرئيس روحاني، نقلة استراتيجية، تحقق جملة من الأهداف الأمريكية . فهي تعيد تشكيل القوس المحيط بروسيا، بما يجعلها مهددة مباشرة في خاصرتها . وإيران تشكل منطقة عازلة بين الدب القطبي والمياه الدافئة في الخليج العربي، وتؤمن الطريق البري لشرق آسيا، وأخيراً، توجد بديلاً عن مصر، في حال وجود عوامل مانعة من استمرار التحالف الذي مضت عليه قرابة أربعة عقود بين مصر وأمريكا .

التحالف مع إيران، لن يكون مكلفاً اقتصادياً لأمريكا، فثرواتها تتكفل بصيانة أمنها القومي، في حين أن العلاقة مع مصر، ليست فقط مكلفة بسبب وضعها الاقتصادي المتردي، وأزمة أمريكا الاقتصادية، ولكنها ليست مضمونة النتائج أمام التحولات التي تجري سريعاً، واحتمال عودة الجيش المصري بقوة للواجهة السياسية، حيث تشير التقديرات إلى أن الرئيس القادم لمصر، هو الفريق عبدالفتاح السيسي .

يجرنا ذلك للموقف الروسي من المشروع النووي الإيراني . لقد بدت إدارة بوتين في الأيام الأخيرة، أكثر تشدداً تجاهه من نظيرتها الأمريكية، رغم أن ما قدمته سابقاً من تسهيلات لحيازة طهران هذا النوع من التكنولوجيا، ليس قليلاً . لكن الفرق كبير، بين أن تكون إيران صديقة لروسيا ومعادية للغرب، وبين أن تنعكس الصورة .

إن ذلك يعني بداهة، أن روسيا ستكون محاطة من الجنوب بقوة نووية، وهو ما لن تسمح به مطلقاً إدارة الرئيس بوتين . في هذه النقطة تحديداً تلتقي سياسة دول الخليج العربي مع الموقف الروسي . وسيجد الكيان الصهيوني في موقف روسيا الحاسم من امتلاك إيران للسلاح النووي إنقاذاً لتفرده بامتلاكه .

موقف روسيا من الأزمة السورية، لن يضيف جديداً لخريطة الصراع الدولي، ما دامت القوى الكبرى، أعلنت صراحة أن لا حل عسكرياً للأزمة، وأن الطريق المتاح هو مؤتمر “جنيف -2”، بما يجعل الموقفين الأمريكي والروسي متوازيين، بفارق أن الأمريكيين يرون تحقق مصلحة المعارضة، من خلال الالتحاق بمؤتمر جنيف .

في الأيام الأخيرة أيضاً، نلحظ تطورين مهمين: إعلان الاتحاد الأوروبي استحالة انضمام تركيا له . يأتي ذلك بعد فشل جماعة الإخوان المسلمين، في تأسيس إمبراطورية، تكون تركيا قطب رحاها . ويتزامن ذلك مع انهيار سريع لحلفاء تركيا في سوريا، وتسلُّم الإسلاميين المتشددين مدينة أعزاز على الحدود التركية .

لقد فشلت استراتيجية تركيا في سوريا . فلا هي التحقت بالاتحاد الأوروبي، ولا تمكنت من إقامة الخلافة العثمانية، ولا قضت على النظام السوري . وليس من المستبعد تغيير تركيا لسياستها، تجاه إيران والأزمة السورية . ولعل رفضها إقامة زعيم حماس فوق أراضيها، مؤشر على ذلك . ويذكر أن زعيم حماس، خالد مشعل يسعى لإعادة علاقة حماس بإيران وحزب الله، بما يفهم منه أنه تمهيد لإعادة العلاقة مع سوريا .

الحدث الآخر، دعوة قطر للرئيس الإيراني لزيارة الدوحة، وقبول روحاني للدعوة . الدعوة تبدو غريبة، لكن الأغرب هو ما تسرب عن اتصالات تقوم بها الدوحة مع دمشق، وعن احتمال قيام مسؤول قطري بزيارة سرية إلى سوريا، خلال الأيام القليلة القادمة . الواضح أن الدوحة تسعى للارتباط بالخريطة الدولية الجديدة قبل فوات الأوان . فهي تدرك أن العلاقة بين تركيا وإيران في الصراع السوري، ستتحول من صراعية، إلى تكاملية . وأن اهتمام المجتمع الدولي، الآن ليس إطاحة النظام السوري، بل القضاء على العناصر المرتبطة بتنظيم القاعدة، الموجودة على الأراضي السورية . وسوف تستخدم خبرات الجيش السوري لهزيمة هذه التنظيمات، باعتبارها تمثل تهديداً مباشراً للسلام والأمن الدوليين .

في غضون ذلك، يبدو الشلل واضحاً على أكبر قوة عسكرية واقتصادية في التاريخ، حيث تنشغل الإدارة الأمريكية بأزمتها الاقتصادية، مدللة على شيخوخة مبكرة، وتراجع عن الحراك الدولي، تاركة الساحة، لقوى صاعدة، تستعد لتسلم مفاتيح صنع القرار في مجلس الأمن وكافة المؤسسات الأممية .

لا يمكن للعرب، أمام هذه التحولات السريعة، في لوحة الشطرنج الانكفاء، فذلك ليس الخيار الإيجابي . لا بد من تنويع خريطة التحالفات، ووعي اتجاه التحولات في موازين القوى الدولية، واستخدامها بذكاء بما يخدم أهداف أمتنا، ويعيد الاعتبار للقرارات الأممية، ويسهم في ترصين العلاقات الدولية، ولا يجعلنا تائهين على أرصفة الطريق، وهامش التاريخ .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 73 / 2165540

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2165540 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010