الأربعاء 10 تموز (يوليو) 2013

نهوض لاتيني وتبعية أوروبية معيبة

الأربعاء 10 تموز (يوليو) 2013 par فيصل جلول

كادت أوروبا تغامر الأسبوع الفائت بإثارة أزمة دبلوماسية قارية غير مسبوقة عندما بادرت أربع من كبريات دولها، وهي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال إلى إقفال مجالها الجوي أمام طائرة الرئيس البوليفي إيفو موراليس العائد إلى بلاده من موسكو بعد مشاركته في قمة حول الطاقة وإنتاج الغاز، وذلك استجابة لضغوط أمريكية، مختصرها أن موراليس ينقل بطائرته الخاصة الجاسوس الأمريكي إدوارد سنودين الذي يعيش في قاعة الترانزيت في أحد مطارات العاصمة الروسية، والذي طلب منذ بعض الوقت اللجوء السياسي إلى عدد من البلدان التي لا تحتفظ باتفاقيات تسليم المحكومين أو المجرمين مع الولايات المتحدة الأمريكية .

والجدير بالإشارة أن سنودين كان يعمل محللاً في وكالة الأمن القومي الأمريكي وقد أفشى أسراراً عن عمله للروس وللعالم، ما أدى إلى ملاحقته وممارسة ضغوط واسعة على بلدان أعربت عن استعدادها لحمايته . والراجح أن منع طائرة الرئيس موراليس من الملاحة في أجواء الدول المذكورة ناجم عن تصريحه في موسكو على هامش القمة المذكورة أن بلاده مستعدة لمنح سنودين اللجوء السياسي، فضلاً عن رفض موراليس الاستجابة لطلبات الدول الأوروبية الأربع تفتيش طائرته، ما أدى إلى هبوطها الاضطراري في النمسا التي امتنعت عن تفتيشها أيضاً وقد تأكد من بعد أن الجاسوس الأمريكي ليس على متنها بعد إعلان روسي أنه لم يغادر قاعة الترانزيت الموسكوفية وبعد نزول ركاب وطاقم الطائرة للراحة في المطار النمساوي عادوت الطائرة للإقلاع في المجال الجوي للدول المذكورة بعد انتظار دام 13 ساعة .

ما كان لهذا الحادث أن يمر مرور الكرام ليس بسبب قضية العميل الأمريكي فحسب، وإنما أيضاً بسبب التوتر القاري المتعاظم بين أمريكا اللاتينية وأمريكا الشمالية فضلاً عن التبعية الأوروبية التي بدت من خلال الوقائع المنشورة وكأنها مطلقة .

والمذهل في التفاصيل اللاتينية هو الاهتمام الحماسي والمباشر من بعض رؤساء الدول ودفاعهم عن موراليس وكأن الحادث وقع معهم، حيث تؤكد رئيسة الأرجنتين كريستينا كريشنر أنها تلقت اتصالاً من رئيس الإكوادور الذي أخبرها بالتفاصيل وأنها هاتفت موراليس على الفور وعرضت تفاصيل المحادثة على حسابها على تويتر . وإذا كانت الأرجنتين والإكوادور من الدول المقربة من بوليفيا، فإن تشيلي لا تحتفظ بعلاقات دبلوماسية معها، ورغم ذلك عبرت عن إدانتها بأشد العبارات لما وقع لموراليس، هذا حتى لا ننسى فنزويلا التي تحدثت عن انتهاك لقوانين الملاحة الدولية واعتبرت أن ما جرى يعد إهانة صريحة لأمريكا اللاتينية وليس لبوليفيا حصراً . وفي العاصمة البوليفية لاباز اعتبرت الحكومة أن ما جرى إهانة كولونيالية شبيهة بالإهانات التي كانت توجه إلى الشعب البوليفي منذ خمسة قرون، وطالبت باعتذار صريح من الدول المذكورة عن احتجاز الرئيس موراليس لنحو 13 ساعة . في وقت كان متظاهرون يحرقون العلم الفرنسي ويتهمون باريس بالفاشية .

حتى الآن لم تعتذر الدول الأوروبية المعنية عما وقع باستثناء فرنسا التي عبرت عن أسفها لسوء التفاهم الطارئ في هذه القضية، علماً أن الرئيس هولاند نفسه أبدى أسفه لما حصل، وقال إنه أعطى الأوامر الفورية لعبور موراليس الأجواء الفرنسية بعد جلاء الصورة، ولربما تبادر دول أخرى إلى السير على الخطى الفرنسية، بيد أن ذلك قد لا يكون كافياً لطي الصفحة التي فتحت على تطور غير مسبوق في اتجاهين:

الاتجاه الأول يتمثل في النهوض المعنوي الكبير في أمريكا اللاتينية ضد الولايات المتحدة، حيث نرى بوضوح مدى تضامن دول القارة في مواجهة واشنطن متجاوزة حدودها الضيقة ومنطلقة من حدود القارة المشتركة بين جميع الدول لرد الإهانة عن إحداها . وما كان لهذا التطور البالغ الأهمية أن يرى النور لولا النضال المتراكم للشعوب اللاتينية من أجل الحرية والاستقلال رداً على النهب الأمريكي والغربي الطويل لخيرات بلدانها، والإبادة المنظمة لهنودها وسكانها الأصليين، فضلاً عن انعطاف هذه الشعوب نحو الديمقراطية بدلاً من الكفاح المسلح واستخدامها سلاحاً في الدفاع عن مصالحها الحيوية . لقد صار النهوض اللاتيني حقيقة صارخة في مواجهة واشنطن بل يمكن القول إن شعوب أمريكا الجنوبية باتت تقيس تقدمها ونموها وكرامتها بمقدار العداء أو التبعية للولايات المتحدة .

الاتجاه الثاني، يتمثل في التبعية الأوروبية المؤسفة لواشنطن التي تبدو غير مشروطة في بعض الحالات ولا سيما الأمنية منها . فقد انصاعت أربع دول هي من أهم وأكبر دول القارة للتعليمات والضغوط الأمريكية من دون أن تتجشم عناء التحقيق في صحة المزاعم الأمريكية ولو أرادت لتمكنت من الوصول إلى الحقيقة بوسائلها، فأوروبا تحتفظ بعلاقات وثيقة مع موسكو، وكان بوسعها أن تتأكد من ذلك في وقت قياسي، وبالتالي أن تمتنع عن إهانة الرئيس البوليفي غير المعروف بخطبه الاستفزازية إزاء الغرب، والذي لا يستحق معاملة “المجرمين” لمجرد أنه عبّر عن استعداده لمنح اللجوء السياسي لإدوارد سنودين . ولعل من حق بوليفيا وأمريكا اللاتينية أن تسأل عما كان سيحصل لو أن الاحتجاز طال رئيس دولة أوروبية، بيد أنها لن تحصل على الجواب الشافي لأن النظام الدولي الراهن لا يساوي بين الدول في مثل هذه الحالات، فهو ينطوي على هرمية تقف دول الغرب على رأسها وتستقر بقية دول العلم في قاعدتها، وبالتالي من الصعب مساواة “الخرقة البالية بالمنديل المعطر” على جاري المثال الفرنسي الشائع .

تبقى الإشارة إلى الانحدار الفرنسي المتزايد على الصعيد الدولي، فباريس التي طردت القواعد الأمريكية من أراضيها في الستينات، والتي منعت في الثمانينات الطيران الأمريكي من عبور أجوائها لضرب ليبيا، ليست هي نفسها التي تنصاع لاتصال أمريكي على جناح السرعة بوجوب منع رئيس دولة مناهضة لواشنطن من عبور أجوائها .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 21 / 2176550

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2176550 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40