الاثنين 28 حزيران (يونيو) 2010

أميركا اختارت لنفسها الاستراتيجية «الناعمة» ولإسرائيل «الخشنة»؟

الاثنين 28 حزيران (يونيو) 2010 par د. عصام نعمان

للولايات المتحدة استراتيجيتان: واحدة «خشنة» وأخرى «ناعمة». الخشنة تنطوي على استعمال القوة بكل آلياتها وأدواتها. إنها، باختصار، استراتيجية الضرب والحرب. الناعمة تنطوي على استعمال شتى آليات وأدوات الدبلوماسية والاستخبارات والعقوبات الاقتصادية والفتن الطائفية والإثنية. إنها باختصار، استراتيجية التفريق والتمزيق.

تقوم الإدارات الأميركية المتعاقبة باستخدام الاستراتيجيتين الخشنة والناعمة بالتناوب حسبما تتطلبه أغراضها السياسية والاقتصادية والعسكرية والظروف المحلية والإقليمية والدولية المتغيّرة.

عقب اجتياح العراق للكويت عام 1990، اعتمدت الولايات المتحدة (إدارة جورج بوش الأب) الاستراتيجية الخشنة، واستبقت دخول جيوشها الكويت في 25/2/1991 بشن حرب جوية وصاروخية على العراق اعتباراً من 17/1/1991 أدت إلى تدمير قواعده العسكرية وبنيته التحتية ومنشآته الاقتصادية والصناعية.

بعد وقف القتال، لجأت إدارة بوش إلى استخدام الاستراتيجية الناعمة بفرض الحصار على العراق نحو 13 عاماً من خلال اعتماد آلية «النفط مقابل الغذاء» الأمر الذي أدى إلى إضعافه وتقويض قدراته الاقتصادية والعسكرية.

ما أن تمكّن العراق من الالتفاف على الحصار ومفاعيله الاقتصادية من خلال اتفاقيات مناطق التجارة الحرة مع دول الجوار حتى بادرت إدارة جورج بوش الابن إلى اعتماد الاستراتيجية الخشنة بشن الحرب عليه في ربيع عام 2003 بدعوى امتلاكه أسلحة دمار شامل وتعامله مع تنظيم «القاعدة».

لكن أميركا نفسها أكدت، بعد احتلاله، عدم وجود أسلحة دمار شامل لديه، وأن لا علاقة لقيادته السياسية مع «القاعدة». فالأغراض الحقيقية لاحتلال العراق كانت، وما زالت، تدميره وتفكيكه خدمةً لـ «إسرائيل»، وضمان الاستحواذ على نفطه الهائل لكون احتياطه منه الأكبر في العالم، والتمركز فيه لتطويق إيران وتحجيمها، وتحسين فرص الولايات المتحدة لإخضاع طالبان و«القاعدة» في أفغانستان.

إذ أخفقت الاستراتيجية الخشنة في إخضاع العراق، لجأت أميركا إلى الاستراتيجية الناعمة، فعقدت اتفاقية أمنية مع حكومة نوري المالكي للخروج منه، مع إبقاء قواعد عسكرية لها خارج المدن، وإنهاء الاحتلال في عام 2011.

كل ذلك من أجل توفير القوات الأميركية اللازمة لمضاعفة عمليات الحرب ضد طالبان في أفغانستان وتمديدها إلى باكستان حيث لطالبان رديف محلي فاعل.

لا تكتفي الولايات المتحدة باستخدام الاستراتيجيتين الخشنة والناعمة أصالةً بل تلجأ إلى استخدامهما وكالةً من خلال «إسرائيل». ففي عام 2006 أوعزت إدارة بوش الابن إلى «إسرائيل» بشن الحرب على لبنان والمقاومة الإسلامية (حزب الله). غير أن «إسرائيل» أخفقت، طيلة 33 يوماً من الحرب الجوية والبحرية والبرية، في تحقيق أي تقدم، فاندحرت بعدما تكبدت خسائر فادحة، بشرية واقتصادية. كذلك أخفقت «إسرائيل» في حربها الوحشية على قطاع غزة أواخر 2008 ومطالع 2009.

بعد فشل الاستراتيجية الخشنة ضد لبنان والمقاومة لجأت أميركا و«إسرائيل» إلى اعتماد الاستراتيجية الناعمة في محاولةٍ لتفكيك لبنان بإثارة الفتن الطائفية والمذهبية أملاً بإكراه حزب الله على الاستدارة لحماية ظهره من أعدائه الناشطين ضده وبالتالي لإضعافه وتشتيت قواه.

لكن المقاومة والقوى الوطنية الحليفة تمكنت من مواجهة الاستراتيجية الناعمة على جميع الجبهات الأمر الذي اضطر أعداءها إلى المشاركة في مؤتمر قطر ربيعَ عام 2008 والموافقة تالياً على تنفيذ اتفاق الدوحة القاضي بانتخاب مرشح توافقي لرئاسة الجمهورية (ميشال سليمان) وعلى تأليف حكومة توافق وطني نصفها لقوى المعارضة.

إذ تعثّرت الاستراتيجية الخشنة في أفغانستان من جهة وأخفقت مساعي أميركا وأوربا لشل البرنامج النووي الإيراني من جهة أخرى، لجأت إدارة أوباما إلى تصعيد الاستراتيجية الناعمة ضد إيران بفرض عقوبات قاسية عليها عبر مجلس الأمن لتكون بديلاً من الحرب. ولم تكتف الولايات المتحدة بالعقوبات الدولية بل شفعتها بفرض حزمة واسعة من العقوبات الإضافية، صادق عليها أخيراً كل من مجلسي الشيوخ والنواب.

وتأمل واشنطن أن تقترن عقوباتها بعقوبات أخرى تفرضها دول الاتحاد الأوروبي وكندا واستراليا.

تهدف العقوبات الأميركية، بالدرجة الأولى، إلى وقف واردات إيران من منتجات النفط المكرر، والحدّ من الاستثمارات في قطاع الطاقة، وتقييد استفادة إيران من النظام المصرفي العالمي. وتمنع حزمة العقوبات الشركات التي تزود إيران مشتقات النفط المكررة مثل البنزين ووقود الطائرات، من دخول الأسواق الأميركية.

وتستهدف العقوبات كذلك الشركات التي تتعامل مع قطاع الطاقة الإيراني بما فيها الشركات الأميركية التي تقدم خدمات التمويل والتأمين والشحن. كما تصل العقوبات إلى حد منع المصارف غير الأميركية من استخدام النظام المالي الأميركي في حال تعاملها مع الشخصيات والكيانات الإيرانية المدرجة على القائمة السوداء بما فيها الحرس الثوري الإيراني «الباسدران»، والكثير من المصارف، واستهدافهم بعقوبات مثل منعهم من السفر وتجميد أرصدتهم.

يستخف المسؤولون الإيرانيون بالعقوبات الدولية والعقوبات الأميركية الأقسى منها، ويجزمون بقدرة إيران على تجاوزها كما حدث في الماضي. والواقع أن بعض العقوبات غير مؤثر البتة وبعضها الآخر ممكن معالجته بقليل من الخسائر.

في هذا المجال، يعتقد خبراء ومراقبون مطّلعون أن في وسع إيران الاستفادة من جيرانها، لاسيما تركيا وأذربيجان والعراق وباكستان وتركمنستان، لتمرير كميات كافية من النفط المكرر، وكذلك نقل كميات إضافية بواسطة ناقلات تابعة لها أو مستأجرة منها شريطة أن تتمكن من حمايتها بقطع من أسطولها وعدم تعرض الأسطول الأميركي الخامس لها.

وقد تلجأ إيران - وهي قادرة - على اعتراض بعض ناقلات النفط المتجهة إلى أوروبا وأميركا في مياه الخليج وبحر عمان وتفتيشها أو، على الأقل، خلق المتاعب لها وتأخير مسيرتها ما يحمل الدول المنتجة للنفط كما الدول المستهلكة لهذه المادة الاستراتيجية على التغاضي عن تطبيق العقوبات في هذا المجال والتوصل إلى تسويات مع إيران حفاظاً على تدفق النفط والحصول عن العائدات المرتجاة من تصديره.

كذلك يأمل الإيرانيون الالتفاف على النظام المصرفي العالمي من خلال التعامل مع بنوك إسلامية في دول إسلامية مجاورة، كما من خلال شركات صورية تحمل جنسيات دول مختلفة.

إلى ذلك، ثمة بعد آخر لمفاعيل هذه العقوبات هو أنها جزء من مخطط متكامل وضعته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لإضعاف إيران متعددة الإثنيات (الفارسية والعربية والكردية والبالوشية والأذرية والتركية وسواها) من خلال إثارة واستغلال العصبيات القومية والفروقات المذهبية والمشارب الثقافية المختلفة والخلايا التخريبية والإغراءات المالية.

هل الاستراتيجية الناعمة التي تعتمدها أميركا حالياً هي مجرد تمهيد للانتقال إلى الاستراتيجية الخشنة كما حدث للعراق العام 2003؟

الأمر يتوقف على ردة فعل إيران على العقوبات الدولية والأميركية ومدى استعداد الولايات المتحدة للتصلب أو التراخي إزاءها. ذلك أن لجوء إيران، مثلاً، إلى تفتيش سفن أميركية وأوروبية مقابل تفتيش السفن المتجهة إلى موانئها قد يتسبب بصدامات عسكرية وربما بحرب. غير أن تعثر أميركا في حربها الأفغانية، واستمرار أزمتها الاقتصادية الداخلية، وارتفاع دينها العام إلى ما يربو على 13 تريليون دولار، واحتمال تضرر المنشآت النفطية وتوقف تدفق النفط ونقله عبر مضيق هرمز في حال نشوب حرب، كل ذلك يشكّل روادع قوية للجم تورط الولايات المتحدة أو توريطها في تمرين جديد ومكلف للاستراتيجية الخشنة.

أقول توريط أميركا في حرب جديدة لأن شواهد وقرائن عدة تشير إلى أن لـ «إسرائيل» مصلحة في ضرب إيران ووقف صعودها المطرد، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. فهل خيار الحرب أو افتعالها متاحان لـ «إسرائيل»؟

ثمة رؤية استراتيجية يتلاقى على اعتمادها أو التحذير منها بعض المحللين الاستراتيجيين في «إسرائيل» والمنطقة والعالم. بحسب هذه الرؤية، يخشى محللون عدة أن تنتهز «إسرائيل» ذروة احتدام الصراع بين أميركا وإيران، أثناء تطبيق العقوبات، لتوقيت حرب صاعقة وخاطفة ضد حلفاء إيران الإقليميين، أي قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية وسوريا. إن دوافع «إسرائيل» إلى شن الحرب، وفق تحليل هؤلاء المحللين، ثلاثة:

الأول: أن الزمن لا يعمل لمصلحة الكيان الصهيوني. فأعداء إسرائيل، العرب والإيرانيون والأتراك وشعوب إسلامية أخرى، ينهضون ويتقدمون، ومن شأن تقدمهم واتحادهم أن يشكّل خطراً داهماً على الكيان الصهيوني. من هنا تنبع الفكرة القائلة بأن تتغدى «إسرائيل» أعداءها قبل أن يتعشوها.

الثاني: أن إيران ستكون مشغولة ومنهمكة في التصدي لأميركا وعقوباتها، فلا تتوافر لها الإرادة والقدرة على مساعدة حلفائها الإقليميين الأمر الذي يمكّن «إسرائيل» من استفرادهم.

الثالث: أن أميركا الغارقة في هموم حروبها المتعثرة في العراق وأفغانستان وباكستان، والعاجزة في ظل رئاسة أوباما المتراجعة شعبياً وسياسياً والعالقة في حمأة أزمة اقتصادية مستمرة، قد تجد مخرجاً لمأزقها ومصلحة لها في إعطاء «إسرائيل» ضوءاً أخضر لشن حرب خاطفة وصاعقة على حلفاء إيران الإقليميين بغية إخراجهم من حلبة الصراع وبالتالي إضعاف نظام الجمهورية الإسلامية داخلياً وتقويض دوره إقليمياً.

هذه الدوافع الثلاثة تبدو جدية وخطيرة ومشجعة لـ «إسرائيل» على القيام بمجازفة محسوبة ضد أعدائها الإقليميين.

غير أن نظرة متأنية إلى الواقع، من حيث نسبة القوى وميزان الإرادات المتصارعة، يشي بحقائق من شأنها لجم الدوافع الثلاثة المار ذكرها وإنتاج حقائق إضافية مغايرة لتوقعات «إسرائيل» في حال انزلاقها إلى مجازفة محسوبة أو غير محسوبة.

أولى الحقائق أن إيران احتسبت بدقة ما تضمره لها أميركا و«إسرائيل»، وأنها وضعت في الحسبان إمكانية استخدام الاستراتيجية الخشنة ضدها، سواء في الخليج أو في بلاد الشام بما هي جوار إسرائيل الجغرافي والجيوسياسي، وأنها قررت الانخراط مع حلفائها الإقليميين، سوريا وقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية، في حرب شاملة للرد على «إسرائيل» وعلى كل من يساندها عسكرياً ولوجستياً، وان خيار الرد بالحرب الشاملة (التي اتفق الرئيسان بشار الأسد ومحمود أحمدي نجاد وقائد المقاومة اللبنانية السيد حسن نصرالله على اعتمادها في قمتهم الأخيرة في دمشق) من شأنه ردع أميركا وخاصةً «إسرائيل» عن اللجؤ إلى خيار الحرب، وان مجرد التفكير في ما يمكن أن يلحقه هذا الخيار بـ «إسرائيل» وبمصالح أميركا من دمار وخسائر كفيل بردعهما عنه.

ثانية الحقائق أن سوريا تشاطر إيران رأيها في طريقة مواجهة «إسرائيل» إذا ما قررت استفراد قوى المقاومة، ذلك أن سوريا ستبادر بلا تردد إلى خوض الحرب إذا ما هاجمت «إسرائيل» لبنان وقوى المقاومة الناشطة فيه لعلمها أن النهج الأفعل للدفاع عن أمنها القومي هو اعتبار أي هجوم على لبنان والمقاومة هجوماً يهددها في أمنها وحاضرها ومستقبلها، وذلك كي لا تصحّ فيها، لا سمح الله، مقولة «أُكلتُ يوم أكل الثور الأبيض».

ثالثة الحقائق أنه في مقدور قوى المقاومة اللبنانية، ناهيك بسوريا عند خوضها الحرب إلى جانبها، أن تُلحق بـ «إسرائيل» دماراً وخسائر هائلة، بشرية ومادية، وأن لا سبيل أمام الكيان الصهيوني لشن حرب خاطفة وصاعقة لكون الحرب التي ستشنها المقاومة وسوريا رداً على «إسرائيل» هي مِن طراز الحرب الشاملة، الطويلة، والمدمرة ما سيؤدي إلى تغيير وجه المنطقة، كما أكد السيد حسن نصرالله.

الكرة في ملعب «إسرائيل»... فكيف تلعبها في أولمبياد الشعوب الحرة والمصممة على صناعة النصر بعقولها وأيديها وأرجلها؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 64 / 2165266

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2165266 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010