الجمعة 19 تموز (يوليو) 2013

الخلاف والتوافق في مشاريع الدساتير العربية

الجمعة 19 تموز (يوليو) 2013 par رغيد الصلح

أعلن في تونس قبل أيام قليلة انتهاء المجلس الوطني التأسيسي التونسي من وضع مشروع مسودة الدستور الجديد للبلاد . سبق هذا الإعلان ورافقه مساجلات عنيفة دارت بين ممثلي التيارين الرئيسين في البلاد: الجماعات الإسلامية وفي طليعتها حركة النهضة، والجماعات اللادينية التونسية . تمحورت هذه المساجلات حول موضوعات مهمة مثل مسألة العلاقة بين الدولة والدين، بين الشريعة الدينية والدستور والقوانين الوضعية . ومن الأرجح أن تستمر هذه المساجلات والخلافات حتى بعد إعلان مشروع الدستور .

ومن المفروض وفقاً لخريطة الطريق التي أعلنتها قيادة القوات المصرية المسلحة، وبحسب البرنامج الزمني الذي تضمنته الخريطة أن يعلن الرئيس المصري المؤقت، عدلي منصور، الإعلان عن تشكيل لجنة تأسيسية جديدة من أجل إدخال التعديلات على مشروع الدستور المصري الجديد وذلك خلال مدة لا تتجاوز النصف الثاني من شهر يوليو/تموز الحالي . وفي ضوء الأجواء الراهنة في مصر، فإنه من المستبعد أن يقبل الإخوان المسلمون المشاركة في اللجنة الجديدة . بالمقابل فإنه من المرجّح أن يشارك في هذه اللجنة فرقاء آخرون يمثلون جماعات دينية مصرية، وأن يعكس هؤلاء وجهة نظر الجماعات الدينية المصرية عموماً، بمن فيهم الإخوان المسلمون، تجاه قضايا علاقة الدين بالدولة، والصلة بين الشريعة الدينية والدستور والقوانين الوضعية .

في هذا النوع من السجالات والمناقشات، تبرز عادة وجهتا نظر رئيستان ومعتدلتان بالمقارنة مع وجهات نظر أخرى أكثر راديكالية لا تقبل بالمساومات: الأولى يمثلها ممثلون للأحزاب الإسلامية تدعو إلى اعتبار الإسلام المصدر الرئيس للتشريع . والثانية، يمثلها ممثلون للأحزاب غير الدينية، الليبرالية والقومية واليسارية . وحيث إن الإسلام السياسي كان ولا يزال قوة صاعدة في المنطقة رغم الانتكاسات التي يعاني منها في أكثر من بلد عربي، فإنه تمكن من تغليب الصيغة التي اقترحها على العلاقة بين الدين والدولة، على الصيغة التي اقترحتها الأحزاب غير الدينية . ولكن هذه الخطوة لم تنه الجدل بين التيارين، بل نقلته إلى مستوى جديد بحيث تحول في بعض مفاصله السياسية والفكرية إلى واحد من المسوّغات التي استندت إليها قوى الثلاثين من يونيو/حزيران للتحرك ضد حكومة الرئيس المصري السابق محمد مرسي .

إن اعتبار الدين الإسلامي المصدر الرئيسي للتشريع يؤكد أهمية الإسلام في المجتمعات الإسلامية . وهذه مسألة لا جدل فيها . ولكن ما هي الانعكاسات الملموسة لإدخال هذا البند في دستور البلاد؟ كيف يمكن ترجمة هذا المبدأ على الأرض وفي البنيان الدستوري والحقوق للبلد الإسلامي؟ يقول متبنو هذا النص إن تأثيره محدود ولا يتجاوز بعض القضايا الحياتية البعيدة عن قضايا السياسة والحكم . ومثالاً على هذ القضايا يقدم أصحاب وجهة النظر هذه مسألة تحريم الإجهاض . فهذا الموقف لا يؤثر في مصير النظام السياسي في البلد المعني .

في مناقشة هذه النظرة يشير معارضوها إلى أن هذا التفسير لعلاقة الدين بالتشريع لا يلخص النتائج التي تترتب على اعتبار الدين المصدر الرئيسي للتشريع . يلفت هؤلاء النظر إلى أن هناك مدرسة بين الأحزاب الدينية تعتقد بأن الديمقراطية كفر وأن الدستور خروج عن الإرادة الإلهية . وهذه المدرسة تحارب الديمقراطية وتقاطع مؤسساتها . ولكن هذه المدرسة قد تغير موقفها وتقرر محاربة الديمقراطية من داخلها أي عبر الاشتراك في المؤسسات الديمقراطية، فكيف يمكن حماية النظام الديمقراطي من أصحاب هذا النهج؟ بل ما الذي يضمن استمرار النظام الديمقراطي إذا صعدت قيادات جديدة مناهضة للديمقراطية إلى قمة الهرم في أحزاب دينية مثل الإخوان المسلمين، فأقصت قياداتها التي شاركت في العمل البرلماني أو التي قبلت، سواء عن اقتناع نهائي أو تنازل مؤقت، بالنظام الديمقراطي وأوكلت القيادة إلى زعماء جدد مناهضين للديمقراطية وللبرلمانات وللدساتير؟

إن متابعة المناقشات بين الفريقين الرئيسين في الهيئات التأسيسية لصياغة الدستور تبين أحياناً غياب الأهداف الرئيسة لهذه الهيئات واللجان عن الأذهان، وتؤشر على وجود مفارقات مهمة في عملها . فهذه الهيئات هي ليست في صدد تأسيس دولة دينية، وإلا لكانت الأحزاب الدينية على حق في دعوتها إلى اعتبار الدين المصدر الرئيس للتشريع . بالعكس، لو كان الهدف من هذه الهيئات تأسيس دولة دينية لكان عليها أن تعلن أن النصوص الدينية تشكل بمجملها دستور البلاد، وأن ينصب عملها على كشف السبل والطرق إلى وضع هذا الإعلان موضع التطبيق . إلا أن الهيئات التأسيسية لم تنشأ لتحقيق هذه الغاية، بل لإقامة دولة ديمقراطية تتسع للجميع، وتتوافر فيها فرص تداول السلطة وتغيير الحكومات عبر الآليات الشرعية . ومن البديهي هنا أن تولي هذه الهيئات عناية قصوى إلى مسألة حماية الأنظمة الديمقراطية الوليدة والناشئة من الأخطار التي تتهددها: من التلويح بالعنف والتهديد باستخدامه، من القرصنة الفكرية التي تسعى إلى توظيف دعوات الحرية في مشاريع للاستعباد والتسلط، من الخلايا النائمة التي قد تتسلل إليها لضربها من الداخل عندما تحين ساعة الصفر، من المطبات والعقبات التي تزرع على طريق الرحلة الانتقالية إلى الديمقراطية بحيث تتعطل هذه الرحلة قبل وصولها إلى مرحلة الانطلاق .

لكل دستور أهداف كبرى . وحبذا لو حددت هذه الأهداف بدقة، ولو يجري التذكير بها بين الحين والآخر، وأن تكون هذه الأهداف في أذهان أولئك الذين يعملون إلى تشكيل الهيئات التأسيسية لوضع الدساتير . هناك في مصر وتونس وليبيا وسائر الأقطار العربية إجماع على الفوائد الكبرى للتحول الديمقراطي . تأكيد هذا الهدف سوف يسهل اقتراح معايير اختيار أعضاء الهيئات التأسيسية وجداول أعمالها وآليات مناسبة لتقييم أعمالها . الأمل هو أن تنجح المصانع الوطنية في توليد هذا المنتج عبر الإفادة من كل الطاقات الخلاقة والمتنورة في هذه البلدان .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 21 / 2166097

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2166097 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010