الاثنين 10 حزيران (يونيو) 2013

ما وجوه الاتفاق والافتراق بين انتفاضة تركيا والانتفاضة العربية؟

الاثنين 10 حزيران (يونيو) 2013 par د. عبد الحليم قنديل

هل تلحق تركيا بدورة الثورات العربية الجديدة؟ وما هي وجوه الافتراق بين مظاهرات تركيا الأخيرة وسابقاتها في دنيا العرب الصاخبة الموارة بتفاعلات لم تستقر بعد على شاطئ ختام ولا صورة نظام؟
ربما وجه الاتفاق الظاهر في اتصال الإلهام، فقد أخذ ميدان ‘تقسيم’ في اسطنبول صــــورة ميدان التحرير بالقاهرة، وميدان التحرير ليس جغرافيا، إنه رمز لصيـــغة الثورات الجديدة، والمعتمدة على الثقة بقوة الناس حــين يحتشدون، وبأكثر عدد ممكن، ولأطول مدى ممكن، وتحت الشعار الشهير ‘الشعب يــــريد إسقاط النظام’، وباستعداد هائل لتقبل التضحيات، وتقديم طوابير الشهداء في عزيمة لا تفتر، وحتى يتحقق الهدف المشخصن غالبا، وكما جرى في نداء خلع مبارك، أو يجري مع تجدد نداء عزل مرسي، الذي يحمل عار مبارك نفسه، وكما يجري أيضا مع نداء المتظاهرين الأتراك لإقالة رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء.
في المشهد العام، يبدو إغراء التشابه ظاهرا، وكذلك سلوك المتظاهرين الذي هو نفسه، فهم في جولات كروفر مع قوات بوليس تستخدم القوة المفرطة، وتطلق أطنانا من الغازات المسيلة للدموع، ويسقط الضحايا، وتضطر قوات القمع لإخلاء الميادين مع تزايد أعداد المتظاهرين، وغلبة نزعتهم الاقتحامية، وكل هذا جرى في ميدان ‘تقسيم’، وفي الميادين الكبرى بعشرات المدن التركية، وبصورة تبدو مستنسخة مما جرى ويجري في مصر ومدنها الكبرى، أضف إلى وجوه التشابه ربما التطابق ذلك الدور الجوهرى لشبكات التواصل الاجتماعي في الدعوة والتعبئة والحث على المشاركة في المظاهرات، وهو ما دفع السلطات التركية إلى شن حملة مجنونة على شباب ‘الفيسبوك’، وإجراء اعتقالات واسعة، واعتزام تقديم المعتقلين إلى محاكمات جنائية على الطريقة نفسها الجارية لشباب الثورة في مصر، ومع ميل أردوغان إلى تقليد الحكام العرب في الحديث عن ‘مؤامرة’ و’أصابع تلعب في تركيا’، وهو ما قد يذكرك حرفيا بكلام مرسي في مصر، وإن مالت تصريحات لمسؤولين أتراك آخرين إلى تقليد طغاة عرب زال حكمهم، وعلى طريقة قول الرئيس عبد الله غول، ان رسالة المتظاهرين ‘وصلت’، وهي ذاتها طريقة ‘فهمتكم’ في خطاب زين العابدين بن علي الأخير قبل هروبه إلى منفى المخبأ السعودي، وقد وصلت المسألة إلى ذروة السخرية، حين دخل بشار الأسد على الخط، وعاير أردوغان بما يجري في تركيا، وطالبه بالتنحي نزولا عند إرادة المتظاهرين، وتماما بنفس طريقة أردوغان في مخاطبة الأسد الرافض للرحيل عن الحكم.
نعم، في الصورة العامة كثير من وجوه الاتفاق، لكن وجوه الافتراق عظيمة، فتركيا في وضع اقتصادي وسياسي وثقافي مختلف بشدة، فالاقتصاد التركي ناهض بامتياز، وتركيا في المرتبة الخامسة عشرة بين الاقتصادات الكبرى، واستمرارها على معدل النمو الحالي قد يؤهلها لاحتلال المرتبة العاشرة في عام 2020، وهذا هو الإنجاز الكبير المرئي لرجب طيب أردوغان، الذي يحقق حزبه العدالة والتنمية فوزا منتظما بالانتخابات على مدى الأعوام العشرة الأخيرة. وحزب أردوغان إلى يمين الوسط، وسياساته الاجتماعية لا تلقى رضا الطبقات الأفقر، وتعارضها أحزاب إلى اليسار كحزب الشعب الجمهوري والمنظمات الماركسية، ونقابات العمال الكبرى، وقد بدا أثر القلق والتناقضات الاجتماعية حاضرا بشدة في موجة المظاهرات الأخيرة ذات النفس الثوري، وبدت الأعلام الحمراء مرفوعة في كل مكان، وجنبا إلى جنب مع اتهامات المتظاهرين لأردوغان بالتبعية للسياســـة الأمريكـية، وتوريط تركيا في الحرب الأهلية الطائفية الجارية بسورية، وهو الموقف الذي تعارضه الأحزاب اليسارية والقومية التركية، أضف إلى ذلك ولاء سلطة أردوغان لحلف الأطلنطي، وتحسن وتعمق العلاقات مع كيان الاغتصاب الإسـرائيلي، وانكشاف خواء لغة أردوغان التي بدت لسنوات متشددة إزاء إسرائيل، كل ذلك ما يشجع على تصوير أردوغان في دور الدمية وبطل الورق، أضف إلى ذلك متاعب تركيا المتصلة بتأثير ما يجري في سورية على التكوين السكاني، فالطائفة العلوية التي تحكم دمشق مؤثرة بشدة في تركيا، والعلويون في تركيا يزيدون على عشرة ملايين شخص، فضلا عن اتساع نفوذ ‘حزب العمال الكردستاني’ ومنظماته المسلحة في الشمال السوري، والحزب المذكور يوصف في تركيا بالمنظمة الإرهابية، وزعيمه عبد الله أوجلان لايزال في السجن التركي.
وإن كان أردوغان يحاول حلحلة وتهدئة الموضوع الكردي، الذي يبدو فيه ‘حزب العمال’ ممثلا لخمسة وعشرين مليون كردي في تركيا، وقد حرم هؤلاء من أبسط مظاهر التعبير القومي، وتصل مطامحهم إلى حد الرغبة في الانفصال عن تركيا، وهو ما يعني إن حدث تدميرا كاملا لكيان الدولة التركــــية، وبـــما يفسر سعي كمال أتاتورك مؤسس الدولة التركية إلى الإلغاء التـــام لهـــوية الأكـــراد، فقد كان لا يعترف بكرديتهم، ويطلق عليهم تسمــية ‘أتراك الجبال’، تماما كما سعى إلى إلغاء عروبة ‘لواء الإسكندرونة’ المقتطع من سورية والشام، وفرض التتريك بالقوة على الجميع، وفصل تركيا بالكامل عن سياقها الإسلامي والشرقي، ووضعها في سياق غربي وأوروبي متعسف، وهو ما حاول أردوغان الجمع بينه وبين انفتاح على الشرق والعرب، بما يضيف قوة إلى الاقتصاد التركي المتطور، وقد أضاف ذلك بالفعل سوقا استهلاكية واسعة للمنتجات التركية، بما فيها المسلسلات المدبلجة السائدة على شاشات التلفزيونات العربية، وإن كان الاحتكاك الواسع المستجد، قد نقل إلى تركيا قلقا مضافا على الانسجام القسري للهوية الذي افتعله أتاتورك.
وبعد وقبل المشكلات الاجتماعية والعرقية والقومية، تأتي المشكلة الثقافية في تركيا، التي يتصور البعض خطأ أنها مماثلة لما يجري في الساحات العربية الآن، وأنها تجري في صورة تناقض مستحكم بين تيار علماني وآخر إسلامي يمثله أردوغان، وبطريقة يبدو فيها أردوغان كأنه المكافئ التركى لجماعة الإخوان في مصر، وهو تصوير خاطئ، أغرت به حوادث حديقة ‘جيزي’ في ميدان تقسيم، الذي تريد حكومة أردوغان قطع أشجاره، وإقامة مول تجاري يحاكي ثكنة عسكرية كانت قائمة بالمكان في العهد العثماني، وهو تصرف يبدو موحيا بنزعة عثمانية معادية لنزعة أتاتورك، الذي هدم الثكنة العثمانية، وفتح الباب لإقامة حديقة ‘جيزى’، التي تحولت إلى فضاء مفتوح لممارسات اجتماعية أوروبية الطابع، كجزء من عملية قطيعة شاملة أجراها أتاتورك مع الميراث العثماني الإسلامي، وقد حول اللغة التركية من الأبجدية العربية إلى الأبجدية اللاتينية، ومنع الأذان في المساجد، وفرض ما سماه ‘قانون القيافة’، الذي يحرم ويجرم كل لباس شرقي أو إسلامي، كان أتاتورك مفرطا في إلحاده وعلمانيته الفرانكوفونية الطابع، التي تريد محاربة الدين وإقصاء مظاهره من الحياة الاجتماعية نفسها، وليس فقط إقصاء الدين وفصله عن السياسة ومعنى الدولة، وأردوغان لا يريد الخروج بالكامل عن علمانية أتاتورك، بل يتبنى علمانية ‘أنجلو ساكسونية’ مقابل علمانية أتاتورك الفرانكوفونية، يريد أردوغان تضمين مبدأ الحريات الدينية الاجتماعية في النسق العلماني، وعلى ذات الطريقة التي تجرى بها الأمور في بريطانيا وأمريكا واستراليا وكندا، وهذه هي طبيعة الخلاف الثقافي في تركيا الآن، فالصدام الخفي والظاهر يدور بين علمانيتين، وليس بين تيار ديني وتيار مدني، كما يحدث في بلادنا.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 25 / 2165816

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2165816 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010