الأحد 22 أيلول (سبتمبر) 2013

“حماس” ومأزق “البديل الأيديولوجي”

الأحد 22 أيلول (سبتمبر) 2013 par علي جرادات

خلال 14 عاماً أمضيتها -على دفعات- في الاعتقال الإداري داخل سجون الاحتلال، أتيح لي التعرف عن قرب، وبالملموس، وعبر حوارات وسجالات معمقة ومطولة، إلى أكثرية الصفين الأول والثاني في قيادة حركة “حماس”، عدا المئات ويزيد، من كادرها الوسيط وأعضائها ومناصريها في الضفة وغزة . لقد شكل ذلك بالنسبة إلي فرصة لمعرفة اعوجاجات الحركة ومنطلقاتها الأساسية تجاه القضية الوطنية الفلسطينية، سواء لجهة سطوة الأيديولوجي على الوطني والقومي والديمقراطي السياسي والاجتماعي من أبعاد هذه القضية، أو لجهة الانعكاسات السلبية لكل ذلك على إدارة الحركة لتناقضات مرحلة التحرر الوطني والديمقراطي التي ما انفك يعيشها الشعب الفلسطيني، بل، وما زال أمامه مشوار طويل ومعارك كثيرة وتضحيات كبيرة لإحراز مهماتها .

على أية حال، قادتني تلك الحوارات والسجالات المقرونة بالهدوء والحرص، إن من جانبي، أو من جانب عدد لا يستهان به من قيادات “حماس”، إلى استخلاصات كثيرة، لعل أهمها هو ما سجلته على شكل تنبيه يحمل طابع النصيحة الوطنية، فحواها: إن إقدام قيادة “حماس” في يونيو/حزيران 2007 على خطوة الحسم السياسي بوسائل عسكرية ل”السلطة” في غزة هي ليست “خطوة اضطرارية” كما بررها آنذاك رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل، إنما هي، وحتى لو كانت كذلك، “خطوة انتحارية”، وتنطوي بتداعياتها على المستويات كافة، تقدم الأمر أو تأخر، على إدخال “حماس”، ومعها قطاع غزة، بل والقضية الفلسطينية عموماً، في مأزق متعدد الأبعاد والأوجه، ذلك ببساطة لأن السيطرة على أي سلطة سياسية، (فما بالك بسلطة يتحكم بها احتلال أجنبي غاشم)، لا يساوي السيطرة على مقارّ أمنية . هذا ناهيك عن أن الاعتماد على منفذ “الأنفاق” لا يمكن له أن يقوى على توفير متطلبات إدارة “السلطة” في غزة المحاصرة إلى ما لا نهاية . لكن حركة “حماس”، وللدقة قيادتها، وقبلها قيادة أصلها، جماعة الإخوان المسلمين، بما في عقلها من سطوة للأيديولوجي على الوطني والديمقراطي السياسي والاجتماعي، ركبت رأسها، وأصرّت على مواصلة السير نحو مأزقها المحتوم الذي يلفها هذه الأيام، ومعها قطاع غزة، من الرأس حتى أخمص القدم، وفي السياسة والاقتصاد والأمن والاجتماع .

ليس في تجربة حركة “حماس” السياسية، فقط، بل في التجارب السياسية كافة، أيضاً، كثيراً ما يتم الخلط بين الأزمة والمأزق أو نسيان الفرق بينهما، جوهره: أن الأزمة إن هي إلا مصاعب يمكن تجاوزها باتخاذ مجموعة من الإجراءات والتدابير، ومن دون الحاجة إلى تغيير خط السير، بينما المأزق يعني الوصول إلى طريق مسدود لا يمكن تجاوزه إلا بتغيير، (وللدقة بمغادرة)، خط السير الذي قاد إليه . وحركة “حماس” اليوم لا تعيش أزمة، إنما مأزقاً متعدد الأبعاد والأوجه هو -برأيي- نتيجة حتمية لخط سير أو نهج، فحواه: اعتبار قيادة “حماس” نفسها بديلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية، ينازعها على تمثيل الشعب الفلسطيني، ويرفض الانضمام لها على أساس برنامج الإجماع الوطني . وهذا خط سير أو نهج لا ينسى أو يتناسى، فقط، حقيقة أن منظمة التحرير، بمعزل عن راهن حالها وطبيعة قيادتها ولونها، هي ثمرة نضال وطني وقومي مديد وتضحيات جسيمة، وإطار وطني جامع ومعترف به كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، إنما، ينسى أو يتناسى، أيضاً وأساساً، واقع أن هذه المنظمة هي الصيغة الملموسة للجبهة الوطنية المفروض على الشعب الفلسطيني الحفاظ عليها وتطويرها، ما دام يعيش مرحلة تحرر وطني وديمقراطي يفضي تغييب ضروراتها الواقعية، وأولاها ضرورة بناء الجبهة الوطنية، إلى سطوة الأيديولوجي على الوطني والديمقراطي بشقيه السياسي والاجتماعي . وهو ما يقود بالنتيجة، وبمعزل عن النوايا، إلى خلل بنيوي في إدارة الصراع مع الاحتلال، سواء لجهة علاقة الاستراتيجي بالتكتيكي في هذا الصراع، أو لجهة علاقة الرئيسي بالثانوي من التناقضات في النضال الوطني الفلسطيني الذي لم يتكلل بعد بإنجاز أهدافه في الحرية والاستقلال والعودة .

لكن، ولكي يرتقي تشخيص مأزق حركة “حماس” من مستوى التوصيف إلى مستوى التحليل القادر على اجتراح العلاج الشافي، فإن على أحد ألا ينسى حقيقة أن حركة “حماس” هي في التحليل الأخير فرع لجماعة الإخوان المسلمين قرر الانخراط في المواجهة مع الاحتلال بعد عشرين عاماً من انطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة، ومن معاداة فصائلها والتحريض الأيديولوجي عليها، بل والإقدام على الصدام العنيف معها أحياناً . كما يجب ألا يغيب عن ذهن أحد دلالات أن هذا الانخراط المتأخر جاء بعد ضغوط مارستها قواعد التنظيم على قيادته، وزادت وتيرتها بعد تأسيس حركة الجهاد الإسلامي وانخراطها في مقاومة الاحتلال، حيث شكلت منافساً لفرع “الإخوان” في فلسطين، يغرف عضويته وشعبيته من القاعدة الشعبية ذاتها .

لكن، على الرغم من دلالات كل الحقائق أعلاه في خط سير حركة “حماس”، عدا دلالات حقيقة فشل كل محاولات ضم “حماس” بعد تأسيسها في العام ،1988 إلى إطار “القيادة الوطنية الموحدة” للانتفاضة الشعبية الكبرى، (1987-1993)، إلا أنه لم يكن بوسع أي وطني فلسطيني جاد وجدي في مواجهة الاحتلال، إلا مواصلة محاولات ضم حركة “حماس” إلى الإطار الوطني الجامع، ذلك ليس فقط لأنها في التحليل الأخير، شئنا أو أبينا، جزء من التنظيم السياسي الفلسطيني، لكن أيضاً لأن انتقالها من مجرد فرع لجماعة الإخوان المسلمين يعادي فصائل العمل الوطني ويصطدم معها إلى حركة مقاومة للاحتلال كان خطوة إلى الأمام، ذلك من على قاعدة: “أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً”، ومن على قاعدة الرهان على أن يفضي الانخراط الميداني للحركة في مواجهة الاحتلال إلى تغيير في العقلية “الإخوانية” الأيديولوجية لقيادتها . لكن لأن “الطبع غالب على التطبع”، ولأن نظام “السمع والطاعة” السائد بين قواعد الحركة وقيادتها، وبين الأخيرة ومكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، فإن تغييراً من هذا القبيل لم يحصل . بهذا، وبه فقط، يمكن تفسير ما تعيشه الحركة من مأزق لا يمكن الخروج منه إلا بتخلي قيادتها عن أوهام “البديل الأيديولوجي” التي تبددت في الواقع . فهل تتخلى قيادة “حماس” عن هذه الأوهام لمصلحة الانخراط في التنافس الديمقراطي على قاعدة برنامج الإجماع الوطني؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 37 / 2165601

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165601 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010