الثلاثاء 17 أيلول (سبتمبر) 2013

عشرون عاماً فوق درب الهوى

الثلاثاء 17 أيلول (سبتمبر) 2013 par حسين قاسم

«لا محبة إلا بعد عداوة» مثلٌ ينطبق على علاقة القيادة الفلسطينية بإسرائيل. لقد وقعت هذه القيادة في هوى السلام مع عدوّها التاريخي بعدما جرّبت على مدى ما يقارب ثلاثة عقود عراك السلاح معه. وبعد أناشيد «طل سلاحي من جراحي» و«طالعلك يا عدوي طالع» صارت القيادة تتغنى بالسلام، وتُعلن وفاءها له على الرغم من خيانة الشريك وعمق جراح طعناته المتكررة. صارت العلاقة أشبه بالحب من طرف واحد. الإسرائيليون يجتاحون ويدمرون ويقتلون ويرتكبون المجازر بحق الشعب الفلسطيني، فيما تصر القيادة الفلسطينية على وفائها المطلق للسلام معه.
اختارت القيادة الفلسطينية أن تحتفل بالذكرى العشرين لتوقيع إعلان المبادئ (اتفاق أوسلو) بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية بعودتها إلى طاولة المفاوضات، تعبيراً عن إخلاصها للمسار السلمي الذي شقه هذا الإعلان، ونزولاً عند رغبة الراعي الأميركي، الذي يصعُب أن يرد له طلب. سنجاري هذه القيادة وسنفترض أن ما قامت به في ذلك الوقت كان مبرراً، وأنها كانت تريد بحسب ما جاء في مقدمة الإعلان التوصّل «لإنهاء عقود من المواجهة والنزاع والاعتراف المتبادل بحقوقهما الشرعية والسياسية، والسعي إلى العيش في «ظل» تعايش سلمي وبكرامة وأمن متبادلين، ولتحقيق تسوية سلمية عادلة ودائمة وشاملة ومصالحة تاريخية من خلال العملية السياسية المتفق عليها». وبناءً على ذلك، يحق لنا أن نسأل القيادة الفلسطينية: ألم يحن الوقت للتراجع عن مسار أثبتت التجربة فشله؟
بعد عشرين عاماً نستطيع أن نجزم بأن سكة التسوية التي انطلق قطارها من محطة أوسلو لم تكن سالكة أو آمنة، ولا يمكن نعتها بالسلمية، بدليل أن عدد ضحاياها قد فاق عدد ضحايا النزاع المسلّح، إذ سقط عشرات آلاف الضحايا الفلسطينيين، معظمهم من المدنيين، من جراء الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وبالذات أثناء انتفاضة الأقصى وعمليّتي الرصاص المصبوب وعمود السحاب، اللتين نفذهما الجيش الصهيوني ضد قطاع غزة. أما عن الكرامة، فحدّث بلا حرج، فالحط من كرامة الفلسطيني عمل يومي يرتكبه الإسرائيليون على جميع المستويات، ويشمل البشر والحجر والشجر، ولا يسلم من ذلك رأس سلطة الحكم الذاتي، الذي لا يتمتع حتى بحرية الحركة والتنقل بدون اذن من الاحتلال. ثمّ، عن أي كرامة يمكن الحديث في ظل نكث الطرف الإسرائيلي لكل العهود والمواثيق، وإجبار الطرف الفلسطيني على تناسي الأمر، والعودة الى المفاوضات ضمن الشروط الإسرائيلية المُذِلة، ولنا في المستوطنات مثلٌ ساطع. إنها لمفارقة أن يؤدي انطلاق قطار السلام إلى وقوع ضحايا أكثر بكثير من الصراع المسلح. والمفارقة الأكبر أن يشبه قطار التسوية لعبة قطار الأطفال ذي السكة الدائرية. يسير القطار ويدور، ومن ثم يعود الى نقطة البداية. يدور القطار بلا نهاية إلى أن تفرغ البطارية فيتوقف توقفاً اضطرارياً بانتظار إعادة شحنها، وبعد ذلك تُطلق صفارة الانطلاق من جديد ليُعاود القطار دورانه المعهود والمحدد سلفاً، وهكذا دواليك.
بعد مضي عشرين عاماً، وبعدما أظهر الطرف الفلسطيني التزامه الكلّي بالاتفاقات، وعلاوة على ذلك قدّم تنازلات إضافية جعلته عارياً أمام الطرف الآخر، وبعدما أبدى الجانب الإسرائيلي تمنّعه الشديد للوفاء بالتزاماته، وبعد الفشل الذريع في الوصول إلى إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كما كان يأمل المشاركون في أوسلو، كان يُفترَض بالقيادة الفلسطينية، لو كانت حريصة على مصالح شعبها، وكحد أدنى وفية لوعودها السلمية، أن تُجري مراجعة حقيقية لنهجها، وبعد ذلك أن تستخلص العِبَر بما يخدم الحقوق الوطنية الفلسطينية. إلا أنها لم تكتفِ بتجاهلها للقيام بالمراجعة، بل تابعت نهجها السابق، كأن شيئاً لم يكن، ومن ثم أوغلت في مسارها الذي يمثل خطراً متعاظماً على مستقبل الشعب الفلسطيني.
أما بالنسبة إلى الإسرائيلي، فقد كانت هذه الفترة وقت عمل جاد لتكريس واقعٍ يصعب على أي اتفاق مستقبلي تجاوزه. ولقد استطاع أن يحقق نقاطاً عديدة لمصلحته، أهمها بناء المستوطنات بتسارع أكبر مما كان في فترة «الحرب». كذلك نجحت إسرائيل في جعل هذه المستوطنات واقعاً مسلّماً بوجوده حتى لو كان بحجة مقايضتها بأراضٍ في الـ 48. علماً أن هذه المستوطنات والطرق التابعة لها ابتلعت جزءاً كبيراً من أراضي الضفة الغربية الاستراتيجية، مما يجعل تصور قيام دولة فلسطينية مستحيلاً.
أما النجاح الأكبر لإسرائيل، فكان في جعل الطرف الفلسطيني يقدم التنازل تلو التنازل، حتى بات لا يملك أية ورقة أو عنصر قوة في المفاوضات، كما نجح في فصل الضفة الغربية وقطاع غزة عن بعضهما بعضاً وتعميق الشرخ الفلسطيني الفلسطيني.
منذ أيام بدأت جولة جديدة من المفاوضات، وعلى جدول أعمالها قضايا ما يسمى الحل النهائي، أي القضايا التي من أجل حلها كان قد جرى توقيع اتفاق أوسلو في الثالث عشر من أيلول من سنة 1993. عشرون عاماً مضت، لا أجد لها وصفاً أجمل وأدق مما قاله الشاعر الكبير نزار قباني:
عشرون عاماً فوق درب الهوى
ولا يزال الدرب مجهولاً
فمرة كنت أنا قاتلاً
وأكثر المرات مقتولاً
عشرون عاماً .. يا كتاب الهوى
ولم أزل في الصفحة الأولى
صدق نزار قباني. عشرون عاماً ولم نزل في الصفحة الأولى، عشرون عاماً ولم نزل نجاهد لحفظ حروف أبجدية السلام مع العدو، عشرون عاماً وطفل أوسلو لم يزل يتعثر وهو يتعلم المشي على طريق السلام، عشرون عاماً ونحن في متاهة وأوهام لا متناهية. عشرون عاماً نحو الدولة التي قال فيها الشاعر الكبير محمود درويش
ما أوسع الثورة... ما أضيق الرحلة... ما أكبر الفكرة... ما أصغر الدولة!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2165450

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165450 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010