الخميس 30 أيار (مايو) 2013

أُمَّة مُهدَّدة بـ“العَطَش”!

الخميس 30 أيار (مايو) 2013 par جواد البشيتي

المياه العذبة الحلوة هي 1 في المئة فقط من مياه الكوكب الأرضي؛ والزراعة، على وجه العموم، ما زالت قديمة لجهة طرائق ووسائل الريِّ، فظلَّت، من ثمَّ، المستهلِك الأكبر للمياه العذبة؛ وليس من حلٍّ نهائي لمشكلة المياه العذبة في العالم إلاَّ تحلية مياه البحار والمحيطات، وجَعْل هذه التحلية قليلة الكلفة.
ومشكلة المياه العذبة، أي ندرتها بالمعنيين المطلق والنسبي، تتحدَّى البشر أن يحوِّلوها من سبب لاندلاع الحروب إلى سبب للتعاون.
واليوم، تُشْعِل مياه النيل، والتي لولاها لكانت مصر صحراء قاحلة، فتيل صراع بين “دول المصب”، أي مصر والسودان، وبين بعض “دول المنبع”، وفي مقدمها أثيوبيا، التي في حلف استراتيجي مع إسرائيل، يثير حفيظة مصر، التي تلبِّي من مياه النيل نحو 95 في المئة من احتياجاتها المائية.
إنَّ المنابع الأجنبية، أي غير العربية، للأنهار التي تصب أو تجري في بلاد عربية هي من أهم منابع التهديد الدائم للأمن القومي العربي بمعناه الشامل؛ على أنَّ هذا لا يتعارض؛ بل يتوافق، مع حقيقة أخرى هي أنَّ العرب لم يفعلوا شيئًا يُعْتَد به لدرء المخاطر عن أمنهم القومي المائي.
النيل، الذي يجري في السودان ومصر، ويصب في مصر، إنَّما ينبع من أراضي دولٍ غير عربية، كأثيوبيا (التي لا يأمن العرب جانبها، والتي تهدِّد الآن الأمن المائي لمصر بالسَّد الذي شرعت تبنيه) وأوغندا؛ ودجلة والفرات ينبعان من الأراضي التركية؛ والأردن احتلت إسرائيل منابعه (في جبل الشيخ في الجولان).
و“السدود”، التي تُحْتَجَز فيها كميات ضخمة من المياه من أجل توليد الطاقة الكهربائية، هي الآن ما يشدِّد الميل لدى “دول المنابع” إلى انتهاج سياسة مائية يمكن أن تتسبَّب بأزمات مع “دول المصب”، أو “دول الجريان”.
من قبل، وفي منطقة جنوب شرق الأناضول، أقامت تركيا (ضمن مشروعها الاقتصادي الاستراتيجي المسمى "مشروع الغاب) سدَّ أتاتورك لتوليد الطاقة الكهربائية، محتَجِزة فيه كمية ضخمة من المياه، ما أدَّى إلى تضاؤل الحصص المائية لسوريا والعراق.
واليوم، تحذو أثيوبيا، حذو تركيا، فهي تعتزم التوسُّع في بناء السدود، توصُّلًا إلى أن تغدو أكبر دولة مُصَدِّرة للكهرباء في شرق إفريقيا (ومن الدول الكبيرة في تصدير المواد الغذائية المتأتية من ازدهارها الزراعي المتأتي من اختزانها مزيدًا من المياه من أجل الري).
إذا مضت أثيوبيا (مع دول أخرى من دول المنبع) قُدُمًا في “حرب السدود” ضدَّ مصر والسودان، والتي تشارِك فيها إسرائيل في طرائق شتَّى، فإنَّ حصَّتي مصر والسودان من مياه النيل ستتقلَّصان كثيرًا، وسيصبح الأمن المائي لمصر عرضة لمخاطر حقيقية وكبيرة؛ وقد تُضطر مصر (والسودان) إلى دفع رسوم مقابل حصولهما على ما تحتاجان إليه من مياه النيل.
وهذا التهديد المائي لأمن مصر القومي ازداد مع انفصال جنوب السودان، فهنا، أي في جنوب السودان، يمر النيل الأبيض، الذي يرفد نهر النيل، وتُوْجَد “قناة جونقلي”، التي تعوِّل عليها مصر كثيرًا، لكونها تُحسِّن تدفق النيل الأبيض، وتزيد، من ثم، حصَّتها من مياه النيل.
وهناك من يدعو مصر إلى التسليم بالأمر الواقع (الذي خلقته وتخلقه أثيوبيا بالتعاون مع إسرائيل) والأخذ بخيار آخر هو أن تشتري مصر من أثيوبيا المواد الغذائية والطاقة الكهربائية!
أمَّا إسرائيل، وبصفة كونها عدوًا مائيًّا أيضًا للعرب، فتشبه ليبرمان، الذي هدَّد مصر، من قَبْل، بتدمير سدها العالي؛ ثمَّ زار الدول الإفريقية التي في أراضيها تقع منابع نهر النيل (ومصر هِبَة النيل) ليزيِّن لها أمْر قيامها بما من شأنه تقليص حصَّة مصر من مياهه، والتي، أي مصر، ستشتد حاجتها، مستقبلًا، أي بعد بضع سنوات، إلى مزيد من المياه الحلوة العذبة.
ليبرمان ركَّز اهتمامه في أثيوبيا، التي يقع فيها المنبع الأكبر والأهم لنهر النيل، والتي لديها من الأسباب الواقعية للإحساس بأنَّها تملك، ويمكن أن تملك، من “القوَّة” ما يغريها بالاستئساد المائي على مصر، وباحتجاز قسم كبير من مياه النيل في سدود تعتزم إقامتها بالتعاون مع العدو القومي الأوَّل للعرب، أي إسرائيل، فمصر، كما تراها مستقبلًا “إسرائيل العظمى”، التي ليبرمان عين من عيونها، هي التي تَغْرَق في مياه النيل، وفي الظلام، من خلال تدمير سدها العالي، أو التي يموت بشرها وزرعها عطشًا من خلال السدود الأثيوبية، وغير الأثيوبية، المحمية بالدرع الإسرائيلية.
أمَّا نتنياهو فأرسل الرسائل إلى زعماء دول كينيا وبوروندي والكونغو، ناصحًا إيَّاهم نصيحة “صديق لصديق” أن ينضموا إلى “الحلف المائي الأثيوبي ـ الإسرائيلي”، الذي انضمت إليه أوغندا وتنزانيا ورواندا.
إنَّها إسرائيل العطشى إلى المياه الحلوة العذبة، والتي تعطَّشت إلى حرب 1967 إذ اشتد شعورها بالعطش إلى الماء، فاحتلت جبل الشيخ الذي فيه تقع منابع نهر الأردن، والضفة الغربية التي بعض مناطقها غني بالمياه الجوفية.
حتى السرقة اتَّخذتها إسرائيل وسيلة للحصول على مزيد من المياه الحلوة العذبة، فسرقت، وتسرق، بعضًا من مياه الجنوب اللبناني.
وأحسب أنَّ إسرائيل تتذكَّر في استمرار الوصية المائية لرئيس وزرائها الأوَّل والمؤسس لدولتها، أي بن جوريون، والتي قال فيها بلهجة الآسِف إنَّ الجزء الأكبر من مياه نهر الليطاني اللبناني (اللبناني في منبعه ومجراه ومصبه) يذهب هدرًا إلى البحر المتوسط، “فَلِمَ لا يصب الجزء الأكبر من مياهه في الأراضي الإسرائيلية؟!”
من قبل، والآن، اغتصبت، وتغتصب، إسرائيل جزءًا كبيرًا من مياه نهر الأردن، من خلال تمريرها هذا الجزء بقناة في داخل أراضيها؛ أمَّا غدًا فلن يصب منها في البحر الميِّت إلاَّ ما يكفي لجعل النهر أثرًا بعد عين. ولمَّا كان منع مزيدٍ من مياه نهر الأردن من أن تصب في البحر الميِّت يتسبَّب حتمًا بـ“دفن” هذا البحر “الميِّت”، ظهرت إلى حيِّز الوجود (السياسي) فكرة “قناة البحرين”، التي تأتي للبحر الميِّت بالمياه (المالحة) من البحر المتوسط، أو البحر الأحمر.
ولا ريب في أنَّ “المياه (العذبة الحلوة)” كانت كامنة دائمًا في أساس السعي الإسرائيلي لإنشاء وتطوير “التحالف الاستراتيجي” مع تركيا الغنية بهذه المياه.
النيل، الذي لا ريب في أهميته الوجودية لمصر، ينبع معظمه من أراضي دولة (أثيوبيا) تشبه إسرائيل لجهة قوَّة عدائها للوجود القومي العربي؛ ومنابع نهر الأردن في جبل الشيخ (جبل حرمون) غدت بعد، وبفضل، حرب 1967 في القبضة الإسرائيلية؛ أمَّا نهرا دجلة والفرات، اللذان لا ريب في أهميتهما الاستراتيجية لسوريا والعراق فينبعان من أراضي تركيا، التي، بإقامتها سد أتاتورك، وبتنفيذها “مشروع الغاب” في جنوبها الشرقي حيث يتركز الوجود الكردي، منعت قسمًا كبيرًا من المياه الحلوة العذبة من الوصول إلى الأراضي السورية والعراقية.
وكان الهدف الضمني، غير المعلن، لـ“تركيا ما قبل عهد أردوغان”، هو شق الطريق إلى جعل فكرة “أنبوب السلام (المائي)” حقيقة واقعة؛ فتركيا كانت تريد نقل المياه الحلوة العذبة من أنهارها (نهرا سيحون وجيحون) عبر أنبوب يمر بالأراضي السورية، وتتفرَّع منه أنابيب تنقل تلك المياه إلى الأردن وإسرائيل، ودول الخليج العربية العطشى إلى هذه المياه.
إنَّه أنبوب ينقل المياه للشرب فحسب، ويعود على أنقرة بالقطع النادر، ويشجِّعها على المضي قُدُما في احتجاز المياه بسدودها من أجل التنمية الزراعية، وتوليد الطاقة الكهربائية، ولو كانت العاقبة هي منع الجزء الأكبر من مياه دجلة والفرات من الجريان في الأراضي السورية والعراقية.
أمَّا نحن العرب فلا مُضاهي لنا في تحويل “الثروات الحقيقية” إلى تلالٍ من الأوراق؛ وقد كان ينبغي لنا أن نستثمر بعضًا من تلك القناطير المُقَنْطَرة في بناء الأمن المائي العربي.. في تحلية مياه البحر، وفي تنمية مواردنا من المياه الحلوة العذبة، وفي تطوير الزراعة بما يقلِّل حجم ما تَسْتَهْلِك من تلك المياه، وبما يجعل أمننا الغذائي بمنأى عمَّا يُحْدِق به الآن من مخاطر، فحُصَّة ما نستورد من غذاء، ومن الحبوب على وجه الخصوص، تتسع وتَعْظُم، وكأنَّ لنا مصلحة في أن نكون في تبعية غذائية استراتيجية للقوى الغذائية العظمى (إنتاجًا وتصديرًا) والتي بعضها، وأهمها، له مصلحة حقيقية في هدم الوجود القومي العربي ليبتني من حجارته “إسرائيل العظمى”.
السودان الذي في مقدوره أن يُطْعِم العرب جميعًا ظلَّ نسيًا منسيًّا في “عقيدة الاستثمار العربية”؛ فعقيدتنا الاستثمارية حان لها أن تتغيَّر بما يشحنها بسياسة تستهدف درء المخاطر عن الأمن القومي العربي؛ فَلِمَ لا يُسْتَثْمَر جزء كبير من مخزون العرب من القطع النادر في أثيوبيا، وغيرها من دول منبع النيل، فتُقام السدود (لتوليد الطاقة الكهربائية وللريِّ الزراعي) بأموال عربية، فيتَّسِع النفوذ العربي، ويتقلَّص النفوذ الإسرائيلي، وتُقْتَسَم مياه النيل بما لا يعود بالضرر على الأمن المائي لمصر والسودان؟!
ولِمَ لا يُسْتَثْمَر، أيضًا، في تحلية مياه البحر، وفي تطوير أساليب وطرائق الريِّ الزراعي، فيصبح ممكنًا، من ثم، زيادة الإنتاج الزراعي بكمية أقل من المياه العذبة؟!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2160583

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2160583 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010