الأربعاء 31 تموز (يوليو) 2013

مثقف اليوم

الأربعاء 31 تموز (يوليو) 2013 par د. عبدالحسين شعبان

يكثر الحديث اليوم، ولا سيّما بعد التغييرات التي شهدتها بعض البلدان العربية، عن المثقف ودوره، خصوصاً في موضوع المثقف والسلطة والمثقف والسياسة، والعلاقة بين الثقافة والسياسة، والمثقف والأيديولوجيا، والمثقف والدين، أو العلاقة بين الثقافي والديني . فمن هو المثقف؟

ما نقصده بكلمة “مثقف” أو ما يندرج في إطارها، إنما هو مصطلح مستحدث في اللغة العربية من أصل كلمة Intellectual وهذه تعود إلى اللاتينية، حيث كان العرب لوقت قريب يستخدمون مصطلح “الأديب” أو تطلق لفظة “الكاتب” على ما نقصده بالمثقف اليوم أو ما يقع في دائرته . وكان الكاتب يمثّل سلطة الفقيه الديني أو رجل الدين أو “الأيديولوجي” بالمعنى العصري، لا سيّما في الترويج لخطاب الحاكم مع “الرعية” أو “المواطنين” بلغة الدولة الحديثة، أو أحياناً المعارض الذي يعبّر عن تطلّعات العامة في مواجهة الحاكم، ولهذا فقد كان موقف المثقف كما هو في كل العصور حرجاً ودقيقاً وأحياناً ملتبساً، فإذا ما غضب عليه الحاكم، فقد ينتقل إلى خصم له، وهكذا يتحوّل سلاحه من الدفاع عن الحكم وأهله وتزويغ الخطاب الرسمي، إلى معارضة وتمرّد وتحريض . وقد يدفع الثمن باهظاً في الحالتين .

أما اليوم فقد اختلف الأمر كلّياً، فلم تعد سلطة “الكاتب” القديم (المثقف) “الجديد” تستمد قوتها من الدين (وإنْ كان له قوامه الخاص وتأثيره الكبير، لا سيّما في دول العالم الثالث)، حيث أخذ المثقف بالمصطلح الحديث تدريجياً يؤثر في الرأي العام، ويساهم في تنمية العقل والوجدان وفي تجسيد الأخلاق ونشر الأفكار، مع أن هذه المكانة تصطدم في أحيان كثيرة بدور السياسي وموقعه في سلطة القرار، على خلاف العالم المتقدم والدول الديمقراطية، حيث يتعاظم دور الثقافة في الحياة العامة، فإن مثل هذا الدور والتأثير لا يزال محدوداً جداً في “الدول النامية” أو بلدان “العالم الثالث”، خصوصاً، ويُراد للمثقف في الكثير من الأحيان أن يكون ملحقاً للسياسي، لا سيّما من هو في السلطة، وأحياناً ألحقت المعارضات السياسية، المثقف بها ليس كشريك في صنع القرار، بقدر كونه مكمّلاً لتزيين خطابها السياسي أو الأيديولوجي .

صحيح أن للسلطة السياسية أدواتها ووسائلها لبسط نفوذها وفرض هيبتها، إلاّ أن معرفة المثقف تعد “سلطة”، فالمعرفة على تعبير المفكر والفيلسوف البريطاني بيكون “سلطة”، أي أن سلطة المثقف، هي معرفته ووسيلته الإبداعية لنشر ثقافته وبسط سلطانه، وكما يقال، المعرفة: قوة أو سلطةKnowledge is power ، إلاّ أن سلطة المعرفة تختلف عن السلطة السياسية والعسكرية من حيث التأثير والسلطان والجبروت، إذْ إن الأخيرة تمتلك أدوات القمع وبإمكانها أيضاً استخدام أدوات المعرفة والثقافة لفرض سلطتها القمعية .

وقد استخدمت الكثير من الأنظمة على نحو مترابط القمع السياسي البوليسي مرافقاً للقمع الأيديولوجي والثقافي، الأمر الذي أوقع الكثير من المثقفين في حرج والتباس، خصوصاً عند تأدية وظيفتهم الإبداعية، وهو ما يتطلّب من المثقف أن يحترم وسيلته الإبداعية وينأى بنفسه عن الاستخدام التوظيفي لثقافته، من جانب السلطات لإضفاء مشروعية على القمع السياسي . والمثقف الذي لا يخدم معرفته وثقافته، فإنه لا يحترم سلطتها، أو إنه يتنازل عنها، لحساب غيره، وبالتالي فإنه سيكون مهدداً بفقدان حريته .

فمن هو المثقف اذاً بعد هذه التوصيفات وما حدود حريته الفكرية؟

أذكر نموذجين من المثقفين، الأول حسب توصيف غرامشي فهو “كل إنسان في النهاية، يمارس خارج مهنته، فعالية ثقافية ما، فهو فيلسوف، فنان، صاحب رأي، إنه يشارك في تقديم تصوّر عن العالم، له سلوك أخلاقي واع إنه إذن يساهم في دعم تصوّر ما عن العالم أو تعديله، أي أنه يساهم في ميلاد أنماط جديدة للتفكير” .

أما النموذج الثاني، فهو الذي أخذ به سارتر، الذي لا يميل إلى إضفاء صفة المثقف على العالِم” . لن يُسمّى بالمثقف، العلماء الذين يشتغلون على تشطير الذرة لتحسين أسلحة الحرب الذرية، فهؤلاء علماء . . ولكن إذا اجتمع العلماء أنفسهم ووقّعوا بياناً يحذّر الرأي العام من استعمال القنبلة الذرية، فعندئذ يتحوّلون إلى مثقفين” .

وحسب المفكر الأنثروبولوجي البريطاني تايلور (أواخر القرن التاسع عشر ) فإن المثقف هو “ذلك الكلّ المعقد الذي يتضّمن المعرفة والقصيدة والأخلاق والقانون والتقاليد، وكل ما يكتسبه الإنسان باعتباره عضواً في مجتمع إنساني” .

لقد تحدّث ابن خلدون عن العمران بطوريه الحضري والبدوي، أي الحياة الاجتماعية بمختلف ألوانها وأشكالها، بما تعني الحضارة . وهو ما دعا إليه المفكر العربي المعاصر قسطنطين زريق حين اعتبرها “نمطاً من الحياة يتميّز بخطوط وألوان من التقدم والرقي” والمثقف مثلما ذهب إليه زريق بحاجة إلى معرفة وعقلانية والتصاق بقضايا المجتمع .

وقديماً قالت العرب: إن المتأدّب هو “من يعرف شيئاً عن كل شيء، ويعرف كل شيء عن شيء” . والأدب بمعناه الواسع الثقافة وهو “الأخذ من كل علم بطرف” . وباستعارة عنوان كتاب الدكتور أحمد صدقي الدجاني هو “عمران لا طغيان” .

وعندي إن المعنى الاجتماعي اليوم لكلمة “المثقف” يتسع ليشمل، كلّ من اشتغل بالثقافة إبداعاً ونشاطاً بما يتضمن العاملين في حقل العلوم الطبيعية والدين والفن والفلسفة والكتابة والصحافة والتأليف وغيرها .

ويواجه مثقف اليوم وخصوصاً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أربع سلطات:

السلطة الأولى هي من يمارس الحكم بصورة رسمية، وهذه السلطة تحاول أن تطوّع المثقف وتدجّنه بالإقناع أو بالاقتلاع . . بمحاربته بلقمة الخبز أو بمقص الرقيب أو بالعزل بعد التأثيم والتحريم والتجريم، وأحياناً بالتكفير أو السجن أوالنفي أو بكاتم الصوت، أي ب “القمع الفكري والأيديولوجي أو بالقمع البوليسي” . وقد استعارت بعض المعارضات وربما بالعدوى أخلاق الجلاد أحيانا .

السلطة الثانية هي السلطة الاقتصادية، خصوصاً لمن يملك المال، وهي سلطة مؤثرة في القطاع الخاص وتشمل مؤسسات الثقافة والإعلام، والبيوت الثقافية والمسارح والسينما وقاعات العروض ودور نشر الكتب وإصدار المجلات والصحف، إضافة إلى التلفزيونات والفضائيات وغيرها، وأصبح دور هذه المؤسسات أكبر من السابق في البلدان العربية والإسلامية، خلال السنوات العشرين الأخيرة، بحكم توجّه كوني فرضته العولمة .

أما السلطة الثالثة فهي السلطة التقليدية أو ما نطلق عليه الثيوقراطية الدينية، وهي وإنْ لعبت أدواراً إيجابية في تخريج النخب، الاّ أنها وقفت في بعض الأحيان ضد عمليات التطوّر والتحديث تحت عناوين مختلفة، فتراها تتدخل أحياناً في حرق الكتب وإباحة دم المثقف وتحريم الأفكار لدرجة أن الحداثة والشعر الحرّ يصبحان “بدعة وضلالاً”، فما بالك بالمسرح والموسيقى والنحت والرقص وغيرها .

وأصبحت بعض فتاوى التكفير “جاهزة” لتشمل مئات الأعمال الإبداعية والفنية والأنشطة الثقافية في إطار تفسيرات محدودة وقصيرة النظر ولا علاقة لها بخيال المبدع، وقد كان نصيب البلدان التي شهدت تغييرات في العالم العربي من هذه الموجة كبيراً، حيث تم استهداف أبناء الديانات الأخرى والتجاوز على حقوقهم المدنية، في إطار حملة تجريف لكل ما هو مختلف عن تفسيرات وتأويلات بعض الاتجاهات الإسلاموية . وتشهد اليوم بلدان عربية عدة مثل هذه التوجهات مثل مصر وتونس وسوريا والعراق وليبيا واليمن، وغيرها تحت عناوين الحفاظ على الدين أو تطهير المجتمع مما أصابه من تلوّث وقيم معادية له وللمذهب أحياناً .

أما السلطة الرابعة فهي قوة العادات والتقاليد وسكونية المجتمع الذي يستجيب للصوت الأعلى، ويضع الكثير من المعوّقات والعراقيل بوجه تأمّل الفكر وحريته، فضلاً عن استعارات المبدع ورمزياته التي لا يمكن قولبتها أو تقنينها ! . إن العادات والتقاليد تشكل أحياناً عائقاً أمام تقدم المجتمع، خصوصاً إذا وقفت حجر عثرة باعتبارها “سلطة” ضد أي تغيير، سواءً كان “الموروث” دينياً أو طائفياً أو عشائرياً أو اجتماعياً أو غير ذلك .

ومنذ أن طرح ادوارد سعيد في كتابه “صور المثقف” إشكالية الثقافة والسياسة، فإن الجدل تجدد واتّسع بالأساس حول دور “المثقف” ووظيفته بشكل عام، والمثقف العربي بشكل خاص، خصوصاً في ظلّ التغييرات الأخيرة، فضلاً عن التطورات العاصفة التي شهدتها العقود الثلاثة الماضية من العولمة في مرحلتها الجديدة والثورة العلمية -التقنية والتقدم الهائل في نظام المعلوماتية والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والطفرة الرقمية وإذا كان المثقف كثير الهموم وكبير التطلّعات وشديد الحسّاسية، فإن إحساسه بضرورة الحرية والفراغ الذي يتركه غيابها أو تقليص مساحتها يلقي عليه أعباء جديدة وضغوطاً ثقيلة، قياساً لما يتعرّض له غيره، وبالتالي فللحرية أو غيابها أثره وانعكاساته في فعله الثقافي ونشاطه الإبداعي، المعرفي والاجتماعي، وهو ما يعبّر عنه الشاعر الإسباني لوركا:

ما الإنسان دون حرية يا ماريانا؟

قولي لي كيف أستطيع أن أحبك إذا لم أكن حرّاً؟

كيف أهبك قلبي إذا لم يكن مُلكي؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 61 / 2165903

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2165903 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010