الخميس 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2013

العودة إلى عبدالناصر

الخميس 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 par د. أمينة أبو شهاب

منذ وفاة جمال عبدالناصر ونهاية الجمهورية الأولى في مصر (1952 - 1970) بتلك الوفاة، لم تحي مصر ذكراه بما ينبغي له من احتفاء ونقاش عام كما فعلت هذه السنة وفي هذا الشهر . لقد كان ضريحه مزاراً لأقطاب النظام الجديد، وكان رئيس الحكومة وبعض وزرائه حضوراً هناك كما كان رؤساء وممثلو أهم الأحزاب . وما لفت النظر حقاً هو إعلان حركة “تمرد” لناصريتها من خلال وجودها عند ضريح الزعيم . لأول مرة منذ 42 عاماً تفتح مصر بابها واسعاً ليعود عبدالناصر اسماً ينطق في الإعلام بلا حظر أو حجر عليه، ولتعود التجربة الناصرية إلى حجمها التاريخي الحقيقي وما تستحقه من إعادة الاعتبار والدراسة ومد الأفق لها في التواصل مع الحاضر المصري .

لقد عادت مصر، إذاً، لتحتضن الاسم الذي منذ مات صاحبه، كان موقعاً للسهام والنصال وحملات التشوية الضارية التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، نظراً لكم الضخ المالي الذي وزع على المنابر الإعلامية والأقلام الأجيرة . حرق اسم عبدالناصر كان توطئة لمرحلة سياسية مختلفة في المنطقة العربية التي عاشت شعوبها وعياً وطنياً وقومياً عالياً في زمن عبدالناصر، وكانت هذه الشعوب في موقع أفضل لتغيير الواقع العربي والدخول في

عصر العلم وتحقيق التنمية والوحدة والتحرر من الهيمنة الخارجية .

مهم كثيراً أن تستعيد مصر تجربة عبدالناصر السياسية وهي في مرحلة استعادة الذات، وأن تعكسها على واقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحالي، وذلك بعد كل ما تعرض له اسم ناصر من تشويه ممنهج، وبعد أن عاشت مصر بعد الجمهورية الأولى المرتبطة به نظاماً سياسياً هو نقيض وثورة مضادة لمشروعه الوطني والقومي .

عودة عبدالناصر من أوسع أبواب مصر إلى أحضانها، وإلى حديث مثقفيها ومفكريها واستعادته من جديد في الوجدان المصري الذي أعطاه في حياته ما لم يعطه لزعيم آخر أبداً هي إثبات أن الوعي التاريخي والوطني لدى الشعوب هو الأقوى وهو يتجاوز تأثير مئات الملايين من دولارات التضليل الإعلامي وساعات البث الممنهج والمسلط على عقول ملايين العرب طوال أربعين عاماً . إحدى أشرس الحملات الذهنية على الحكم الوطني الناصري كان موقعها “قناة الجزيرة” حيث ركزت طوال العقد الماضي على هدم آخر المرتكزات الإيجابية في الذهن العربي عن الجمهورية الأولى في مصر، وكان “الإخوان” هم أساس هذه الحملة، وهم شخوصها وشهودها التاريخيون بالطريقة ذاتها التي استخدمهم فيها أنور السادات في الثورة المضادة على الفترة الناصرية والاستيلاء على مواقع الناصريين في القطاع الطلابي والصحفي والمهني والنقابي .

لم تتوقف الحملة الضارية على عبدالناصر، ولن تتوقف مادام أن مصر والوطن العربي الكبير موضوع للسيطرة الغربية، أما عودته في هذه الأيام إلى مصر عودة الأبطال المقصيين إلى الوطن فإنما هي جزء من عودة مصر إلى ذاتها واسترجاع هويتها . وهذه العودة لا تنفصل بالتأكيد عن الإدراك العام بالفشل الذريع لأنظمة الحكم التي جاءت بعده والتي كان الهدف الأساسي لها هو أن تكون بديلاً عن المشروع الوطني القومي الناصري، ومحواً لآثاره وإنجازاته . لقد سقطت الجمهورية الثانية المتمثلة في نظام أنور السادات وامتدادها في زمن مبارك الذي خلعه الشعب في عام ،2011 ولقد سقط في اختبار الحكم في ما بعد ذلك نظام “الإخوان” الذي ثبت إفلاسه التام وتهافته .

لم تمت، إذاً، تجربة ناصر السياسية أو تجربة مصر في عهده وإنما كتبت لنفسها حياة جديدة وتألقاً مستعاداً بإزاء سقوط كل الجمهوريات التي أعقبتها، بداية من جمهورية السادات وحتى جمهورية مرسي .

ناصر هو رجل الدولة المهيب الذي رفع اسم مصر والعرب في العالم بمقاومته للنفوذ الأجنبي والأحلاف الإقليمية، ولدوره في تحرر الشعوب المستعمرة، وهو الذي مكن مصر من استقلال القرار السياسي . إنه الرئيس النظيف اليد الذي عاشت أسرته بعيداً عن الأضواء والنفوذ في عهده . وهو الذي أحبه الشعب لأنه عرف حقيقة صدقه وتوجهات أحلامه لبلده وأمته، إنه من قاد مصر إلى النهضة العلمية والصناعية والزراعية، ومن وفر للشعب التعليم المجاني وأرسل الآلاف في بعثات إلى الخارج بغرض القفز بمصر تلك القفزات الهائلة التي حققتها في سجل التنمية، إنه أبو الفقراء والفلاحين والعمال ومن شرع في تحقيق العدالة الاجتماعية لهم، وهو من عاشت الطبقة المتوسطة أحلى أيامها في عهده، تعليماً ودخلاً وكرامة .

رغم عداء “الإخوان” الشديد لعبدالناصر وتشويههم وشيطنتهم له طوال العقود الأخيرة إلا أن مرسي في خطابه للعمال المصريين أعلن نوعاً من الانتساب إلى التجربة الناصرية، بالقول إنه يسير على مثاله في النهضة الصناعية . لقد كان يعلم بموقع عبدالناصر في وجدان العمال المصريين وأراد مخاطبتهم بسره في وعيهم، ومن قبل مرسي كان نظام حسني مبارك في سنواته الأخيرة، يحاول الاستناد إلى شرعية الثورة المصرية في 23 يوليو والعهد الناصري، وتحويل ذكرى الثورة إلى مناسبة وطنية، ولم يكن ناصر غائباً في ثورة 25 يناير، بل كانت صوره هي الأكثر ظهوراً فيها، ثم ظهرت بشكل أكثر إصراراً ووضوحاً في 30 يونيو من هذا العام .

الخلاصة، إذاً، أن التجربة السياسية الناصرية هي التي تفرض قوة وجودها على الواقع المصري بالرغم من اجهاض إنجازاتها على الأرض، وبالرغم من تشويهها على مر العقود . وفرق بين هذه الحقيقة والقول إن عودة عبدالناصر في هذه المرحلة الفارقة في تاريخ مصر إنما هي مجرد توظيف سياسي لاسم عبدالناصر لتبرير السياسات والإجراءات التي يتم اتخاذها ضد الإخوان وحشد الاصطفاف الوطني ضدهم .

عودة ناصر أو العودة إليه في هذا الظرف إنما هي عودة حتمية وطبيعية إلى التواصل مع تاريخ انقطع قسرياً بفعل قوى الخارج التي تآمرت على التجربة القومية العربية، حيث سقطت اليوم تلك الفواصل المصطنعة التي حالت دون تطور مصر ولعبها لدورها الحقيقي .

التماثل بين التحديات التي تواجه مصر اليوم وتلك التي عاشتها في فترة الخمسينات والستينات هو أكثر من واضح، أما التجربة السياسية حينها فليست مرتبطة أبداً بشخص، بل هي تجربة مصر ذاتها . مصر، إذاً، بالعودة إلى ناصر، في حالة تحوله إلى مرجعية ومصدر شرعية، إنما تعود إلى ذاتها، وتاريخها القريب تستمد الصواب والقوة من تلك التجربة وتتعرف إلى الأولويات الشعبية التي كان ناصر قد أولاها كل اهتمامه وجهده، ومنها العدالة الاجتماعية، وهنا التواصل التاريخي الحقيقي .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2178442

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2178442 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40