الخميس 15 آب (أغسطس) 2013

من الانتصار في الحرب إلى الحرب على الانتصار

الخميس 15 آب (أغسطس) 2013 par معن بشور

لم تكن الساعة الثامنة من صباح يوم الاثنين في 14 آب 2006 لحظة عادية في حياة لبنان والأمّة، بل كانت لحظة استثنائية تاريخية بكل ما في هذا الوصف من دقة، لأنها كانت لحظة انتصار عسكري وأمني وسياسي وإعلامي فارقة حين تجاوز فيها لبنان ذلك الفارق الهائل في موازين القوى بين مقاومة محدودة العدد والعدّة وبين عدو كان حتى تلك اللحظة مسكوناً بغطرسة وعنجهية وإحساس بفائض قوة ظن معه أن لا يمكن لأحد، جيشاً أو دولة أو مقاومة، أن يفكر بمواجهته...
ألا يذكرنا ذلك الانتصار “بمعركة بدر” التي أحيانا ذكراها مؤخراً في يوم مبارك من أيام شهر رمضان “17” وتذكّرنا معها “كم من فئة قليلة هزمت فئة كثيرة بإذن الله” (صدق الله العظيم).
الشاهد الأول على ذلك الانتصار كان في أن الطلقة الأخيرة في تلك الحرب كانت للمقاومة، تماماً كما كان للمقاومة أيضاً القول الفصل في المعركة الدبلوماسية الحضارية التي كانت تسير جنباً إلى جنب مع المعركة العسكرية، فنرى مناورات سياسية وقرارات دولية تتراجع أمام صلابة موقف شعب صغير، تماماً كما كانت تتراجع مدرعات العدو، وتُقصف بوارجه، وتجن طائراته أمام حفنة من مقاتلين بواسل آمنوا بربهم فزادهم هدى وإيماناً وصلابة وبسالة أعادت كتابة تاريخ وطنها منقوشاً ببطولات تجلّت في قرى وبلدات ووديان وسهول ومرتفعات وبسواعد أبطال لم يعرفوا الاستكانة أو الراحة أو الهدوء لحظة واحدة على مدى ثلاثة وثلاثين يوماً، فاستشهد بعضهم وما زال البعض الآخر ينتظر وما بدلوا تبديلا.
والشاهد الثاني على ذاك الانتصار المؤزر أيضاً هو تلك العودة المذهلة في سرعتها لمئات الآلاف من أبناء الجنوب النازحين إلى قراهم، ليناموا قرب منازلهم المهدّمة لأنهم أدركوا أن أي لحظة تأخير في العودة ستعطي العدو والمراهنين عليه فرصة للتشكيك بالانتصار ولاستمرار الحرب على انتصار المقاومة تلك.
أما الشاهد الثالث على ذلك الانتصار غير المسبوق في صراعنا المصيري مع العدو الغاصب فكان في تلك الوحدة التي تجلّت بين اللبنانيين جميعاً الذين فتحوا مدنهم وبلداتهم وقراهم، مدارسهم وكنائسهم ومساجدهم، لأهلهم النازحين من أرض المعركة، بل الوحدة التي تجلّت باستقبال السوريين لأخوتهم اللبنانيين فلم ينصبوا لهم خيمة، ولم يتبرموا من استضافتهم، بل فتحوا لهم القلوب قبل البيوت ليؤكّدوا على حقيقتين خالدتين هما وحدة وطنية لبنانية لا تتأثر بأحقاد السياسيين ومؤامراتهم الوضيعة، ووحدة عربية قومية تؤكّد أننا أبناء أمّة واحدة ولو كره الكارهون.
أما الشاهد الرابع على الانتصار أن الشعب اللبناني لم يترك مقاوميه وحدهم في الميدان، ولم يحصر المواجهة في ساحات القتال، بل هبّ هذا الشعب بجمعياته النظيفة، ووسائل إعلامه الصادقة، وسياسييه الوطنيين،ومثقفيه الاحرار، لينخرط كله في المعركة سواء بإغاثة نازح، أو إسعاف جريح، أو تشييع شهيد، أو إعلان موقف، أو تغطية إعلامية لمجزرة أو حدث، فبات لبنان كله أشبه بلوحة جميلة متعدّدة الألوان والزوايا وأن بقيت الزاوية الأكثر إضاءة هي تلك المشتعلة بنار الميدان والملونة بدماء الشهداء.
الشاهد الخامس على الانتصار أيضاً جاء من العدو نفسه، الذي هلع إلى حليفه الأكبر في واشنطن متوسلاً إليها أن توقف ضغطها عليه للاستمرار في الحرب التي أثخنت جراحه، وهزمت أجناده، وعرّت عنجيته، بل لكي تمارس ضغطها من أجل وقف النار بعد أن تحوّلت وقائع المعركة من هزيمة للعدو إلى أخرى، وبعد أن تدحرجت رؤوس اسرائيلية من الأصغر رتبة إلى الأعلى، ليعود السؤال المصيري يطرح نفسه بقوة على سكان “الكيان”: هل ما زال كياننا قابلاً للحياة؟ وهو سؤال ظن الصهاينة أنهم طووه إلى غير رجعة منذ “انتصارهم” في مؤامرة دولية كبرى، أسموها هزيمة حزيران 1967، وخصوصاً بعد أن تكشفت خيوط تلك المؤامرة يوماً بعد يوم دون أن نغفل أبداً أن من أسباب نجاح هذه المؤامرة، كما كل مؤامرة، هو وجود خلل في بنانا وعلاقاتنا ونظامنا السياسي يمكّن لتلك المؤامرة أن تتسرّب من ثقوبه.
ولم يكن سهلاً أن يسلّم العدو ومعه الحلفاء والشركاء والعملاء بهذا الانتصار الذي هزّ مشاعر الأمّة كلها، وأسس لانتصارات أخرى سواء ضد العدو نفسه في حربي غزّة، أو على حماة هذا العدو وشركائه من أنظمة التبعية والفساد والاستبداد الذين كسر مواطنوها، لاسيّما الشباب منهم، حاجز الخوف بعد أن رأوا شباباً مثلهم في لبنان وفلسطين والعراق يكسرون حاجز الخوف من أقوى جيوش العالم وينتصرون عليها.
لذلك كان لا بد من التشكيك بحصول هذا الانتصار أساساً، بل والسعي عبر منظوماتهم السياسية والإعلامية والثقافية إلى تصويره كهزيمة جديدة للأمّة... لكن انوار الحقيقة كانت أقوى من كل أضاليلهم، فسحبوا دعاويهم المفتقرة إلى الحد الأدنى من الصدقية، لينتقلوا إلى المرحلة الجديدة والمستمرة من “حربهم على الانتصار” عبر حربهم على أسباب هذا الانتصار.
وكان لهذا الانتصار سببان واضحان اولهما سلاح المقاومة الذي بات وجوده لا يشغل بال العدو الإسرائيلي وحده، بل كل من يدعمه أو يرى في قوته دعماً لوجوده، وثانيهما معادلة الشعب والجيش والمقاومة التي لا تشكل معادلة ميدانية عسكرية مجرّدة، بل تشكل أيضاً معادلة فكرية إستراتيجية وتاريخية تنهي ذلك التناقض المفتعل بين جيوش نظامية، ومقاومة شعبية، بل بين الجيوش والمقاومة وبين حاضنها الأكبر الشعب.
ولقد انكشف تهافت منطق الراعشين من المعادلة الثلاثية حين ظهر للعيان أن رغبتهم بالتخلص من سلاح المقاومة لم يقرنوه لحظة واحدة باستعداد لدعم سلاح الجيش نفسه، بل بقوا منفذين بكل دقة لأوامر واشنطن وحليفاتها بمنع تسليح الجيش اللبناني، ثم أن بعضهم كشف موقفه الحقيقي من الجيش عبر استهدافه بكل الوسائل، وفي كل المناطق، منفذاً إستراتيجية صهيونية – أمريكية باتت واضحة وهي إنهاء الجيوش العربية كلها، لاسيّما المحيطة بالكيان الصهيوني أو التي شاركت في حروب ضده، فكان حلّ الجيش العراقي أولاً، ثم محاولة تدمير الجيش السوري، وإشعال فتنة تطيح بالجيش المصري، ناهيك عما واجهته جيوش الجزائر وليبيا والسودان واليمن وما يواجهه هذه الأيام جيش تونس.
أما الشعب، مصدر السيادة وصاحب القرار، فهم يوسعوه نهباً وسلباً وسرقات وصفقات، فإذا اتفقوا فعليه، وإذا اختلفوا فهو من يدفع الثمن من استقراره ورزقه ودم أبنائه أيضاً في فتن متنقلة مادتها تحريض طائفي ومذهبي بغيض، وقادتها سياسيون يغلبون مصالحهم الذاتية على مصالح الوطن والشعب.
وبدأ يتضح أيضاً وأيضاً أن الحرب ليست فقط على معادلة الشعب والجيش والمقاومة، كمعادلة ضامنة لاستقلال الوطن واستقراره، بل هي حرب على كل طرف من أطراف هذه المعادلة، فالمقاومة ومن معها باتوا أعداء، فيما المحرضون غافلون عن العدو الحقيقي حتى لا نقول متواطئين معه، والجيش بات ممنوعاً من مصادر القوة والقدرة بل معرضاً لكل حملات التجييش ضده والتحريض ضد تماسكه، أما الشعب بما يتعرض له من قهر اجتماعي، وتجويع معيشي، وإذلال اقتصادي، وتحريض طائفي ومذهبي، وتركيع سياسي، فإنه المستهدف بذاته ولذاته، كما بعناصر قوته في الجيش والمقاومة.
وبتنا نعيش اليوم مرحلة “الحرب على الانتصار” كرد على “الانتصار في الحرب”، وهي حرب تحتاج منّا إلى تعزيز الوحدة المقرونة بالوعي بين أبناء شعبنا، والى شجاعة على مراجعة الثغرات لا تقل عن شجاعة مواجهة العدو، والى ثقة لا تهتز بأبناء شعبنا وأمّتنا، بل وأحياناً الى أن نتذكر أن أفضل وسائل الدفاع هي الهجوم...



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 40 / 2178090

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

22 من الزوار الآن

2178090 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 22


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40