السبت 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2013

“المشروع العربي” و“التسوية” مع أميركا.. هل هذا ممكن؟

السبت 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 par طارق الدليمي

بعض مثقفي «الليبرالية العربية» الاميركية أن السبب «الفعلي» للأزمة القائمة بين اميركا والعــرب، منذ نصــف قــرن تقريباً!، هو نوع من انعدام «اللغة» المشتركة بين الطرفين ومن شأن ذلك المساهمة في زيادة الاحتقان في العلاقة بين الطرفين وفي المنــطقة أيــضا. يغيب عن هؤلاء أن «فكرتهم» هذه «المتألقة» لا تبتعــد كثيراً عن «فكرة» أخرى كانت وماتزال سائدة في الثقافة «اللغوية» للحضارات المتعاقبة ومنها الحضارة «الرأسمالية» الراهنة إنها «موهبة اكتشاف الأشياء السارة مصادفــة»، ولا يخــطر بالبال أيضاً أن «الديسليكسيا» السياســية المتعجرفة هي السبب الأساس لهذه الآفة اللغوية ومنذ العام 1971 شرح المثقف الفرنسي «كلود جوليان» في كتابه الثري «الامبراطورية الاميركية» العلة الكامنة في هــذا الانعــدام «للغــة» المشــتركة بــين الولايــات المتحــدة في الداخــل قبــل الخــارج، فـقــد طلــب أحــد الأساتــذة الجامعيــين الامــيركان مـن «جورج واشنطن» الاستعانة بالخبرات الاكاديمية لبعض الاساتذة في الجامعات السويسرية بعد أن بعثوا برسالة حول هذا الموضوع، رفض «واشنطن» قائلاً: لا يمكن التفاهم معهم لأنهم لا يفهموننا.
هل يمكن القول أن الكلام من «فم الحصان»، ملتبس ولا يمكن التعويل عليه! يكتب المحلل الاسرائيلي «ايال زيسر/2005» حول العلاقة بين الولايات المتحدة والثلاثي «مصر، سوريا، العراق»: «الحقيقة القاسية أن الدول العربية جميعاً كانت ملتزمة بخط «التسوية السياسية» الكاملة بين «العرب» و«اسرائيل» وأن الذي كان يراوغ ويتلون هو «المؤسسة الاميركية» الحاكمة عبر إداراتها المتعاقبة. ولقد عبر عن ذلك بدقة «عبد الناصر» بعد مشروع «روجرز» في العام 1969، و«حافظ الأسد» بعد معركة «سوق الغرب» في لبنان، بأن الولايات المتحدة هي التي تعرقل الوصول إلى «تسوية» عربية اسرائيلية شاملة». وهذه «السياسة» من الناحية الموضوعية تطبق بالأساس بين «الدول العربية» أيضاً من قبل اميركا، وبشكل يثير السخرية أحياناً لاسيما حين تنصاع معظم هذه «الدول» «للاقتراحات» الاميركية وتتحاشى تأثيرات ذلك على المستوى الاقليمي وخاصة في «الخليج» العربي، وما يجب قوله، بدون مبالغة، أن «المشروع العربي» كان، وما يزال، «العَظْمة» الكبيرة في الحنجرة الخليجية وقبل أن يكون هماً «استراتيجياً» للغرب الاستعماري واميركا بالذات(!)، فهل يمكن أن ننسى رفض «الشريف» حسين في العام 1915 مشاركة «الضابط» المصري الوطني»عزيز المصري» في «الثــورة العربيــة»، بقــيادة بريــطانيا العظــمى، وذلـك لأن «المصري» كان مصراً على استــقلال «الثورة» وقياداتها عن كل التأثيرات والضغوط والتدخلات «الغربيــة» والبريطانــية تحــديداً، ناهــيك عن أن الوقائع الدامغة تؤكد أن وزارة «المستعمرات» البريطانية كانت وراء كل ذلك وبالتفاصيل المملة.
من هنا لا نستطيع تجاهل قول «هيغل» بأن «الحقيقة تولد كبدعة وتموت كخرافة» حين نطبّقها على المسار بدءاً من «الثورة» الأولى وكيف تكرّرت بعد أقلّ من نصف قرن مع «المشروع العربي» بقيادة «عبد الناصر»، حين تبنّى المفهوم النبيل للثورة التي طرحها «عزيز المصري»، وقد أكد «عبد الناصر» نفسه حين ردّد أنه يمكن التفاهم مع «الآخرين» حتى ولو كانت هناك عقبات سابقة تمنع ذلك، ولكن دائماً بشرط «الاستقلالية» الكاملة في اتخاذ القرارين الوطني والقومي.
في تلك الآونة كانت «الحرب الباردة» هي السائدة وكان «الاتحاد السوفياتي» الذي يقتات على مبادئ «التعايش السلمي» السوفياتية المبكّرة، يحاول، وبالتجاوب في كثير من الأحيان من قبل اميركا، أن يصل إلى التفاهم حول «مصالح مشتركة» بينه وبين أميركا بالرغم من عدم «التطابق» في هذا السياق، والاتحاد السوفياتي الذي ساهم في «إنشاء» إسرائيل كان عاجزاً عن تحقــيق «التسوية» الشاملة بين «العرب» و«اسرائيل» لأنه من وجهة النظر الأميركية لم يكن هناك «تــطابق» في الحل «النهائي» بينما توجد «مصلــحة مشتركة» من وجهة النظر السوفياتية في ضرورة تحقيق الأمن والاستقرار وإيقاف «الحروب» التي لا تتوقف أبداً.
بعد انهيار دول «الاشتراكية الواقع» ونهاية «الحرب الباردة» وصعود «القطبية المنفردة» الاميركية أهالت اميركا التراب على «القضية الفلسطينية» واستكملت برنامجها في تدمير «الدولة» القطرية الوطنية بعد استكمال تدمير «المشروع» العربي التاريخي! وطيلة هذه الفترة وحتى الآن، وهي بداية انتهاء القطبية الواحدة، لم تبادر أميركا أبداً إلى تحقيق «التسوية» المطلوبة مضموناً وشكلاً وفضلت وبالتفاصيل اللجوء إلى «إدارة» الصــراع بــدلاً مــن التفــرغ لحــله، فــهل يمـكن التوقع حالياً تغيير «اللوحة» منذ الآن وأن نجازف بالقول أن «المفهوم» المركزي قــد انقــلب رأساً على عقب، وأن فضاء العلاقة بين روسيا «الرأسمالية» واميركا «نهاية الرفاهــية» يجـزم بعدم وجود «مصالح مشتركــة» ولكن «التطــابق» قد يخلق المناخات، الاضطراريــة، للتــفاهم والوصــول إلى «تسويات» معينة تبدل الطقس المباشر لبعض الأزمات الحادة والمغلقة ومنها «أزمة» منطقتنا المزمنة! هل يجيز لنا التحليل أن نعلق أهمية خاصة على «وجهات» نظر «خصمين» من نمط «كيسنجر» الجمهوري و«بريجينيسكي» الديموقراطي في «ضرورة» الاستفادة من «التطابق» مع روسيا قبل أن تنضج ظروف «المصالح المشتركة».

في العام «1975» أنجز الكاتب والسياسي، الشيوعي سابقاً، «محمد سيد أحمد» كتابه «بعد أن تسكت المدافع» وهو يطالب فيه «بالتسوية» الكاملة بين «العرب» و«إسرائيل» والوصول إلى السلام الشامل. لم يتحقق ذلك لحد الآن! ومات ذلك الرجل القدير كمداً، لاسيما حين احتلّ «العراق»! على أنقاض اتفاقية «اوسلو» المهينة، وفي إحدى مقالاته يشير إلى أن القيادي الفلسطيني، العقلاني اليميني، في «فتح» «خالد الحسن» كان في حينها قد قال له: أنك كتبت قبل عقد من استحقاق ذلك! ومات «خالد الحسن» أيضاً وبدون أن «يرى» الاستحقاق، ومن خلال كتابات «محمد سيد أحمد» الأخيرة نكتشف أنه أقر بأن «اللحظة التاريخية» للتسوية لم تصل بعد! وهو يعترف أيضاً بأن «هيكل» كان يختلف عنه، لأنه كان ينظر إلى «السلام» بصورة «تكتيكية» على خلاف نظرته «الاستراتيجية» التي لم تتحقق! لكن «الغدر» دائماً يأتي من «الصديق العدو» حين يشرح «المنظر الاكاديمي» الاسرائيلي «يوسي اميتاي» بطريقة «لئيمة» تفوح منها روائح التزوير، حيث كتب في رثائه «محمد سيد أحمد» بأن «السلام» الذي يجب أن يحل بين «العرب واسرائيل» لا يمكن الا أن يحافظ على «بقاء التناقضات» على المستوى «الايديولوجي». والترجمة النزيهة لكلامه تجزم بأن التناقضات ستظل بين «وظيفة» اسرائيل العضوية «للمشروع الامبريالي» وبين «وظيفة» «المشروع العربي» الشرعي والمشروع.
بيد أن العام 1988 كان بداية الطريق لفهم «الآلية» السياسية الفكرية لتجربة الولايات المتحدة في نظرتها الملموسة لمفهوم «التسوية» في شروطها «الجغرافية» وفي سياقها «التــاريخي»، وهي ببساطة الاستسلام «الايديولوجي» للذرائعية الاميركية وبقاء «التناقضات» الايديولوجية دوماً لخدمة مصالحها الاستراتيجية، وعند الرجوع إلى «الداخل» الأميركي والاهتمام الجاد بأبحاث عالم الاجتماع الاميركي «فيليب زيمباردو» حول «الجريمة المنظمة» في اميركا يسهل علينا الاستنتاج بأن تصاعد «الجرائم الجنائية الاجتماعية» وزيادة التصدّي لها هي عملية معقدة، ولكنها ناجحة بالنسبة «للمؤسسة» الأمــيركية وأقلّ كلفة من «التمويل» الفكري والسياسي للتصدي «للجرائم السياسية الاجتماعية» وعقابيلها المفزعة والتي يمكن «تخفيفها» فقط! لو أن «المؤسسة» مالت تاريخياً إلى «التسوية» الداخلية، تلك «التسوية» التي بدأت في «انكلترا» عقب «الثورة الانكليزية» في القرن السابع عشر وانتهت مؤخراً في روسيا والدول التي كانت تعيش عملية «الاشتراكية الواقع» فهل «التسوية» مع اميركا «قبض ريح» أم أن تجربة القائد السياسي والعسكري «جو سلوفو» في «جنوب افريقيا» هي المحك التاريخي؟ وهل «التسوية» التي أنجزها «سلوفو» كانت ناجحة وتصلح أن تكون قدوة في منطقتنا الملتهبة بأشكال دفن «التسويات» وبالرعاية الأميركية الفائقة. لقد وضع «سلوفو» ومنذ اللقاء «الأول» بين «نيلسون مانديلا»، 1988، والمثقف الجامعي «نيل بارنارد» قائد «المخابرات العامة» في «جنوب افريقيا» والعصب الرئيسي في الوصول إلى الحل «النهائي». ومنذ العام 1988 وحتى العام 1994، نهاية حكم ثلاثة قرون من الأقلية البيضاء، كان «سلوفو» ينسّق «بصمت» وعنفوان مع «بارنارد» وكان الرجلان يعرفان يقيناً أن أميركا تحاول اختراق المفاوضات وتقطف الثمار في «الحل « النهائي! وصدق حدسهما السياسي والأمني! لكن الذي أرضى الطرفين أن ما تحقق، جنوب افريقيا الموحّدة الديموقراطية بلا عنصرية وبلا إقصاء وحريات كامــلة وديموقراطيــة مليــئة وتــعددية تامة، يمكن أن يكون المعادل الموضوعي للتدخل «الأميركي» الشائن وشروطها في «ضرورة» بقاء «التناقضات» الايديولوجية! يقول «سلوفو» أن «الشرط» الأميركي للموافقة على «برنــامج» التسوية هو الآتي: أن يقرّ «المؤتمر الوطــني الافــريقي» و«الحزب الشيوعي في جنوب افريقيا» بالكفّ عن التبشير والتدخل «الاشتراكي» في الصعيد العالمي! كانت الموافقة من قبل كل قيادات «التنظيمين»، وهما يتمتعان بعلاقات عضوية خاصة، على الاقتراح الاميركي «متطابقة» مع المثل الشهير: مكره أخوك لا بطل. وكان لديهم «شرط» كبير هو الدفاع عن حق الشعوب وفي المقدمة «الشعب الفلسطيني» العظيم! ويكتب «سلوفو» ساخراً ومتألماً، وهو المعروف عنه بمناهضته «للستالينية»: «هل يمكن بعد التسوية مع أميركا بناء الاشتراكية في بلد واحد».
مات «عبد الناصر» ومات «سلوفو» وكانا يناضلان حين كان «الضباب» يغطي سماء «الحدود» بين «دولة الاشتراكية الواقع» و«دولة الرفاه الرأسمالية» وقد دفع القائــدان ثمنــاً هائــلاً في الحفاظ على القضية الفلسطينية وضرورة تحقيق أهدافها المشروعة! أما «جو سلوفو» فقد كان يردّد وهو يغادر الحياة كلمات «روزا لوكسمبرغ»: «تنتهي تأثيرات الحرية عندما تصبح امتيازاً خاصاً».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2165946

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165946 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010