الأحد 26 أيار (مايو) 2013

الموقف تنشر من رواية لغة الماء لعفاف خلف

الأحد 26 أيار (مايو) 2013

عفاف خلف

إهداء

إلى

قامةٍ تتقزم القامات أمام تمردها.. إلى أمي.. وأمهات يلتحفن الصبر يقيناً بالنصر..
وإلى شموعٍ احترقت في نيسان لتضئ سماء الوطن
و ...... إليكَ
في ذروة انتشائك بالحياة تمتطي صهوة المهالك وتروض الموت الحرون...

لغة الماء للروائية الفلسطينية المبدعة عفاف خلف
لم يكن ثمة خطيئة بعد، كانت فقط الجنة، وعدٌ بأفق، وسماء نيسان المخضلة بالبشارة، رائحة التراب المبلل، والبحر يبادل الأرض العناق لعوباً، يغسل قدميها العاريتين، يقبلهما، يفئ إلى إسلحته، يشحذها، ويعيد حفل الغزو من جديد. الماء يغمر كل شيء، صوت البحر تلاعبه الريح فيهدر، نسيس المطر الناعم، والجسد المهروس بالتصاقٍ قديم قدم الغواية في الأرض، يرتفع صوت جدتي، تأتيني الصورة كما رسمتها تماما، الصوت يعلو، يمحو غمامة الآن، أحبو لأتلمس ما كان... “أشعر بصلابة الأرض من تحتي، رائحة جدك تعشش في الحواس برائحة الأرض، بعطر نيسان، أشعر بثقل رأسه محفوراً على صدري، وأقسم أن دقات قلبي كانت أعلى من صوت البحر الهادر، من صوت المطر، من صوت عمي أبو حاتم، يصرخ منادياً... ونلملم شعث ملابسنا، يبتعد عني أبو صلاح ليجيبه، ومن ثم أنسل إلى المنزل عائدة، ليتبعني بعد ذلك، نتبادل النظرات ونبتسم، في تلك المرة لم يتبعني، كانت المرة الأخيرة التي كنا فيها وجدك معاً، بعدها لم أره....”

يرتجف صوت جدتي، تتعكر عيناها الخضراوين بغمامةٍ من الذكريات، يخبو صوتها، وتصمت، ومن ثم تهّز رأسها مراراً لتعاود لضم خرز الكلمات، أنتظر ارتعاشات الصوت: “تلك جنة الأرض، حيفا حين تفتح ذراعيها لتتعّمد بالمطر وتعّمدنا، تغسلنا من كل الآثام... لا أدري كيف بعدها أصابتنا اللعنات”.
وحدها جدتي من علمني غواية الحكايات، طبعت حيفا في ذاكرتي، ببحرها وهوائها وسمائها. كانت تقول المجد للحكايات التي تكتبنا، نطويها ولا تطوينا. طُويتْ جدتي، وطُمرت حكاياتها، وما زلت أنبض في حكاياتٍ جديدة. ولي أن أستعير أذنيك، وعينيك، لبضعٍ من الوقت، لكن إياك والتثاؤب، كنت حين أثتاءب في حضرة الحكايات، تنهرني جدتي، وتصفعني بحكمتها:

- أنتِ ترثين حكاية، ستهدهدين بها أطفالك يوماً.

وأطفالاً لا يأتون. هم خارج العدد الكمي للزمن، إن كان الزمن يقاس بالتاريخ، والتاريخ بالإنسان.
تعالي يا جدتي، وهاتي أطفال الحكايات معك، ففي جعبتي الكثير. كنا، بتكثّف النون والتصاق الحروف، تخللتنا الحياة فأرهقتنا المسافات. وكأننا أطراف نجمة بترت، كلٌّ يرسم لوناً له، وجوداً يعّبر فيه عن حياته، ويحاول اختلاق الترابط رغم عملية البتر القسرية.

أؤمن مُذ قُطعت ساقاي بالمنشار – لكي أًواصل لعبة الحياة – بأن البتر ضروري في أحيانٍِ معينة، وأؤمن رغم أنف الجميع بأني لم أنفصل عن ساقيَّ يوماً، يكفي أن أغمض عيني لأرى امتداد جسدي. أشعر بالرمل المنساب على ساقيّ، لسع الأرض حين أطأها حافية، ونمنمة الأصابع حين يتآكلها خدرٌ لذيذ. رغم البتر أحس بهما، ورغم البتر أحس بهم، فقد كانوا كلاً في حياتي يوماً. أقتسمنا اللحظات معاً، زرعنا الشوارع بخطواتنا معاً، انتثر لهاث ضحكاتنا في الهواء، تشابكت الأصوات، وحتى الدمعة، كنا نتشاركها ونبسم، ولكن وكأي نجمة يبترها القهر ودبيب الزمن الزاحف، انفصلنا كلٌ يرسم حكايته في الرمال.

كنا نجتمع معاً عصبة من الفتيان والفتيات، نثرثر، نخطط، ننفذ ونبقى على تواصلٍ دائم، حتى بعد أن تخلفت عن الركب وأقعدني هذا العجز المتخدّر فيّ، حافظنا على التواصل فيما بيننا، صحيح أنهم يأتون في فترات متباعدة جداً، وأحيانا تكون الزيارة سريعة وخاطفة، إلا أنني ما زلت في ذاكرتهم، جزءاً مما كنت وكانوا يوماً.

ربما يكون العجز هو رابطنا المشترك، كلمتنا السحرية التي لاتنفك طلاسمها إلا فيما بيننا، نتعرى من وجه انتصارنا الزائف ونبكي حزناً مشتركاً، وانهيار خيبة يركد في القاع، والكثير الكثير من الأحلام المجهضة. ربما أنتصب في ذاكرتهم تمثال عجزٍ يغري بإطراء انتصارات زائفة، ربما يعلمهم كرسي المتحرك جدوى تملق الحياة، بأنهم ما زالوا في أتم الصحة والعافية، وربما فتات مائدةٍ يغني عن ألوان ملذات طائلة يفتح مداها جوعٌ إلى الحياة.

فقط أمام العجز صديقي نفقد الوقاحة والجرأة، وحتى حقنا الطبيعي الممنوح لنا باسم الإنسانية والحياة، أمام كرسي أحمق تنهار البطولات وتنهار المسميات، ويسيح مكياج المبادئ والمثل، أمامه فقط تصبح شحاذاً يستجدي حياةً شريفة، ظلاً آمناً ونوماً هنيئاً دون أن يقلبّك جمر الأرق، وأمامه فقط تقف وحيداً كسيراً وكأنك ظل يستمد الوجود منه، ينكسر بانكساراته ويتعرج وفقاً لالتواءاته، أمامه فقط تنحني ذليلاً، تهز ذيلك ككلبٍ وفيَّ الرضوخ، تتملق الجلد اللماع الأسود بقوائمه التي تغرس مخالبها في الصدر، تلك للسلطة، وهذه لاستنزاف دم الشعب، وهذه لترسيخ الأوحال، وتلك أداة لهتك العرض، أمامه فقط... تنهار مستجدياً. ولكم حاولت مراراً التعامل معه بموضوعية وحياد، هذا الكرسي اللعنة. وحدها جدتي من علمتني حياكة المؤامرات ليقع الكرسي أسري، ولا أقع تحت أسره.

- أنت من يجلس عليه لا العكس.

- ولكن يا جدتي، هو أنهى حياتي، توقفت حياتي تحت عجلاته.

كانت تلتمع عيناها، فأرى بريق المرأة الثكلى التي جاءت من حيفا إلى نابلس سيراً على القدمين، يرافقها طفلٌ في العاشرة، هو أبنها الوحيد، بعد أن حرمها الإحتلال فرصة أن يكون لهذا الطفل أخٌ أو عمٌ أو أبٌ، بعد قتلهم جميع أفراد العائلة:

- وحدك من يملك إنهاء حياتك، ولا أي كرسيٍ في العالم يملك إنهاءك.

وحدي، وحدي!

منذ البدء غرسوا فينا لعنة الكرسي.

تنحَّ صديقي، فالكرسي يحتاج لمقاييس خاصة لا نملكها، ربما حبنا للحياة هو أكبر من تشنجات تخنقنا على مقاعد الشلل، وربما نرى القيود في حاضن عجز يعمينا عن بهرجة خدمة الآخرين، وتعاون الآخرين، وانحناء الآخرين.

لماذ لم تتعلم الانحناء؟! ولماذا كنت فظاً وعنيد الترويض، وكيف لم تستطع لا قبضة الاحتلال ولا حتى قبضة السلطة فيما بعد النيل منك؟!

الآن هنا أحاول أن أتتبع الخطوط التي جذبتك، أحاول أن أفهم تلك القوة التي تنازعتك لتكون ما أنت عليه، وأي نيرانٍ صهرتك، ربما الكتابة عنك إليك هي نوعٌ من التطهر، نوعٌ من التكفير، ربما تحبل الأرض بألغام الكلمات، وأمشي صوبك، كأعمى يتلقف الطريق بصرير العصا، وأبحث كأعمى عن شظايا كنتها يوماً، وتنسّلّ دماؤك، تلوث الوجع، بوجدٍ، بشوقٍ، بوعيٍ وجوع، أحنيّ التراب، تعبئه بخميرة التغيير.

- من أي مادةٍ تعتقدين يصنع الإنسان؟ ماذا علموكم في المدارس؟ أجيبي!

- من الطين يا جدتي، من الطين.

- فقط من الطين! هو طينٌ لازب، معجون بالدم والماء، ليس ليناً فيعصر، ولا قاسياً فيكسر، ولكنه مادة صلبة كذلك، نحن والزمن من ينفخ فيه الصلابة.

تلك خميرة الخلق إذن، تُنضجها التجربة.

قررتَ أن تعبث مع الموت تعلمه الدرس الأقسى، فالموت مرهون بإرادة الحياة، وإرادة الحياة لديك أنثى، تمتلكها بكل العشق الذي يفور في شرايينك، تتشبث بها حتى النخاع، تعشقها حتى حثالة الأشياء.

-  فاطمة ! صديقاتك هنا.

صوت أمي قطع وريد الأفكار النازف، ينسل الشرر ليحرق أوراقي، أحدث الحبر فجوة كبيرة، بعمق الزمن الممتد، سأضع نقطة، لنبدأ من جديد.

تتزاحم الأفكار في مخيلتي، أكاد أمد يدي وألمسها، وكأنها تحتجب خلف دخان ضبابي، تتراءى لبرهة ولا تلبث أن تختفي، ألاحقها، وأركض خلفها لاهثة، وكغزالٍ يشتم الهرب غريزياً تنفلت من بين أصابعي.
أتت صديقاتي، أتين على أهبة الرحيل، على عجلة من أمرهن، وحول حلقةٍ من الشاي والقهوة، والكثير من الحديث الجاهز للتداول، والهمس والغمز الحاضر أبداً مجالسنا، تتضح معالم الصور، الاستعدادات في البلدة القديمة على قدمٍ وساق، حيث تذهب، هناك عشرات الشبان الدائبين على العمل، يضعون المتاريس، السواتر الترابية والرمليه. هناك مداخل للبلد أُغلقت كاملاً، المدخل الشرقي للبلد، مداخل رأس العين، مدخل شارع الأنبياء، مدخل شارع حطين، مداخل دوار الشهداء، مدخل سينما ريفولي، وهناك أماكن تم تفخيخها وزرعها بالعبوات، ومنع السير فيها أو الاقتراب منها، المستشفى الميداني في جامع البيك أصبح مهيئاً مع دكتور متطوع، ممرضين وما يقارب الثلاثين متطوعاً، تم تخزين المواد الغذائية، وتوزيعها في نقاط محددة، مدرسة ظافر المصري، جامع البيك، ديوان الداري، ديوان السايح، ديوان أبو عبده.

اذاعاتنا المحلية تتوقع عملية شبيهة لما يحدث في باقي مدن الضفة، استكمالاً لعملية السور الواقي، مع توقع الأسوأ، والكل مهيأ نفسياً لاستقبال القادم، مهما كان نوع هذا القادم وشكله، الكل على أهبة الاستعداد، وتتواتر الانقباضات، وكأننا في طور المخاض.

كانت عريب كما النابض المشدود، عملها التطوعي يكاد يقضي على ما تبقى من أعصابها، بعد ما رأته وعايشته في اجتياح مخيم بلاطة، لم تعد كما كانت أبداً، وكأنما خبت روحها. أجّلت دراستها الجامعية الفصل تلو الآخر، وعملت كمتطوعة في الهلال الأحمر. ملامح وجهها لا تخفي الإرهاق والتعب، عيناها العسليتان تكادان تختفيان تحت الهالات السوداء. تمنيت عليها أن تبقى أكثر، سحبتها إلى غرفتي ارتمت على السرير وأجهشت في بكاء مر عميق.

-  اللحظة تقترب يا فاطمة، إن لم يكن اليوم ستكون غداً، عندما أفكر بهم جميعاً... كم منهم سيبقى ويواصل الحياة؟ من منهم سندفنه تحت الأرض؟ ومن منهم سيعيش مشوهاً بعاهة؟ وهل سينجو أحد منهم؟! وكيف سأواصل الحياة دونهم!

-  لا تقحمي الأفكار السوداء في رأسك، كوني قوية لأجلك ولأجلهم.

-  لا أستطيع التحمل أكثر. سأنفجر حتماً. والكارثة أنني لا أستطيع البقاء بينهم ولا حتى على مقربة منهم. كيف أواصل الحياة على فتات أعصابي التي تتمزق يومياً؟

-  كفى عريب، هوني عليك.

-  لا تفهمين وجعي يا فاطمة. لو أن لك في هذه اللحظة أخاً مطـارداً، لو أن لك فيها عشرات الأصدقاء، لو أنك عشت وتعيشين معهم اللحظات واحدة إثر الأخرى، تقلقين على راحتهم، تقفين على جراحهم، ويعتمدون عليك في أصغر اشيائهم، لعرفت لماذا انهار.

صدمتني كلماتها، وددت لو أصرخ، لو أهزّها بعنف، ما الذي تهذي به؟ يوماً عاصرت الجحيم حتى اعتصرني وتركني كسيحة.

نظرت إليّ وكأنها وعّت ما تقول في هذه اللحظة بالذات. تجددت الدموع في مآقيها، وبكت. لم أستطع البكاء، فقط شعرت بالاختناق، وكأن هناك قبضة تشدد الخناق على عنقي كأسفنجةٍ تمتص الدمع ولا يخرج من هذا الجوف سوى الأنين، اقتربت منها ربتت على كتفها أمسده، وكأننا يوماً نستطيع تمسيد الوجع فيغفو!

-  لا تبكي يا عريب، لا تبكيهم قبل الأوان. اختاروا طريقهم عن وعي، بل اختاروا نهايتهم عن وعي.

نهضتْ عن السرير، اقتربتْ من النافذة، وفتحتها:

- أي وعي هذا الذي تتحدثين عنه؟ وعي الموت والنهايات الآثمة!

- هذا الوعي رديف السيف، خدين الموت، شظايا مدببة حادة الزوايا، ستجرحنا جميعاً، ولن نعود كما كنا يوماً.

- هذه كلمات محمد؟ أهذا ما يلقنك أياه!

هذا، والكثير أيضاً، محمدٌ بارعٌ في خط العبارات كما هو بارعٌ في رسم النهايات، وإعادة هندسة أقدار الآخرين. لم أرغب بنصب شرك إجابةٍ تودي بي لتهلكة، فآثرت الصمت.

- لمَ لا تسألينه لماذا يرفض بقائي في المستشفى الميداني مع بقية المتطوعين؟

- ربما خوفاً عليك، محمد يحبك كثيراً.

- لم يرفض بقائي في مستشفى نابلس التخصصي، هو لا يريدني داخل البلدة فقط.

- عريب، رأيتِ ما حدث لك عند اجتياح مخيم بلاطة، وأعتقد ان محمد رأى أيضاً، فقدتِ الكثير من وزنك، عدا عن الكوابيس التي كانت تلاحقك، قد يكون هذا هو السبب. أخبريني عن جهاد الآن، دعينا من الاجتياحات والتحضيرات لها؟

- ماذا أقول؟ لا يفارق محمد في هذه الأيام، وطريق محمد النار، اتيتُ خصيصاً لأراه، بلا جدوى. أتدرين، أحسد وفاء كثيراً، هي الآن مع كمال.

- لهذا لم تأتِ معكن.

- بالطبع، لو خيرتُ لاخترتُ حبيبي.

- هو خطيبها كذلك، لا تنسي هذا.

تغيرت ملامح وجهها لتتخذ طابعاً أكثر جدّية:

- أتدرين، فقط للحظة، لا، للحظات، أفكر جدّياً في علاقتي بجهاد، ما دام أهلي يرفضونه بحجة خوفهم علي، ولا يرغبون برؤيتي أرملة قبل الآوان، ماذا لو اتخذت علاقتنا بُعداً اكبر؟ لا، لا تقاطعيني، حين أفكّر بأيام الليل والوحشة المقبلة، بالبرد الذي سيحيط بي إذا ما فقدته، وكم من فرصة سنحت ولم نستغلها.... ما ضّر لو احتفظت منه بذكرى، لمن أحفظ نفسي، أنا التي أدعّي حبه؟

- عريب!

ضحكتْ بمرارة:

- طلبت منك ألا تقاطعيني، لم أفقد عقلي بعد، وما زلتُ عذراء، اطمئني، مثلك تماماً. كلتانا تدّعي الحب ولا تمارسه.

بكلمة فتحت أبواب جحيمي جميعاً، أيكون حبي له إدعاء! وهل يقاس الحب يوماً برطل اللحم البض المبذول!

مكثت عندي حتى أذان المغرب. قطعنا الوقت بثرثرةٍ غير مترابطة، وبالنظر من النافذة، ففي الأسفل حركة دائبة للشباب، لا تعرف من أين يأتون وإلى أين يذهبون. معظمهم باللباس الأسود أو الكاكي، وبعضهم يحمل السلاح علناً، وكأن البلدة على فوهة بركان، وتنتظر لسع النيران لتنفجر.

بقيت قرب نافذتي، أرقبها تغادر. توقفت قليلاً لتتحدث مع أحدهم، ومن القامة وطريقة الوقوف تبينت أخاها محمد، ضمته إلى صدرها، وبقيت ممسكة بذراعه تحدثه، ورغم المسافة أحسست بتوترها يتصاعد عالياً ليصلني، اقترب منهما بعض الشباب. حدثوها. مازحتهم، وانفجروا جميعاً في الضحك، ومن ثم كلمات قليلة، وغادرت المكان، بقربها قامته تظلل قامتها وكأنه واحة أمن.

واحة أمن، هكذا كان دائماً، أذكر حين تعرفت عليه أول مرة، في الانتفاضة الأولى، كانت الجيبات العسكرية تجوب شوارع نابلس، ومكبرات الصوت تنعق بفرض حظر التجوال، والرصاص سيلاً ينهمر، أمرني بالركض، وظل واقفاً في عنادٍ وراء المتراس، يصّوب حجارته على الجيب العسكري، ولا يتراجع، أذهلني عناده، احتميت خلف جدار احد المنازل، وتسمرت أراقبه، يصوبون أسلحتهم في وجهه، يطلقون عليه النيران، وهو ثابتٌ في مكانه. لم يتراجع إلا حين أصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت، لحظتها فقط أطلق ساقيه للريح.

وتكررت رؤيتي له، كان دائم الحركة، كثير الغياب. وجاءت المعرفة الحقيقة، في واحدة من الاجتماعات التنظيمية، كان مسؤول الخلية. في البدء لم يرتح لوجودي بينهم، وتدريجياً نمت العلاقة، تكررت اللقاءات وتوثقت معرفتي به، ازداد الإعجاب، ونما حبه داخل هذا الصدر. ومن ثم تعرّف على أخي قصّي، أصبح يعتمد عليه في كثير من المهام، وبين ليلةٍ وضحاها تحول إلى فردٍ من العائلة، خاصة بعد أن أدرج أسمه في قوائم المطلوبين. كثيرة هي الليالي التي أمضاها في بيتنا، وعميقة هي الذكريات التي حفرناها معاً.

ارتبطنا برباط الخطوبة، وأصبح الذهاب والإياب، والغياب المتكرر توأم له، حتى جاء يوم اعتقلوه فيه. منذ لحظة اعتقاله تغيرت الأشياء، انفجرت الفواجع في وجهنا، واحدةً تلو الأخرى، باعدت فيما بيننا فجوة السجن، رغبته في إنهاء الارتباط، استشهاد قصّي، ومن ثم إصابتي، شريط السنوات، والضربة القاصمة.
اختلطت الصور في ذاكرتي، تجمد الزمن على النافذة، أضغط على زجاجها البارد، وجع رأسي المحموم بالأفكار والهذيان وانتظار القادم. قلبي ينقبض شيئاً فشيئأً.

كانت أصوات الشباب تأتيني من البعيد. ضجيج البراميل التي يدحرجونها. أصوات قرقعة المعدن حين يصطدم بالأرض، حركتهم الدائبة. ينسلهم الليل جماعات، كل ثلاثة أو أربعة مع بعض، يلبسون الأسود وكأنهم قطعة من الليل ذاته، وتلتمع أسلحتهم حين يغافلها الضوء الساقط. استطعت تمييز مؤيد، أسامه، أحمد وغيرهم، جميعهم ما زالت ملامحهم طريه في الذاكرة، لم يجفف حبرها وقع الأيام، ولا حتى عزلتي القسرية.

اندلقت العتمة فجأة، لونت كل شيء بالأسود الكالح. ارتدت البيوت اللون الرمادي، وارتدّ الشباب إلى أشباح تتحرك، وتناسلت الصور في كل منحنى وزاوية تمارس طاقتها الخاصة في استحداث الغريب من التهيؤات والخيالات.

-  فاطمة، محمد عندنا.

دّوى صوت أمي عالياً في فضاء غرفتي الساكن، استدرت بلهفة وفزع، اقتربت مني، أطفأتُ قلقها بعبارات التطمين، ومن ثم انتقلت بكرسييّ المتحرك إلى الصالون. كان يجلس في زاويته المفضلة قرب النافذة، يلقي نظرات على الشارع، ونصف نظرة على من في الغرفة. لم ينهض حين دخلت، أومأ لي برأسه فقط. كانت ملامحه تنضح بالهدوء و لا تعكس شيئاً، ومن ملامح أبي المستنفرة عرفت أن هناك نقاشاً دائراً.

-  يا محمد، علينا إصلاح ذات البين بينهما.

-  هذا ليس الوقت المناسب لبدء الخلافات وفضّها، المدينة كلّها أعلنت حالة النفير العام. ربما تستطيع النسوة إقناعها بجدوى عدم مغادرة المنزل. ما رأيك يا خالتي ام نضال؟

-  سنذهب إن شاء الله ونحدثها. مجنونه... لم تختر اسوأ من هذا الوقت.

-  أين القهوة يا امرأة؟ رحم الله الوالدة، لو كانت حيّه، لذهبت من فورها لإقناع تلك المجنونة بالعدول عن رأيها.

كانت تلك المجنونة التي يتحدثون عنها جارتنا “ام دياب”، ضربها زوجها دونما سببٍ ظاهر، وسمع صراخها في أرجاء الحارة. ذهبت النسوة في محاولة منهن لتهدئة روعها، وما أن خرجن حتى عادت للثورة مجدداً. أصبحت مجنونة الآن فقط لأنها تريد إيقاف زوجها عند حده. وأبي مقتنع أن جدتي كانت لتهدىء من روع تلك “المجنونة”. أحياناً أشك بأنه يعرفها كما عرفتها أو كما عرفها محمد. كانت كلما تقدم بها العمر يوماً، غرقت أكثر في لجة ماضٍ بعيد، سلخوها عنه قسراً، لتواجه اللجوء، الفاقة والعوز، وعبء إعالة طفلٍ صغير، في مجتمعٍ لا يكتفي بعقد حاجبيه لخروج المرأة للعمل، فما بالك وهي بعد صغيرة وفوق ذلك أرملة... وجميلة! فتزداد تصلباً وعناداً.

أكاد أراها الآن، تلوح بعصاها أمام وجهي:

- لا تقنعي أن الخنوع والاستسلام يجديان، اعتمدَ على نبل الأخلاق، من قال “من ضربك على خدك الأيمن أدرْ له الأيسر”، وعالمنا عاهرة لا أخلاق لها. شهدت الكثير من حالات الولادة والميلاد، هنا وهناك. نحن نقذف إلى الحياة بصرخة قتال، والناس هي التي تمسحنا بلباس التهذيب، تماماً مثلما تغطي عرينا. من البداية ولدنا مقاتلين، خضوعنا فقط يحّولنا إلى خرقةٍ للبصاقِ أو للبراز، لا فرق، ولحظة إعلانك الخنوع، لا تضرين إلا نفسك، اسأليني أنا، داستني الحياة حتى تعلمت كيف أدوسها.

كانت أمي قد ذهبت لإعداد القهوة. ولم أُرد الدخول في نقاشٍ مع منطقهم وعقلانيتهم، فآثرت الصمت ومراقبته. كان بملابسه العسكرية. سترته السوداء تستريح على المقعد قربه، ومسدسه ملقى على الطاولة، يتحدث بهدوء وروّية، بصوتٍ منخفض الرنّة، وكأنه يحسب للكلمة ألف حساب، يكتفي بسطوة الكلمة ومنطقها دون حركات وتلويح باليدين، أصابعه الطويلة تعانق السيجارة فقط، ويده الأخرى ترتاح على فخذه، حين لا تكون مشغولة بكوب القهوة.

كثيراً ما فتنتني أصابعه، تلك القوة الكامنة، وسرّ الإبداع فيها. كانت أصابعه تتحنى بجلال القدرة، تعكس روحه كلها، وكأنها آخر ضربات الفرشاة لفنانٍ أراد إبراز الحياة صاخبةً عنيفة في أصغر تفصيل للوحة تضج بسكونٍ هادئ، فكانت الثورة فيها بركاناً يهدد بإغراق الكل بلهبٍ من الأحمر الناري، كعب أخيل الفاضح للضعف. كثيراً ما كان يصمت وتحدثني أصابعه، أواه كم تلك الأصابع تعشق البوح والثرثرة، وأواه كم كنت أتحسس بنبضي لهفتها للبوح، ويخنقنا الحزن معاً وألف قيد.

-  فاطمة.. فاطمة.

فرقعة أصابعه أيقظتني من أفكاري الذاهلة. لأصابعه دوماً ذاك السحر الجارح بحدته فيوقظك من سباتٍ طويل.
– أين تسرحين؟ ما بك؟

-  لا شيء. سمعت عن استعدادتكم، وكأنكم تعّدون العّدة لحرب؟

شعر بالسخرية من كلماتي وإن كانت مغلفة بالمرارة.

- ليس هناك وكأن، هي الحرب يا فاطمة ولا مفر.
أردته أن ينفي الأمر، يواري بالطمأنة الزائفة جوابه القاطع لحبل الأمل الواهي. رفعت رأسي، وحين التقت العيون واريت ضعفي.

-  ستخوضها طبعاً.

-  لا مجال للنقاش أو السؤال أوحتى الشك.

قاتلة إجاباته، لماذا اليوم دوناً عن الأيام يذبحني صدقك؟ ولماذا لا تحقن إجاباتك بالزيف وطعم السكر الحلو المذاق، حتى وإن كانت غلافاً للموت؟

-  اعتنِ بنفسك .... وبمن معك.

التقت النظرات من جديد، وماتت الكلمات.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 29 / 2177200

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع رواية وفضاءات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2177200 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40