الأربعاء 24 تموز (يوليو) 2013

من “المدينة الفاضلة” إلى الفاشلة

الأربعاء 24 تموز (يوليو) 2013 par فيصل جلول

تشير التقديرات المتفاوتة عن كلفة حربي العراق وأفغانستان الأمريكيتين إلى 2 أو 3 تريليونات دولار، وهي كلفة غير مستقرة بعد إذا ما أضفنا إليها تكاليف معالجة الأمريكيين المصابين في الحربين والمقدر عددهم بعشرات الآلاف . ولعل التاريخ سيسجل أن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش جونيور قد اتخذ القرار الأكثر كلفة وفظاعة في تاريخ بلاده، إذ تسرع بشن الحرب الأفغانية ومن ثم البقاء في أفغانستان حيث كان يطلب منه التركيز على منظمة القاعدة والانتقام من المسؤولين عن هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 والعودة من حيث أتى . . بيد أن سهولة الانتصار في الحرب والاحتلال قد شجعت المؤسسة العسكرية على البقاء في هذا البلد، وشجعت بوش أيضاً على شن الحرب العراقية غير المبررة وغير الضرورية بالنسبة إلى الأمن الأمريكي وغير المفيدة إطلاقاً بالنسبة إلى بلاده والأكثر كلفة من الحرب الأولى .

وإذا كنا لا نعرف بدقة بعد حجم الفشل في إدارة الحربين المذكورتين ودوره في اندلاع أزمة الأسواق العالمية، وبالتالي في تراجع النفوذ الأمريكي بخاصة، والغربي عموماً، على الصعيد الدولي مقابل التقدم الروسي والصيني والبريكس ومعظم دول أمريكا اللاتينية، فإننا نعرف بشكل قاطع أن العالم بأسره قد تغير بعد الحربين المذكورتين، وأننا نعيش الآن ارتدادات ما جرى في كابول وبغداد على مجمل الشرق الأوسط، وتعيش الدول الغربية أزمات لم تتم فصولاً بعد، بخاصة في البلدان الغربية الضعيفة المناعة والوسائل شأن اليونان والبرتغال وإسبانيا وربما إيطاليا . . بل في الولايات المتحدة نفسها حيث هبت الأزمة العقارية أولاً ومن بعدها أزمات شتى وصولاً إلى إفلاس ديترويت المدينة التي كانت ترمز في منتصف القرن الفائت إلى الغنى والثروة، واليوم إلى الإفلاس والانهيار على كل صعيد، وذلك إلى حد أن خبراء أمريكيين يجزمون بأنها المرة الأولى التي تفلس مدينة كبيرة في تاريخ الولايات المتحدة منذ تأسيسها قبل أكثر من قرنين أما الذهاب أبعد قليلاً في المقارنة، فإنه يتيح القول إن ديترويت خرجت من باب “المدينة الفاضلة” لتدخل إلى باب المدينة الفاشلة بل المفلسة .

وحتى لا نلقي بأعباء حربي العراق وأفغانستان كافة على هذه المدينة، نسترجع مع خبراء مركز دراسات “بلاك روك” الأسباب السبعة التي تقف وراء إفلاسها، الأول منها يتصل بانخفاض عدد سكانها، فقد انتقلت ديموغرافياً من المدينة الرابعة في عدد السكان إلى خسارة 36 في المئة من أهلها خلال نصف قرن، وخسرت 25 في المئة منهم خلال السنوات العشر الأخيرة وحدها . والسبب الثاني يكمن في البطالة المرتفعة التي وصلت إلى 27 في المئة قبل سنوات قليلة، والسبب الثالث نجده في تداعيات السببين الأولين، حيث سجلت المدينة نسبة تصحر هائلة بلغت 78 ألف مبنى مهمل أو خاوٍ أو خربٍ، وبالتالي اندلاع أزمة عقارية وهبوط حجم الضرائب في خزائن المدينة . والرابع يكمن في المصاريف العالية على الخدمات والموظفين، فهي تضم ما نسبته متقاعدان اثنان مقابل عامل واحد . والسبب الخامس نراه في المؤسسات العامة، حيث لا تعمل التجهيزات الحكومية بنسبة 40 في المئة منها . والسبب السادس ناجم عن الأسباب السابقة، حيث ترتفع نسبة الجرائم في المدينة التي تحتل المرتبة الأولى في ارتكاب الجرائم في الولايات المتحدة . والسابع والأخير يكمن في سوء الإدارة المالية والفساد والصراعات الداخلية الخانقة بين الفرقاء السياسيين المحليين .

لا تمر ديترويت بعارض من السهل تجاوزه، فالإفلاس بحسب قوانين الولايات المتحدة يعني أن تغلق البلدية أبوابها، وأن يغادرها العمال والموظفون إلى أماكن أخرى، وأن يذهب مواطنوها للعلاج في مدن أخرى، وأن تضع الدولة يدها على ممتلكات المدينة وتعرضها للبيع في المزاد العلني لتسديد ديون 100 ألف متمول لديهم مستحقات آجلة الدفع على البلدية . بعبارة أخرى يمكن القول إن الإفلاس معناه نهاية المدينة إلا إذا تمكن حاكمها من التفاوض مع العمال والموظفين والمتقاعدين من أجل تخفيض رواتبهم وصرف الفريق البلدي والاستدانة من الخزينة المركزية وفق خطة إعادة بناء طويلة الأمد .

لا نعرف بعد كيف سيعالج الحاكم الفيدرالي هذه القضية، وما نعرفه أن رابع أهم مدينة في الولايات المتحدة وأحد أبرز رموزها في صناعة السيارات والعربات المدرعة والذخيرة خلال الحرب العالمية الثانية، قد صارت مدينة فاشلة وهي مهددة بالزوال إذا ما أخفقت المساعي الفيدرالية في إنقاذها . لكن هل من الصعب انقاذ ديترويت؟ لا ليس صعباً إنقاذ المدينة إذا ما قيس الإنقاذ بحجم الدين العام وهو يناهز 18 مليار دولار بيد أنه يبدو معقداً للغاية إذا ما قيس بوجوب وضع الأسس الراسخة لانطلاقة حيوية جديدة تتيح عودة الإنتاج والعمران وجذب المهاجرين الجدد والتصدي للتمييز العرقي والجريمة المنظمة وتجارة المخدرات . . إلخ .

لكن السؤال الملح في هذه الحالة يتعلق بالاستراتيجية الأمريكية الداخلية وانتشار الفقر والخطر الذي يتهدد العمران والديموغرافيا في هذا البلد الغني بثرواته ومصادره الطبيعية ومواقعه وقوته العسكرية الذي ظل لوقت طويل ينتج أكثر من نصف ما يحتاج العالم، فهل يجوز أن يفاجئه خراب العمران في أحد أكبر وأهم مدنه؟ وهل يجوز أن ينتشر الفقر في أرجائه وإلى حد الجوع أحياناً؟ لقد هزمت روما القديمة لأن المحيط كان يناصبها العداء، وانتهت المدينة الرومانية الفاضلة تحت ضربات الهمجيين، أما المدينة الأمريكية الفاضلة فهي “تنهار” من الداخل من جراء التوحش الرأسمالي الغبي الجدير، إذا لم يردعه أحد، بتحويل الولايات المتحدة بأسرها إلى أمة فاشلة وليس ديترويت حصراً .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2165447

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2165447 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010