الأحد 28 تموز (يوليو) 2013

«سنودن» يمهّد لعودة الحرب الباردة إلى الواجهة

بقلم: هناء عليان
الأحد 28 تموز (يوليو) 2013

ما يزال مسلسل الموظف السابق في المخابرات الأميركية إدوارد سنودن، الذي كشف عن أكبر عملية تجسس تنفذها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد العالم، يتوالى تباعاً ويلقي بظلاله على العلاقات الديبلوماسية، ليس فقط الأوروبية – الأميركية، بل أيضاً العلاقات بين أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية، لاسيما بعد اتخاذ دول أميركا الجنوبية قرارات راديكالية منددة ببرامج التجسس هذه، مؤكدة تطوعها لمنح سنودن اللجوء السياسي.

ما فعله سنودن أعاد إلى الأذهان مرحلة حرب الجواسيس بين الولايات المتحدة وروسيا، واستحضر كتابات أدباء كبار مثل “جورج أورويل” الذي تحدث عن “الأخ الأكبر” الذي يراقب كل ما حولنا ويحصي أنفاسنا، والمفارقة أن الأخ الأكبر يتجسد اليوم في البلد الذي يزعم أنه الأكثر صوناً للحريات والخصوصيات، فالولايات المتحدة قررت أنه من حقها أن تنتهك حقوق العالم أجمع بالتجسس على دول لا تحصى في إطار صونها لأمنها القومي.

في الوقت الراهن، يلاحق القضاء الأميركي سنودن بتهمة التجسس ويحاول محاصرته حتى لا يحصل على اللجوء في أي مكان في العالم، علّ الولايات المتحدة تشفي بعضاً من غليلها جراء ما سببه لها.

تسريبات خطيرة

لقد سرب محلل الكمبيوتر، البالغ من العمر 29 عاماً، والذي كان يعمل لحساب شركة خاصة بوز ألن هاملتون التي تعاقدت معها وكالة الأمن القومي الأميركي، معلومات عن وجود برامج حكومية أميركية لرصد رسائل واتصالات الملايين من المواطنين، بحسب ما كشفه، فإن وكالة الأمن القومي قد شيدت البنية التحتية التي تسمح لها بالتجسس على كل شيء تقريباً، التنصت على الاتصالات والتجسس على المعلومات وتخزينها وتحليلها، الجميع مراقبون ومسجلون.

أسفرت الفضيحة التي كشف عنها سنودن سبباً لتوتر العلاقات بين الولايات المتحدة ودول عديدة في طليعتها روسيا، وقد مثلت حادثة سنودن فصلاً من سلسلة طويلة من الحوادث والتوترات بين الطرفين، لم تشهدها تلك العلاقات منذ أيام الحرب الباردة، وترفض الحكومة الروسية القبض على سنودن الذي هب إلى هونغ كونغ ثم إلى موسكو، بادّعاء أنه لم يعبر حدودها الدولية، وأنه ليس مجرماً في نظرها، بل مطالب بحقوق أساسية للمواطنين، خصوصاً أن موسكو لا تربطها اتفاقية لتسليم المجرمين مع واشنطن، وبالتالي فهي غير ملزمة بتسليمه.

وعن طريق اختراق خصوصية الاتصالات، يمكن للحكومة الأميركية الوصول إلى الملفات الخاصة بالمستخدمين، وملفات الصوت، والفيديو، والبريد الإلكتروني، والصور الفوتوغرافية، وبهذا أصبح برنامج المراقبة بريزم المصدر رقم واحد لوكالة الأمن القومي للمخابرات المستخدمة في التقارير التي تعرض على الرئيس الأميركي باراك أوباما على أساس يومي.

حرب باردة جديدة

السؤال الذي يطرحه المراقبون اليوم: هل يتسبب عميل الاستخبارات إدوارد سنودن في عودة الحرب الباردة مرة أخرى بين روسيا والولايات المتحدة؟ وهل يتسبب عجز الولايات المتحدة عن القبض على سنودن، في إضعاف هيبة القوة العظمى في العالم بعد أن شوه سمعتها كبلد الحريات المزعوم؟

لا يزال العميل السابق موجوداً في قاعة الترانزيت في مطار موسكو في روسيا، في الوقت الذي تطالب الولايات المتحدة بتسليمه لها تمهيداً لمحاكمته.

وعكست تصريحات مسؤولي البلدين عن بوادر خلاف وتوتر في العلاقات بينهما، حيث قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن بلاده لم يسبق لها أن سلمت أي شخص إلى بلد آخر، وليس لديها أي نية للقيام بذلك، مضيفاً أن سنودن يمكنه البقاء في موسكو إذا توقف عن تسريب معلومات عن برامج بلاده التجسسية، في الوقت الذي هدد فيه المسؤولون الأميركيون روسيا من عواقب عدم تسليمه، حيث طالب وزير الخارجية الأميركي جون كيري روسيا بتسليم سنودن، مؤكداً أن واشنطن لا تريد المواجهة، مع ذلك هناك من قرأ هذه التوترات على أنها بداية لحرب باردة جديدة بين الدولتين.

لا شك أن مسألة سنودن، الذي سرق كنزاً من أسرار الوكالة الأميركية الأكثر سرية، وسربها لصحيفة الغارديان البريطانية قبل أن يفر إلى موسكو، تساعد في إظهار مدى الضعف الذي تبدو عليه واشنطن من هذا الموقف، خصوصاً عندما تكون عاجزة عن فرض إرادتها.

اليوم، من الواضح أن الولايات المتحدة تخسر هيبتها بتحدي روسيا والصين لأوباما بسبب سنودن، ولا يستسيغ القادة الأميركيين ذلك، بحيث لا يستطيع أقوى رجل في العالم الإمساك بأحد أكثر الرجال المطلوبين في العالم، إذ إن خصوم واشنطن التقليديين يبدو أنهم يستمتعون بالضائقة التي تشعر بها إدارة أوباما.

وبرأي كثيرين، فإن مسلسل هروب سنودن يظهر ملامح حرب عالمية جديدة بدأت ظلالها تنكشف على صعيد عالمي، فبوقوفها بشكل واضح مع سنودن وموافقتها على تسهيل عبوره ومروره بالعاصمة موسكو بعد فراره من هونغ كونغ لتلافي طلب تسليمه إلى واشنطن، تكون روسيا بوتين قد سجلت بذلك نقطة أخرى في المعركة الأيديولوجية التي تخوضها ضد الديمقراطيات الغربية.

اليوم تتعامل موسكو وبكين مع سنودن باعتباره بطلاً قومياً، وذلك على الرغم من عدم دفاعهما عن الحريات العامة في خطاباتهما السياسية، ولكن هذه القضية تحديداً تفيدهما كثيراً في الرد على الاتهامات التي توجه لهما على نطاق واسع من قبل الولايات المتحدة بشأن أنشطة التجسس الإلكتروني وانتهاك حقوق الإنسان والحريات، وبالنسبة لروسيا خاصة هناك فصول أخرى من خلفيات المواجهة تلك المتعلقة باختلاف رؤية البلدين مع المواقف الغربية تجاه الأزمة السورية، وبصفة عامة، فإن قضية سنودن تظهر المدى الذي تبدي به موسكو وبكين استعدادهما للتصعيد في مواجهة الغرب.

أميركا اللاتينية

هذا وتتفاعل قضية إدوارد سنودن الذي كشف عن أكبر عملية تجسس تنفذها واشنطن ولندن ضد العالم، في أميركا اللاتينية إلى حد كبير، حيث تطوع عدد من دول المنطقة في تقديم اللجوء السياسي لسنودن، وبالتالي فإن ما فجره سنودن قد يلحق أضراراً غير متوقعة بمصالح الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية التي تعدها حديقتها الخلفية.

وفي تطور في ملف سنودن، كشفت المعلومات أن سنودن لديه آلاف الوثائق في حالة نشرها سيضع الولايات المتحدة في موقف حرج للغاية مع اللاتينيين، حيث إن هذه الوثائق تتضمن كيفية التجسس على كل دولة منها على حدة، وتشكل في الوقت نفسه، أحسن ضمانة لتفادي سنودن الاغتيال.

ولعل أكثر ردود الفعل شجباً وحدة قد صدرت عن أميركا اللاتينية، فالتحدي الكبير في ملف سنودن يأتي من الدول اللاتينية، بينما تمت لملمة المسألة داخل الاتحاد الأوروبي لمصالح أوروبا مع واشنطن، لقد التزمت أوروبا الصمت حيال المسألة بشكل يثير العجب، لكنها آثرت فعل ذلك خوفاً من الغضب الأميركي وتراجع التعاون الاقتصادي مع واشنطن، الأمر الذي قد يزيد أزماتها، وفي هذا الإطار يأتي تصريح وزير الدفاع الإسباني؛ بيدرو مورنيس الذي قال: “يجب أن نبحث قضية التجسس الأميركي ولكن لا ننسى أن الولايات المتحدة تساهم بـ70 في المئة في توفير الدفاع للاتحاد الأوروبي عبر الحلف الأطلسي”.

في المقابل، تبنت قمة دول ميركوسور، وهي فنزويلا والأوروغواي والبرازيل والأرجنتين، التي جرت في الأوروغواي مواقف متشددة تجاه الولايات المتحدة، فاجأت حتى الإدارة الأميركية، وذكرت تقارير أن واشنطن قلقة بسبب مشاركة البرازيل في المواقف الراديكالية، وهي التي كانت تتحفظ في كثير من مواقف أميركا اللاتينية تجاه البيت الأبيض، وكانت تنأى بنفسها عن موقف الدول اللاتينية اليسارية.

في هذا الصدد، أصدرت الدول الخمس المشكلة لميركوسور بياناً شديد اللهجة ضد الولايات المتحدة، تتهمها بالتجسس لا لأهداف مكافحة الإرهاب، بل لمعرفة المخططات المالية والعلمية لهذه الدول ودول العالم، ولتستعملها ضدهم.

كما دعا الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، إلى تعزيز أمن الإنترنت في المنطقة بعد المذكرات التي سربها سنودن عن أن واشنطن ضالعة في عمليات تجسس ضخمة في أميركا اللاتينية.

وظهر وزير خارجية فنزويلا إلياس جاوا في حوار تلفزيوني تجاهل فيه الضغوط الأميركية، وقال جاوا: “وزارة الخارجية والحكومة الأميركية يجب أن يعلما أن فنزويلا تعلمت دروسها منذ وقت طويل، وهزمت أي ضغوط من أي جزء في العالم”.

طلبات اللجوء

في الوقت ذاته، استدعت الدول الخمس سفراءها في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال للتشاور معهم بعد قرار هذه الدول المماطلة في الترخيص لعبور طائرة رئيس بوليفيا إيفو موراليس الأجواء الأوروبية، عائداً من موسكو بعد حضوره قمة منتجي الغاز، حيث كانت تعتقد هذه الدول الأوروبية أنه يحمل العميل سنودن معه على متن الطائرة.

ورغم تحذير واشنطن دول العالم بأنها لن تتساهل مع أي دولة إذا منحت اللجوء السياسي لسنودن، فقد تحدت بعض دول أميركا اللاتينية التحذير الأميركي وعرضت على عميل وكالة الأمن القومي اللجوء، وهي نيكاراغوا وفنزويلا وبوليفيا، ويبدو أن سنودن سيتقدم بلجوء سياسي إلى روسيا، بحسب ما أفادت مختلف وسائل الإعلام الروسية.

من جانبه، اتهم الرئيس البوليفي إيفو موراليس الاستخبارات الأميركية بأنها تسعى للحصول على المزيد من عناوين البريد الإلكتروني الخاصة بمسؤولين بوليفيين، بعدما تمكنت من الحصول على بعضها، ورفضت الحكومة البوليفية الموافقة على الديبلوماسي الذي رشحته الولايات المتحدة لتولي منصب سفير واشنطن لديها، وقال وزير الخارجية البوليفيي كارلوس روميرو، إن إجراءات الموافقة على المرشح جيمس نيلون تجمدت بسبب انتقاداته لبوليفيا وفنزويلا.

وقد دافع زعماء أميركا اللاتينية تباعاً عن حقهم في منح اللجوء لسنودن، معربين عن غضبهم إزاء مزاعم تجسس الولايات المتحدة في المنطقة، وعرضت فنزويلا وبوليفيا ونيكاراغوا، وجميعها دول ذات حكومات يسارية، اللجوء على سنودن.

ورفض زعماء أميركا اللاتينية “أي محاولة للضغط أو التضييق أو التجريم” من قبل أي طرف رداً على أي قرار لمنح اللجوء.

وتردد أن جون بايدن؛ نائب الرئيس الأميركي، قام بخطوة غير معتادة بالاتصال برافائيل كوريا؛ رئيس الإكوادور، لحثه على عدم إعطاء اللجوء السياسي لسنودن، كما أجرى مسؤولون كبار من وزارة الخارجية اتصالات مع فنزويلا لتحسين العلاقات وتبادل السفراء بعد سنوات من التوتر.

من جهتها، أبلغت السفارات الأميركية في جميع أنحاء المنطقة رسالة واشنطن بأن السماح لسنودن بدخول أميركا اللاتينية، حتى لو كان بشكل غير متوقع، سيكون له عواقب دائمة.

وذكر مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية “لا توجد دولة في هذا النصف من الكرة الأرضية لا تفهم موقفنا في هذه النقطة، وأن مساعدة سنودن من شأنها أن تجعل العلاقات سيئة للغاية لفترة طويلة قادمة”.

وأشارت المعلومات إلى أن واشنطن وجدت أن نفوذها في أميركا اللاتينية كان يقتصر فقط عندما تحتاج إليه، مما يعكس كيف أصبحت المنطقة التي كانت يوماً منطقة واسعة للقوة الأميركية لديها ثقة متزايدة في قدرتها على العمل بشكل مستقل، بعيد عن الرغبات والمصالح والأوامر الأميركية إلى حد متزايد وهو ما يقلق البيت الأبيض.

وصرّح مسؤولون أميركيون بالقول “نفوذنا في هذه المنطقة يتناقص، من المهم لإدارة أوباما ووزير الخارجية جون كيري تخصيص مزيد من الوقت للمنطقة، ودعم علاقاتنا مع بعض الدول المعتدلة مثل كولومبيا والبرازيل وبيرو، لمقاومة الحركة المناهضة للولايات المتحدة”، وذكرت مصادر مطلعة أن البيت الأبيض شعر بالحنق الشديد بسبب مواقف أميركا اللاتينية المتعنتة ورفضها الامتثال للرغبة الأميركية بعدم استقبال سنودن، وكأن الولايات المتحدة شعرت بحركة تمرد لاتينية، لذلك بدأ بعض السياسيين برسم سياسات لاستعادة النفوذ الأميركي في أميركا اللاتينية حتى لا تكون العواقب وخيمة في حال تم تجاهل هذا الإنقلاب في المواقف.

اعتذار أميركي

رغم أن جهات كثيرة كانت تعول على إصدار الولايات المتحدة اعتذاراً في بيان أو بشكل شفهي عبر أحد قادتها عما تم الكشف عنه من معلومات حول شبكة وطرق التجسس التي تستخدمها حول العالم، إلا أن الرد الأميركي جاء مخيباً للآمال إلى حد كبير، فقد قالت تقارير إخبارية صادرة عن الولايات المتحدة، إن واشنطن ليست مدينة بالاعتذار لأي شخص على خلفية ادعاءات التجسس من جانب مسرب المعلومات إدوارد سنودن.

وقالت جهات ديبلوماسية أميركية رفيعة المستوى أن العديد من ادعاءات سنودن اعتبرت أنها تخدم مصالح ذاتية ليكسب التعاطف لنفسه في الأماكن التي كان يعمل بها، “لكن لا نعتقد أننا ندين باعتذار لأحد، لا بل نعتقد أن الجذر الحقيقي للمشكلة هي أنه لدينا شخص ما انتهك ثقة الولايات المتحدة به، واختار خصوم الولايات المتحدة لكشف هذه المعلومات والأسرار، ليتحول إلى بطل عالمي على حساب مصالح الأميركيين وأمنهم القومي لا أكثر”.

ملف “سنودن”

انفجر ملف العميل الأميركي إدوارد سنودن عندما كشف عن أن الولايات المتحدة تمتلك برنامجاً للتجسس على العالم بدون استثناء، واسمه “بريزم” يتجلى في تقديم شركات أميركية مثل غوغل وآبل وسكايب والفايسبوك بيانات إلى الاستخبارات الأميركية، والبرنامج الثاني هو “تمبرا” ويتمثل في اعتراض الولايات المتحدة وبريطانيا كل مكالمات واتصالات العالم.

وقد تفاعل ملف إدوارد سنودن بشكل كبير، واتخذ أبعاداً جيوستراتيجية حقيقية بسبب هروب سنودن إلى الصين ثم روسيا، أي خصمي الولايات المتحدة اللذين يزاحمان واشنطن على النفوذ في العالم.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2165326

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

22 من الزوار الآن

2165326 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010