السبت 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2013

التهويد والزيتون

السبت 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 par عبداللطيف مهنا

بدأ موسم قطاف الزيتون في فلسطين المحتلة. هذه المناسبة، بما تعنيه للفلاح الفلسطيني المتشبث بأرضه من لحظة عطاء احتفالية خاصة ووسيلة عيش وبقاء وصمود على تراب الوطن، هي مناسبة أخرى نقيضة بالنسبة للغزاة المحتلين، إذ يجد فيها الصهاينة فرصة متاحة لهم لإلحاق ما يتيحه قدومها بالمتعدد من مظاهر شن حربهم التهويدية المستمرة الضروس على الوجود الفلسطيني في الوطن المغتصب، إذ تنتظرها قطعان المستعمرين سنويًّا، وبهدف الإعاقة والمنع والتخريب وإلحاق الأذى، بالمناشير والجرَّافات والحرائق. تقول آخر الإحصائيات، إنه في الشهر المنصرم فقط قطع هؤلاء في غاراتهم المبرمجة ما يزيد على مئتين وخمسين شجرة زيتون من تلك التي تعود للقرى الفلسطينية المجاورة للمستعمرات المقامة أصلًا على أراض تلك القرى المنهوبة والمصادرة، وأحرقوا ما يزيد على أربعمئة شجرة، وجرَّفوا مئات الدونمات مما تبقى من أراض هاته القرى التي لم تسلب منها بعد، أو لم يأتِ حين ضمها إلى مستعمراتهم الآخذة في التوسع السرطاني المطرد.
الحرب الصهيونية على الزيتون الفلسطيني في بدء مواسم قطافه، وحتى من دونها، تستهدف فيما تستهدف، إلى جانب محاولة تهشيم ما يختزله التليد الموروث من الصورة الرمزية لهذه الشجرة المباركة في المخيال الشعبي الفلسطيني، إلى جانب كونها الآن قد غدت تعادل الأيقونة الدالة على رمزية البقاء والصمود والتشبث بالأرض، إلحاق الضرر، المعنوي أولًا، والمادي ثانيًا، بالفلاح الفلسطيني، وكخطوة مضافة إلى جاري الخطوات الجهنمية الأخرى، الملتوية منها والدموية المباشرة والفجة، من تلك التي لا ينضب معينها لإكراهه دون جدوى على مغادرة أرضه التي تبقت له والتي لم تصادر وتهوَّد بعد، أو توطئةً لتهويدها وضمها إلى مستعمراتهم المتفشية كالفطر على مساحة الضفة الغربية بكاملها. أي أنها وسيلة إجرامية أخرى تُعتمد في سياق هذا المتعدد مما يلجأ إليه الغزاة المحتلون في متوالية جرائمهم الإبادية المستمرة مختلفة الأوجه، ماديًّا ومعنويًّا، منذ بدء الصراع وتمكنهم من اغتصاب فلسطين وإقامة كيانهم المحتل الغاصب على أنقاض الوطن الفلسطيني المغتصب... الآن، ووفق واقع الحال، يكاد يبدو أنه لم يتبق للفلاح الفلسطيني المستضعف المقهور، أو للقرى الفلسطينية المنكودة بالاحتلال الغاشم التي صودرت أغلب أراضيها الزراعية لصالح المستعمرات المجاورة، أو خنقتها الأسوار العازلة والطرق الالتفافية والمناطق العسكرية والحصارات المضروبة والحواجز العسكرية، وروَّعتها مسلسلات الاقتحامات المتوالية وغارات عصابات المستعربين الدموية... لم يتبق له إلا الزيتون، هذا الذي يوجد أغلب ما نجا منه فحسب في ضيِّق المساحات من قليل الشعاب والمناطق الوعرة اللصيقة بتلك القرى، وبالتالى باتت أشجاره المعمِّرة والمستجدة هدفا مشاعًا لغارات المستعمرين الحاقدين، والذين تجري غاراتهم الهمجية المتكررة تحت حماية الآلة العسكرية العدوانية للاحتلال، ويمارسون جرائمهم برعاية جنده الكاملة وغالبًا ما تكون بمشاركتهم.
إن من المؤلم والمدعاة لعميق المرارة بالنسبة للإنسان الفلسطيني البسيط، أو هذا العنيد الذي قدره أن لا تجوز له أن ينضب معين ابتكاراته النضالية لسبل البقاء في أرضه واجتراع الدائم والمستجد من شتى وسائل الصمود ومقاومة الاحتلال ... من المؤلم المرير له، إحساسه الجارح، واليوم أكثر من أي وقت مضى، بأن أمته العربية قد تركته وحيدًا وأعزل ومستفردًا به، يواجه بلا نصير ولا مجير عدوه، وعدوها، الغاشم بصدره العاري وظهره إلى الحائط، ويخوض نضاله ويوالي تقديم تضحياته في أسوأ وأصعب الظروف، وفي صراع غير متكافئ، ومع أبشع أنواع الاستعمار الاستيطاني الإجلائي المدعوم بكل مقدرات وإمكانيات الغرب الإمبريالي، والذي تغطيه وتعصمه موضوعيًّا اللامبالاة الدولية المشهودة، واللتين، هذا الدعم وهذه اللامبالاة، يرفدهما، بل يعززهما ويزيدهما بامتياز، راهن هذا الانحدار العربي المهين والمتفاقم سوءًا، وقبله مزمن العجز المقيم والبالغ حدودًا لا معقولة من التفريط والتواطؤ المشين.
ما يجري للزيتون الفلسطيني في مواسم قطافه ومن دونها، ليس إلا جزءًا وأنموذجًا مبسطًا لما يجري لاجتثاث شعب بأكمله من وطنه التاريخي. شعب قدره أن يواجه في خط الدفاع الأول لأمته ونيابةً عنها عدوها التاريخي، هذا الذي مجرد وجوده في القلب من جغرافيتها هو تهديد مستدام لوجودها، ناهيك عن راهن ومستقبل أجيالها ... وما يجري للضفة قيد التهويد، وغزة التي يطبق الحصار الإبادي، بشقيه الصهيوني والعربي، خناقه على كل مظاهر الحياة فيها ... للقدس التي هوّدت جغرافيًّا ويستكمل تهويدها ديمغرافيًّا، والتي ستشهد عما قريب احتفالات مغتصبيها المقتربة بالذكرى المزعومة لما يسمى “الصعود على جبل الهيكل”، أي ما ينتظره حرمها القدسي الشريف المنتهك من اقتحامات تصعيدية معربدة لقطعانهم الحاقدة، تهيئةً وتوطئةً وتمريرًا وتطبيعًا لتقسيمه، على درب هدمه وبناء هيكلهم المزعوم مكانه ... ما يجري، وبمعزل عن عدوانية الغرب الدائمة والمتوقعة، وتواطؤ اللامبالاة الكونية المشهودة، هو بالأساس إدانة لن يغفرها التاريخ تصم هذا الاستمراء المذل لهذا الصمت القاتل المهين الضارب أطنابه في دنيا العرب.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 34 / 2166056

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

26 من الزوار الآن

2166056 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 26


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010