الجمعة 12 نيسان (أبريل) 2013

اتفاقية أوسلو – الخلفيات والتهيئة

الطريق إلى اغتيال فلسطين
الجمعة 12 نيسان (أبريل) 2013

إذا كان هناك ضرورة لطرح ومناقشة مجريات القضية الفلسطينية وواقع الشعب الفلسطيني الحالي والتعرض للأسباب الحقيقية التي أدت إلى جر الفلسطينيين إلى مفاوضات ( سلام ) وفق شروط الكيان الصهيوني !! والتي رأيناها في الاتفاقيات المتلاحقة ، ونتيجة لاهتزاز وميوعة مواقف المفاوض الفلسطيني فقد الشعب الفلسطيني كثيرا من حقوقه المشروعة !!
وأتصور أن أخطر ما حصل هو توقيع ( إتفاقية أوسلو) التي أجل فيها البحث في الكثير من أهم القضايا التي تهم الشعب الفلسطيني وتعد من أهم مرتكزات أية حل نهائي ، مثل قضية القدس واللاجئين وحق العودة ، إضافة لعيوب هذه الاتفاقية القانونية الكثيرة . لهذا أعتقد أن الصراع ما زال مستمرا ... والأزمة ما زالت باقية ..خصوصا بعد إقامة الجدار وإعادة الانتشار للجيش الصهيوني من غزة دون التشاور أو الاتفاق المسبق مع السلطة الفلسطينية ، وهذا يدعو كافة فئات الشعب الفلسطيني من مقاومين إلى سلطة وإسلاميين ووطنيين ، لتحديد ( آليات الحل ) للواقع الفلسطيني المرير وفق خطوات علمية وفلسفية لا تتعارض مع الإيمان والتراث وعدالة القضية الفلسطينية مع الأخذ بعين الإعتبار بالنظرة المستقبلية لطبيعة هذا الحل ووضع المنطقة .

. . . لقد اعتبر العام 1983 من قبل بعض المحللين السياسيين بأنه مؤشر واضح ، لبداية تبلور علاقة جديدة بين الفلسطينيين و(إسرائيل) ، حيث تم في هذا العام ، وبالتحديد في 11/3/1983 ، لقاء بين (أبي إياد) وبين وفد من (حركة السلام الآن) في المجر ، بمبادرة من المسئولين المجريين .
وقد حضرت اللقاء الصحفية اليهودية (حنا زيمر) ، التي نشرت تفاصيل اللقاء في صحيفة (هاآرتس) ، ووصفته بأنه :
كان لقاء مهماً وعنيفاً .
لهذا فقد دعا (شامير) إلى توضيح (معنى السلام) ، في مقال نشره عام 1983 في مجلة (فورين افيرز) وقال فيه :
إن السلام تريده (إسرائيل) مرتبطاً بالأمن .
وأضاف :- ( أنهما لن يتحققا إلا إذا كانا مرتكزين على القوة الإسرائيلية ، فالسلام لا يتحقق إلا إذا كانت إسرائيل قوية ) !!!
وضمن هذا التحليل ، أعتقد (شامير) أن القوة ستجعل العرب يتنازلون عن كثير من أولوياتهم ، وأهدافهم ، ومبادئهم ، وستجعل السلام أيضاً في خدمة أهداف ومصالح (إسرائيل) فقط ، حيث سيخسر العرب في النهاية كل قضاياهم .
الشيء الذي يثير الانتباه كثيراً في مقال (شامير) هو إصراره على (قوة إسرائيل) التي : (ستعمل على توسيع دائرة المشاركين في عملية السلام ، وهذا سيكون بمشاركة مصر وإسرائيل وتشجيع الولايات المتحدة على ذلك) . وعند استقرائي للأحداث منذ العام 1983 ولحد الآن ، نجد أن آراء (شامير) ، التي هي آراء (تل أبيب) ، تتحقق بدقة متناهية بمباركة عربية لا ترى مبرراً لها إطلاقاً . خصوصاًُ وأن (شامير) يشير في مقاله بوضوح إلى موضوع (التكيف العربي) ، وهو موضوع خطير وحساس يجب الإلتفات إليه ، حيث قال :
( إن مصر رفضت العودة للعرب على حساب إسرائيل بعد كامب ديفيد ، وبدا أن بعض العرب بدئوا يتكيفون مع الموقف الجديد) ؟
وتكيف العرب مع الموقف الجديد ، الذي سعت إليه (تل أبيب) بمباركة (واشنطن) ، كلفت المنطقة كثيراً في النظام الدولي الحالي . . .
وتكيف العرب مع الموقف الجديد أيضاً ينم عن جهل مطبق من بعض الحكام العرب ، الذين هرولوا إلى الصلح مع (إسرائيل) ، دون أن يفهموا بدقة ما يخطط للمنطقة . . . وينم عن جهل آخر بالمعادلات الدولية ، التي تريد (واشنطن) فرضها عليهم بالقوة .
والغريب أنه بدلاً من أن ينظم العرب أوضاعهم السياسية ، والانطلاق بنظام أمني جديد ، ونظام اقتصادي واجتماعي جديد يهيئ وفقاً للأسس التي تتماشى مع مصالح شعوبهم ، والخروج بتكتل إقليمي يكون قادراً على مواجهة التحديات المعاصرة . . . بدلاً من ذلك . . . أستسلم بعض الحكام العرب (لإسرائيل) و(الولايات المتحدة) ، بحجة أن النظام الدولي الحالي يقتضي المرونة ، وقد وصلت المرونة ببعض هؤلاء إلى التخلي عن مبادئ ، وأهداف ، ومصالح العرب وبيعها بدون ثمن على طاولة المفاوضات مع (إسرائيل) .( وهذا ما يحدث حاليا متمثلا بهرولة معظم ممثلي الدول العربية للقاء مستر شارون ، بعد ما سمي بالإنسحاب من قطاع غزة ) !!!!
على أية حال . . . نعود إلى صلب الموضوع . . . ونؤكد على أنه قد عقدت عدة لقاءات بين قيادات فلسطينية وبين (حركة السلام الآن ) ويهود شرقيين ، لدفع العرب إلى مزيد من التنازلات ، ولدفع (م.ت.ف) إلى الإعتراف (بإسرائيل) . إلا أن أهم لقاء تم بين الجانبين كان في رومانيا عام 1986 ، ثم توالت اللقاءات . . . لقاء في هنغاريا عام 1987 . . . ولقاء في إسبانيا عام 1989 ، وصفته الصحافة بأنه : كان مثيراً للغاية ، حيث شاركت فيه وفود مكثفة من يهود شرقيين من شتى أنحاء العالم .
و لكي لا تخلط الأوراق . . وهو أن (مفهوم السلام في إسرائيل) يرتكز على ( دعم مصالح تل أبيب التوسعية ) ، ويراد منه أيضاً ( استيعاب الشعب الفلسطيني في كيان هزيل وغير مسلح) ، وهذا ما يؤكد عليه سياسيو (إسرائيل) ، ومن بينهم (دافيد ايش شالوم) ، الذي طالب (الليكود ، والعمل) في كتابة ( الرعب والأمل ) بإقامة : ( حكم ذاتي فلسطيني غير مسلح في يهودا والسامرة وقطع غزة بقيادة المنظمة ) ، وقد وجدت أفكار (شالوم) طريقها إلى (الليكود) عبر صديقه (موشيه عميران) ، أحد أعضاء (حركت حيروت) . والملاحظ أن صديقه ( شالوم ، عميران) كانا حلقة الوصل بين (عرفات) ومؤيديه وبين زعماء (إسرائيل) ، حيث رتبا عدة لقاءات بهذا الشأن مع (سري نسيبة ، وصلاح زحيقة ) في 4/7/1987 ، ومع (فيصل الحسيني) في 13/7/1987 ، ومع (نسيبة ، وفيصل الحسيني) في 30/7/1987 . وقد نوقش في هذه الاجتماعات كثير من الأمور المتعلقة بالسلام ، واتفق أن تكون هناك (مرحلة إنتقالية) لمده قصيرة ، تنتهي (بإنشاء كيان فلسطيني منزوع السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة) ، ومشروع السلام (الإسرائيلي) هذا إسترعى إنتباه كثير من المحللين السياسيين المهتمين (بأزمة سلام الشرق الأوسط) ، ووصفوه بأنه : مشابه (لاتفاق أوسلو) بصورة إجمالية !!
لهذا فأنا أرفض الفكرة القائلة بأن : معاناة الفلسطينيين في لبنان ، وضغوط المؤامرات العربية ضدهم ، وكذلك المعادلات الدولية بعد اضمحلال الإتحاد السوفياتي وبناء نظام دولي جديد هي التي دفعتهم للتنازلات في (إتفاقية أوسلو) . . . وهذا الكلام مع أنه صحيح في أكثر من جانب ، إلا أنه ليس دقيقاً.. لأن الفلسطينيين المؤيدين للسلام مع (إسرائيل) كانوا يحملون في نفوسهم (مبرراً للاستسلام) منذ البداية ، وكذلك فإن تبدل (موازين القوى) لا يستدعي التنازل عن أولويات ،وأهداف من أجل سلام هش لا يخدم إلا تطلعات (تل أبيب) و (واشنطن) في المنطقة .
صحيح إننا يجب أن نفهم منطق (العامل الدولي) ، ولكن الفهم يحتم علينا أن نكون أقوياء لا ضعفاء مستسلمين .
وصحيح أيضاً أن كارثة احتلال الكويت ، خلقت أموراً خطيرة في المنطقة ، بما فيها تواجد الأساطيل الأميركية ، مما أدى إلى تولد إحباط كبير عند العرب ، شجع الفلسطينيين إلى الذهاب إلى (محادثات أوسلو) .
ولكن هذا كله ليس مبرراً بالمرة إلى التنازل عن كل شيء من أجل سلام كسيح .
وصحيح أن المؤامرات العربية كانت لها ضغوط على مسار القضية الفلسطينية ، ولكن هذه الضغوط ليست مبرراً آخراً للرضوخ لشروط (تل أبيب) الغير مشروعة .
وعليه نقول . . . إن الفلسطينيين المؤيدين للصلح مع (إسرائيل) كانوا يحملون (بذور الاستسلام) ، وهذا ما دعاهم ، في 15/11/1988 ، إلى تبني ما يسمى (بالمبادرة السياسية) في المجلس الوطني الفلسطيني ، بعد خديعة المجلس واستغفاله . ويعترف (أبو مازن) في كتابه (طريق أوسلو) بذلك حيث يقول بأنه :- (حاول أن يمرر بالاشتراك مع عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي الفلسطيني نعيم الأشهب طرح فكرة القبول بالقرارين 242 ، 338 كأساس لعملية سياسية أو لمبادرة سياسية ، سميت فيما بعد المبادرة السياسية الفلسطينية) * .
ومن المعروف أن (المبادرة السياسية) طرحت في البداية بشكل سري للغاية ثم سربت فيما بعد إلى بعض الأطراف العربية ، وإلى الإتحاد السوفيتي السابق .
أن الجناح المؤيد (لعرفات) نجح في تمرير ما يريده في (م.ت.ف) جاءت مبادرة (عرفات) في جنيف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1988 ، والتي ركز فيها على :
* ( الصيغ البديلة الواقعية القابلة للتحقيق لأجل حل القضية ) .
* ( والعدل الممكن لا المطلق ) .

* ( على أن يضمن ذلك حقوق الشعب الفلسطيني في (الحرية والسيادة وتوازن المصالح) ، ويضمن للجميع (السلام والأمن والاستقرار) ، من خلال (مؤتمر دولي) يعقد لذلك بحضور جميع الأطراف بما فيها دولة فلسطين ، لتحقيق (المساواة وتوازن المصالح) ، وخاصة التحرر والاستقلال الوطني واحترام حق العيش للجميع وفقاً للقرارين (242،338) .
ثم وجه (عرفات) كلامه بعد ذلك إلى (الإسرائيليين) قائلاً لهم :
( تعالوا بعيداً عن شبح الخوف والتخويف ، لصنع السلام ، سلام الشجعان ، بعيداً عن غطرسة القوة ، بعيداً عن شبح الحرب المتواصلة ) .
وأعتقد . . . أن خطاب (عرفات) لم يكن منطقياً ، لأنه كيف تكون المساواة ، وتوازن المصالح (وإسرائيل) متمسكة بغطرستها ؟ ، حيث تريد أن تملي شروطها دائماً على الغير . و(عرفات) قبل غيره يعرف ذلك جيداً ، لكنه أراد من خطبته في الأمم المتحدة أن يرضي (أميركا) والحصول على اعترافها (بمنطقة التحرير الفلسطينية) . وفعلاً فقد صدر ، بعد يومين فقط من خطاب جنيف ، قرار (أميركي) بفتح الحوار مع الفلسطينيين ، مما دعا (وزارة الخارجية الإسرائيلية) إلى نشر بيان شديد اللهجة ضد القرار (الأميركي) . ولم تلتفت (واشنطن) لذلك ، لكنها حاولت أن تفهم (تل أبيب) حقيقة موقف (الولايات المتحدة) المساند والمؤيد (لإسرائيل) ، حيث جاء قرارها بفتح الحوار مع (م.ت.ف) ضمن هذا السياق ، وبعد مداولات إقتنعت (تل أبيب) بوجهة نظر (واشنطن) ، ورحبت أيضاً بضرورة إجراء لقاءات سرية بين مؤيدي (عرفات) وبين يهود أميركيين للتمهيد للمحادثات الرسمية . وبالفعل تمت هذه اللقاءات بسرية تامة لدفع الفلسطينيين إلى مزيد من التنازلات ومن خلال هذه الواقعة نتعرف على حقيقة ذلك . . .

فعندما تحدث (أبو عمار) ، في مؤتمر صحفي أثناء زيارته للسويد نهاية العام 1989 ، عن لقاء جرى بين (خالد الحسن) وبين (زعماء يهود أميركيين) ، أراد أن يصف هذا اللقاء قائلاً :
( إنه قراءة جيدة لقرارات المجلس الوطني ) .
ولكن هذا التصريح لم يعجب (شولتز) . فعلق عليه بعد يوم واحد بقوله :
( إن تصريحات عرفات في ستوكهولم لا تصلح لتشكيل قاعدة للمباحثات الثنائية بين منظمة التحرير والولايات المتحدة ) .
(فشولتز) كان يريد تنازلات أكبر ، والاعتراف (بإسرائيل) صراحة ، وقد ذكر ذلك بوضوح عندما قال :
إنني لم أجد في تصريح عرفات اعترافا بإسرائيل ، وهذا غير كاف لبدء الحوار بيننا ) .

لقد كانت (أميركا) تريد أن تدفع (م.ت.ف) إلى إعطاء تنازلات حيوية ومهمة ، والاعتراف (بإسرائيل) ، ورغبتها هذه قديمة سبقت الدعوة التي تحدث عنها (سايروس فانس) مع المصريين والسعوديين لإقناع الفلسطينيين بالاعتراف بالقرار 242 ، والاعتراف (بإسرائيل) .

وفهم (عرفات) ومؤيديه ما تريده (واشنطن) بالضبط . . . وعملوا كل ما في وسعهم في هذا الاتجاه . . . وبنشاط غريب يدعو للتأمل . . . فتم الاعتراف (بإسرائيل) ، وبالقرارين (242 ، 338) . . . وفي هذا الوقت بالذات أرسل (هاني الحسن ) ، نهاية العام 1987 ، ليلقي محاضرة في (الجمعية الراديكالية البريطانية ) ، حيث أوضح فيها المسارات الجديدة للسياسة الفلسطينية ، وذكر أيضاً بأن :
(ميزان القوى لا يسمح بالحديث عن استرداد فلسطين المحتلة سنة 1948 . . . كما أن الأوضاع الدولية الحالية لا تسمج بالحلول العسكرية . . . فلا بد من التوجه نحو حل سياسي وفاقي . . . والحل لا بد أن يتناول تنازلات ، بما في ذلك تعديلات جغرافية على حدود سنة 1967 . . . ، فالتنازل عن 77 في المائة من الأراضي الفلسطينية أصبح حقيقة واقعة . . . ، ثم أن الحل الوسط يعني التنازل عن أية مطالب أخرى في إطار سلام شامل) !!

والحقيقة . . . إني وقفت مذهولاً وأنا أراجع هذه المحاضرة ، لأنها تنطوي على استسلام كامل غير مبرر ، وكذلك تنطوي على مغالطات وتناقضات عديدة من يتمعن فيها يعلم حجم خطورتها على القضية الفلسطينية ، فكل ما فيها يتماثل مع (مشروع إسحاق رابين) الذي عرضه (عبد الوهاب الدراوشة) (1) . على المنظمة في تونس عام 1989 ، ومن المعروف أن هذا المشروع يعد قراءة ملخصة (لاتفاقية أوسلو) !!

. وقد اطلعت على رواية ذكرت أن (عرفات) أصدر من (اللجنة المركزية لحركة فتح) قراراً للصلح مع (إسرائيل) ، وصفه بأنه : (جماعي) ، مع أن أكثر من نصف أعضاء (اللجنة المركزية) هم 18 عضواً ، استقال منهم (محمود درويش) و (شفيق الحوت) بعد أن شاهدا حجم المؤامرة ، وثلاثة قاطعوا الجلسة ، و( إليا خوري ) لم يحضر لمرضه ، وعقدت الجلسة بحضور 12 عضواً ، أربعة عارضوا ، وثمانية فقط صوتوا مع القرار الاستسلامي .
هذا الشيء ، وغيره الكثير من اللعب الماكرة حدثت أيضاً في (م.ت.ف) لإقناعها للاعتراف بالقرار 242 ، والاعتراف (بإسرائيل) .
وهكذا كانت كل الأحداث تسير وفقاً لما تريده (تل أبيب) و (واشنطن) بالضبط ، خصوصاً بعد أن عرفت (الإدارة الأميركية) رغبة الفلسطينيين للتنازل عن أساسيات وأولويات قضيتهم منذ اللقاء السري معهم في تونس ، في 15/2/1989 ، حيث

ضم (الوفد الأميركي) شخصيات سياسية ، وباحثين من معهد (بروكينز) ، وجميعهم طرحوا تساؤلات عديدة منها :
هل يريد الفلسطينيون دولة مستقلة ؟
وكيف يرون مستقبل القدس ؟
والمستوطنات كيف سيكون مصيرها ؟
ورد الفلسطينيون بصورة إجمالية :- بأنهم يريدون (دولة مستقلة كباقي شعوب الأرض التي تبحث عن الاستقلال الوطني) .
ولكن بعد محادثات مطولة . . . استغرب (الأميركيون) من حجم التنازلات التي قدمها الفلسطينيون ، خصوصاً وأن مسائل مثل القدس ، والمستوطنات ، والمياه قد ظلت مبهمة وعائمة .
واستمرت المحادثات مع (الأميركيين) سراً ، وعلى هذا المستوى ، في كل مرة يطلب من الفلسطينيين تنازل جديد ، إلى أن أعلن (جورج بوش) عام 1991 ، بعد تبدل موازين القوى الدولية ، عن (خطة سلام) من (أربعة مبادئ وتطبيق القرارين 242،338 ، مع ملاحظة حقوق الشعب الفلسطيني ، ومبدأ الأرض مقابل السلام ، والأمن والسلام لدولة إسرائيل ) .
ورحب الفلسطينيون في تونس بهذه الخطة بفرح ملحوظ ، الأمر الذي شجع 24 عضواً من أعضاء (الكنيست) على توجيه (دعوة مستعجلة) ، بواسطة وكالة الأنباء الفرنسية ، إلى المجلس الوطني الفلسطيني بعقد (مؤتمر سلام) لحل القضية الفلسطينية ، ومن الذين وقعوا على الدعوة (عيزرا وايزمان) . وقد أثار ذلك حفيظة (وسائل الإعلام الإسرائيلية) ، مما دعا وزير الدفاع السابق (موشية آرينز) لتوضيح الأمر في (صحيفة معاريف) الصادرة يوم 1/7/1991 قائلاً :
( في الأيام الأخيرة أخذنا نسمع صراخاً من اليمين بأننا ذاهبون إلى مؤتمر السلام للتنازل ، وأننا ذاهبون للمصيدة ، فمن يقول إننا ذاهبون للتنازل في المفاوضات فإنه لا يعرف إسحق شامير ، ومن يقول إننا ذاهبون للمصيدة فإنه لا يعرف الليكود ولا يعرفني ) .
وأتصور أن (موشيه آرينز) كان صادقا عندما قال ذلك ، خصوصاً وأن (إسرائيل) كانت تطالب الفلسطينيين بالتنازل عن كل شيء حيوي وهام ، ضمن مخطط يدعو إلى زيادة حجم التنازلات في كل لقاء يتجدد ، وهذه الحقيقة بالتحديد أوضحها (محمود عباس) فقال :
( لقد أوضحنا ما بين جنيف والجزائر موقفنا ، وأن أي حديث على غرار (يجب أن يقدم الفلسطينيون أكثر) . . أتذكرون هذا الشعار ؟ أو أن الفلسطينيين يقومون بلعبات دعائية ، أو مناورات علاقات عامة ، إن كل ذلك سيكون ضاراً وغير مثمر . . . كفى يجب مناقشة كل المسائل المتبقية على المائدة وفي المؤتمر الدولي) (2) .
ومع أن تقديم الأكثر (سيكون ضاراً وغير مثمر) كما يقول (محمود عباس) ، إلا أنه أصبح طريقة مألوفة من قبل (عرفات) ومؤيديه ، الذين أعطوا التنازلات الواحدة تلو الأخرى .
وفي ظل هذه المساواة . . .
انعقدت (مفاوضات واشنطن) حيث كانت :- (مخيبة لآمال الفلسطينيين) ، لأن (أميركا) أعلنت بصراحة غير خجلة ، بعد انعقاد الجولة السادسة للمفاوضات ، منح (إسرائيل) ضمانات وقروضاً تبلغ عشرة مليارات دولار ، لاستكمال بناء إحدى عشر ألف وحدة سكنية استيطانية في الأراضي المحتلة ، في القدس وما جاورها . إضافة إلى أن الجمود بدأ يخيم على المحادثات ، قبل الجولة الثامنة من المفاوضات ، بسبب استغلال (إسرائيل) للمرحلة الانتقالية بين (الرئيس بوش) و (كلينتون) . وعند انعقاد الجولة الثامنة ، التي لم تستمر غير ستة أيام ، لأن (تل أبيب) أبعدت 415 فلسطينياً من حركة حماس إلى لندن ، أصبح واضحاً للجميع أن المحادثات فاشلة وغير جدية . الأمر الذي أدى إلى فتح قنوات أخرى نشطت بعيداً عن (واشنطن) ، وبالتحديد في (أوسلو) قد توقفت تماماً ، على العكس من ذلك استمرت هذه المفاوضات وبنفس مسارها القديم ، إلى أن وصلت لطريق مسدود ، بعد خمسة عشر شهراً من المحادثات العقيمة ، التي دلت على تعنت اليهود . علماً أن (الخطة الأميركية) للسلام كانت تتضمن (مرحلة انتقالية لمدة سنة تفضي إلى حكم ذاتي فلسطيني) .
ومن المفيد ذكره أن (هاليك هالتر ، وآريك لوران) عندما تطرقا إلى (محادثات واشنطن) في كتابهما (مجانين السلام) ذكرا بأن (عرفات) أراد أن يفتح قنوات أخرى سرية في (النروج) ، لكنة مع ذلك حرص على أن يبقي الوفد الفلسطيني الرسمي في (محادثات واشنطن على جهل مطبق بما يحصل وأن يلعب دور ستار دخان مضلل . وبالفعل تلقى المفاوضون الثلاثة والتسعون المقيمون في العاصمة الأميركية توجيهات جديدة مفاجئة من قبل قيادتهم ، نقلت إليهم عن طريق نبيل شعث ، فقد دعاهم عرفات وأبو مازن إلى تبني موقف متشدد ، وإلى رفض كل الإقتراحات التي تتقدم بها إسرائيل ، وقد شعر هؤلاء بخيبة مريرة عندما أدركوا التلاعب الذي ذهبوا ضحيته) (3) .
شعر هؤلاء بخيبة مريرة . . . لأنهم أدركوا بعد ذلك أن مفاوضات سرية جرت في (أوسلو) ، أعطيت فيها تنازلات ضخمة (لإسرائيل) من قبل المفاوض الفلسطيني .
ولكي نرى حجم هذه التنازلات كان لا بد من ملاحقة ما جرى في (النرويج) ، ونحلل ما حدث هناك . . .
والقصة ابتدأت بوصول (أبي العلاء ، وحسن العصفور) إلى (ستاليز بورغ) ، وبمجرد وصولهما التقيا بالوفد (الإسرائيلي) ممثلاً (بيائير هيرشفيليد ، ورون بونديك) ، حيث تحدث (أبو العلاء) في هذا اللقاء وقال في كلمته :
(إننا مررنا بمرحلة صعبة بعد حرب الخليج ، لقد أسيء بتفسير موقفنا وإن كنا قد بالغنا فيه ، ولا نخجل من الإعتراف بذلك ، إلا أننا في هذه الأيام بدأنا شيئاً فشيئاً نستعيد علاقاتنا مع البلدان العربية ) .
وأضاف بذل واضح :
(لقد برهنا عن صدق توجهنا ، عندما قبلنا أن ندخل إلى مدريد بشروط مجحفة ، وسنظل ملتزمين بالعملية السلمية ما دام هناك أمل في تحقيق نجاح ، وسنظل نناضل من داخل العملية لتحسين شروط مشاركتنا فيها) .
وأنا هنا أستغرب حقاً من هذا الكلام . . . الذي صدر عن رئيس وفد يفاوض من أجل قضية هامة وحساسة . . . وزاد من استغرابي أكثر عند قراءتي للمقترح الذي طرحه (أبو العلاء) على (هيرشفيليد) ، والمتضمن عشرة نقاط . والمقترح ها هو أمامي . . . وقد تفحصته بدقة متناهية ، وأعدت قراءته مرات ومرات . . . فلم أجد فيه شيئاً واضحاً ومفهوماً حول القدس أو باقي المسائل الأخرى الهامة والضرورية ، أكثر النقاط كانت عموميات لأمور ثانوية ، في حين بقيت مسائل القدس ، واللاجئين ، والمياه ، والمستوطنات بصورة غائمة ومبهمة . . . ولا أدري لماذا ؟ .
وأعتقد أن هذه الأمور قد استغلها (هيرشفيليد) ، وقال (لأبي العلاء) بشدة لكي يغلق الموضوع نهائياً :
( بالنسبة لنا يتعين أن تبقى القدس موحدة ، وفي نفس الوقت فإننا نفهم أن فلسطيني القدس لا ينبغي لهم أن يصبحوا جزء من إسرائيل ، كما نفهم أهمية القدس بالنسبة لكم ) .
فرد (أبو العلاء) :
( إذاً ليكن الحديث عنها إلى الثنائي ونشكل لها لجنة غير رسمية ) .
عندما سمع (هيرشفيليد) ذلك انتفض غاضباً وقال :
( في هذه الحالة فإن الحكومة الإسرائيلية سوف تسقط فوراً ، خصوصاً وأن شاس سوف تخرج منها ) .
وبعد وصول الحديث إلى هذا المستوى . . . رضخ (أبو العلاء) والوفد المرافق له بصورة تدعو للتأمل والحيرة !!
لهذا . . . فإن (الوفد الإسرائيلي) تشدد أكثر في طرح قضاياه ومواقفه ، خصوصاً بعد أن أحس (بالمرونة والليونة) التي أبداها (الوفد الفلسطيني) ، ونرى أن (التشدد الإسرائيلي) قد ازداد وضوحاً في الاجتماع الثاني بين الجانبين ، حيث قال (هيرشفيليد) بصراحة للفلسطينيين :
( أنتم تريدون عملية السلام ، ولكن في نهاية المطاف لن تنشأ دولة الآن ، وإنما تترك للتطورات اللاحقة ) !!
ولم يفهم (أبو العلاء) ومعاونوه مغزى ومعنى هذا الكلام ، لأنهم كانوا مصرين على عقد اتفاق مع (إسرائيل) مهما كان الثمن .
وعندما لاحظ (هيرشفيليد) ذلك استدرك قائلاً :
( إنكم تتفهمون الصعوبات التي نواجهها ، وإنكم على استعداد لإبداء بعض المرونة لإنجاح العملية . الأمر الذي يتعين أنكم على استعداد للنزول تحت الماء ثم الصعود تدريجياً في فترة لاحقة ) !!
ولم يفهم الفلسطينيون ذلك أيضاً . . . ولا أعرف لماذا ؟
الشيء الملفت للإنتباه . . .
أن (أبا العلاء) أراد تذكرة (هيرشفيليد) برسالة التطمينات (الأميركية) ، التي أكدت على مشاركة سكان القدس في الإنتخابات ، فرد عليه (هيرشفيليد) بحزم قائلاً :
( خذوا موضوع مشاركة القدس من الأمريكيين مباشرة وليس منا . إذا تصورنا وضعاً تقوم به حكومتنا بالموافقة على مشاركة سكان القدس في الإنتخابات فإنها ستسقط حتماً ) .
ولم يفهم الفلسطينيون ذلك أيضاً . . . أو حاولوا أن لا يفهموا ، على تعبير أدق .
أقول إنهم حاولوا أن لا يفهموا ، خصوصاً (أبو العلاء) الذي تقصد إثارة موضوع عدم استطاعة (التوصل إلى أية إتفاقية حول إعلان المبادئ بدون ذكر القدس) ، فرد عليه (رون بونديك) قائلاً :
( كيف يمكن أن نمرر موضوعاً كهذا على حزب شاس ؟ عليكم أن تدركوا أن بإمكان شاس إسقاط الحكومة إذا ما انسحب منها ) .
وقبل (أبو العلاء) بهذا التبرير . . . وحاول أن يغير مضمون الحوار ، الذي لم تصل فيه الأمور إلى حسم ، لموضوع آخر هو (نطاق السلطة) ، حيث أكد على أنها لا بد أن تكون على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة ، فقاطعة (هيرشفيليد) ساخراً قائلاً له :

( إن موضوع الولاية الكاملة على الأراضي مسألة غير ممكنة على الإطلاق خلال المرحلة الإنتقالية ، لأنها تخص المرحلة النهائية) .
ولا بد أن نذكر . . .
أنه بعد هاتين الجولتين من المحادثات بين الوفدين (الإسرائيلي ، والفلسطيني) ، تم لقاء سري في الجو بين (بيريز) وبين (أبي مازن) في طائرة مصرية حلقت في أجواء مدينة الإسكندرية . . . فيا ترى ما الذي جرى في هذا اللقاء ؟ وما هي حجم المساومات والتنازلات التي قدمت (لبيريز) ؟ !!!
على أية حال . . . (المفاوض الإسرائيلي) ذكر الفلسطينيين في الجولة الثالثة من المحادثات قائلاً بأن :
( الحكومة الإسرائيلية سعيدة بما وصلت إليه المفاوضات) ؟
وبعدها أوضح (يائير هيرشفيليد) بشأن القدس قائلاً :
( علينا أن نجد طريقة لتمرير ذلك . وعلينا أن نجد لغة خاصة عند الحديث عن القدس) .
وكان الأولى من المفاوض الفلسطيني أن يسأل :- عن ماهية هذه اللغة الخاصة ومفرداتها .
لكني وأنا أطالع المحاضر لم أجد كلمة واحدة تستفسر عن هذا الأمر ؟ كل ما فعله المفاوض الفلسطيني هو الإنتقال سريعاً من موضوع إلى آخر دون حسم ، مع إبداء مرونة أكثر ، وتنازل أكبر من السابق . . . حتى في مجال (نطاق السلطة) ، الذي طرحه (أبو العلاء) ، قال (يائير) بشأنه
( إن حدود السيادة الإسرائيلية اليوم هي الخط الأخضر) .
وانتهى كل شيء بعد سكوت الفلسطينيين !!
لهذا بقي (الغموض الإسرائيلي) هو سيد الموقف !! . . . وبقيت (المراوغة الإسرائيلية) هي المسيطر على المحادثات!
والأغرب أن (مراوغة تل أبيب) قد ازدادت عن المعتاد في الجولة الرابعة من المحادثات ، التي عقدت في 30/4/1993 ، مما دعا (أبو العلاء) للقول :
( إنني أسمع لغة جديدة ، تنم عن عدم الرغبة الآن بإنهاء الوثيقة التي بين أيدينا والتوقيع عليها ، وذلك بالبحث في مواضيع أخرى تبدو كأنها هروب إلى الأمام) .
فرد عليه (هيرشفيليد) :
( نحن لم نتفق تماماً بعد ، لقد قمنا بتطوير الوثيقة هنا ، ومن الممكن أن نستكمل في واشنطن ، لأننا بصراحة بحاجة إلى مزيد من التفكير مطولاً ، وقال في نهاية حديثه :
(إن مهمة هذه القناة هي دعم المحادثات في الثنائي والمتعدد ، وليست بديلاً عنها . إن رابين يريد أن يجرب أسلوبه في التفاوض في واشنطن ، لأنه مقتنع بأنه سيحصل على أفضل مما يحصل عليه هنا) .

ونتساءل . . . ما الذي بقي للفلسطينيين حتى يريد (رابين) أن يجرب أسلوبه في التفاوض ليحصل على الأفضل ؟ أتصور أنه لم يبق شيء حيوي وهام . . .
الغريب أنه في هذا الجو الغامض ، والمريب وضعت مسودة (وثيقة إعلان المبادئ) ، التي تضمنت برنامج التعاون والعمل ، ووثيقة (خطة مارشال) ، وأربعة عشر بنداً ، صيغت بدقة لتأجيل كل القضايا الهامة والحساسة إلى النهائي كالقدس ، واللاجئين ، والمستوطنات ، والترتيبات الأمنية ، والسيادة ، والحدود ، والمياه ، وأجلت أيضاً قضايا أخرى فكلما تطرح قضية يقول (هيرشفيليد) :
( تترك للتطورات اللاحقة ) .
وكلكم تعرفون ما ترمي إليه هذه الجملة . . . فوراءها ما وراءها . . . من مؤامرات ، ومراوغة ، ولعب شيطانية ماكرة . . . ( وهو ما أكدته كل الأحداث اللاحقة ).
بلحاظ أن (رابين) لديه أفكاره المزدوجة في كل القضايا ، فهو يفرق بين ما هو ضروري ، وبين ما هو غير ضروري عند حديثه عن مسألة معينة ، المستوطنات مثلاً يعتبر بعضها ضرورياً ، لأنها مهمة للوضع السياسي ، والأمني (لإسرائيل) . وأفكار (رابين) هذه . . . هي نفس أفكار منسقي سياسة (تل أبيب) وزعمائها ، وإذا كان الحال كذلك . . لا أدري كيف ستكون المحادثات في النهائي إذا جرت بالأصل ؟ وكيف سيكون شكل (التطورات اللاحقة) ؟ التي رددها كثيراً (هيرشفيليد) ، خصوصاً وأن (إسرائيل) ستتمسك في النهاية بكل شيء بحجة أنه (ضروري للوضع السياسي والأمني لليهود) .
أليس هذا ما سيحدث فعلاً ! بالتأكيد .

******

على أية حال . . . بعد انتهاء الجولة الخامسة من المحادثات إطمأنت (إسرائيل) بأن ما تريده قد تحقق ، بعد التنازلات الحيوية التي قدمها المفاوض الفلسطيني ، لذلك قررت زيادة عدد مفاوضيها ، حيث كلف (أوري سافير) مدير عام (وزارة الخارجية الإسرائيلية) بالإنضمام للمفاوضات في الجولة السادسة ، وكلف أيضاً (يوئيل سنجر) المستشار القانوني المخضرم بالإشتراك في المفاوضات في الجولة السابعة ، وقد اختير هذان المفاوضان لأنهما متمرسان في المراوغة والخداع ، لجر المفاوض الفلسطيني إلى قضايا هامشية ، واختلاق قضايا أخرى غير ضرورية ، والحوار حولها ، وهي بالأساس لا أهمية لها إطلاقاً . . . ضمن عملية مدروسة ومخطط لها ليتنازل الفلسطينيون عن أبسط حقوقهم .
ومن المعروف أن (أوري سافير) قد رشح للمفاوضات من قبل(رابين ، وبيريز) ، لأنه قد اكتسب ثقة الإثنين منذ أن كان صحفياً ، إضافة إلى عمله كمدير عام في وزارة الخارجية ، وازدادت ثقة (رابين) به بعدما انتقد بشدة (مسودة الوثيقة) ، التي تم التفاوض حولها مع (أبي العلاء) في النروج ، لأنه كان يرى إمكانية (سد الطرق) أكثر على الفلسطينيين ، والحصول على مكاسب أكبر (لإسرائيل) . وعند وصول (سافير) إلى النروج إجتمع فوراً (بهرشفيليد) و (بونديك) ، وأعطاهم تعليمات جديدة ومشددة لمناورة الفلسطينيين . كما إنه بادر ليخاطب (أبا العلاء) في أول لقاء به قائلاً له :
( إنس مؤقتاً فكرة دولة فلسطينية ، ومستقبل القدس ، والمستعمرات الإستيطانية . لأننا لا نريد أن نتفاوض جدياً إلا بشرط أن تنحو هذه المسائل ) !!
ورضي (أبو العلاء) ذلك بطيب خاطر . . . وبنفس مطمئنة !؟ وشاركه رضاه زميلاه (حسن العصفور) و (الدكتور ماهر) !!
* أما (يوئيل سنجر) ، أستاذ القانون الدولي ، فقد حدد إسمه من قبل (بيريز) . والرجل خدم (المصالح الإسرائيلية) في (الولايات المتحدة) من خلال عمله بمكتب للمحاماة يقع في مدينة (واشنطن) . وخبرة (سنجر) أكسبته صلابة ،خصوصاً وأنه ساهم في صياغة (إتفاق فك الإشباك مع مصر وسوريا ، ومناقشات كمب ديفيد مع مصر . كما إنه عمل مراراً على جعل قال القرارات الإسرائيلية الجائرة في الأراضي المحتلة مشروعة وقانونية ومبررة ) (4) .
و(سنجر) عندما كلف في (تل أبيب) بقراءة (مسودة الوثيقة) المفاوض حولها مع الفلسطينيين ، إنتفض غاضباً قائلاً :
إنها غير صالحة . . . إنها غير صالحة !!
قال ذلك على الرغم من حجم الفلسطينية ، لأنه كان يعتقد إمكانية الحصول على مصالح أكبر (لإسرائيل) .
واعتقاده هذا مرده إلى إدراكه بأن الفلسطينيين قد أظهروا (مرونة) لم تكن متوقعة في المفاوضات . . . تلك (المرونة) التي جعلت (سنجر) يراجع بدقة وثائق مدريد عام 1991 ، ويقرأ بتأن محاضر محادثات أوسلو ، ويخرج بنتيجة تقول
أن (م.ت.ف) في وضع لا يسمح لها بأن ترفض شروط (إسرائيل) في السلام .
ومع الأسف الشديد . . .
كانت نتيجة (سنجر) تتحقق . . . بعد استسلام ورضوخ المفاوضين الفلسطينيين لتلك الشروط الجائزة بحق الشعب الفلسطيني .
والذي يدعو للإمتعاض أن (المفاوض الفلسطيني) لم ينكر إستسلامه لشروط (تل أبيب) المجحفة ، لكنه برر ذلك بأنها :
مرحلة مستمرة ، وسيحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه في المرحلة النهائية !!
وقد أوضح (عرفات) هذا التبرير بصراحة عندما قال في فندق (آنا وستن) :
( إن المرحلة الحالية مرحلة أولى ، لأن العلم الفلسطيني سيخفق فوق غزة وأريحا ثم في النهاية على مآذن القدس الشرقية ، حيث سنعيش جنباً إلى جنب مع الإسرائيليين ، إنا المرة الأولى التي ستظهر فيها الدولة الفلسطينية على خريطة جغرافية) .
وأعتقد أن تبرير (عرفات) هذا . . . ( وهو تبرير كان عرفات في داخله يعرف ما يريد أن يصل إليه لاحقا ، ودفع ثمنه ) . . . ولكن كان عرفات في وارد ، لم يفهمه من حوله إلا متأخرين ..... وهذا ما جعل (أبا العلاء) يترك (لسنجر) مهمة كتابة (وثيقة النقاط السبع) كأساس جديد للمفاوضات في النروج ، لكنه عندما سأل عن ذلك قال :
ماذا أفعل ؟ كلما نقدم مقترحاً كان (سنجر) يرفضه ، فكلفته أخيراً بأن يكتب هو ونتفاوض حول ما يكتبه !!
وكتب (سنجر) الوثيقة ذات النقاط السبع وفقاً لما تريده (تل أبيب) . . . بعد أن رفضت كل مقترحات الوفد الفلسطيني . . . وعندما تقدم الفلسطينيون تصوراتهم حول (الإعتراف المتبادل) ، ونادوا بضرورة توقف الطرفين عن ممارسة الإرهاب ، رد (سافير) مستنكراً قائلاً :
( هذا غير مقبول . . . إننا لا نمارس الإرهاب ولا نقود منظمة فلسطينية ، وعليكم أنتم أن تتعهدوا بالتزامات مقابل إعتراف إسرائيل بكم كممثلين للشعب الفلسطيني) !!
- لهذا ينبغي أن يكون كل شيء واضحا ودقيقا ومن طرف واحد . (5)
ومثلما أراد (سنجر) أصبح كل شيء واضحاً ، ودقيقاً ، ومن طرف واحد !! .
وهذه حقيقة مرة نتجرع نتائجها الآن ، بعد خمسة سنوات من توقيع (إتفاقية أوسلو) .

ومن المفيد ذكره أن (تل أبيب) بعد كل جولة من المحادثات حاولت أن تتنكر لما اتفق عليه الطرفان ، لأنها كانت تريد شطب ذكر القدس نهائياً من المحاضر ، ومنع فلسطيني القدس الشرقية من الإنتخابات . وحجتها هي نفسها في كر مرة بأن :
(حزب شاس إذا اطلع على ذلك يمكن أن يسقط الحكومة) .
وهنا أدرك المفاوض الفلسطيني أنه خدع . فرغم تقديمه لكثير من التنازلات لم يحصل على شيء واضح مفهوم .
لهذا أصر (أبو العلاء) على :
**تحديد قضايا ومواضيع المرحلة النهائية ، وتحديد ملامح ومدة المرحلة الإنتقالية أيضاً .
** إضافة إلى ضرورة مشاركة عرب القدس في الإنتخابات .
وجاءه الرد حاسماً في الجولة العاشرة من المجادثات ، والتي عقدت بفندق (هالفورس يولا) ، في 21/7/1993 ، حيث قال (أوري سافير) :
( لا نستطيع مناقشة الأفكار التي طرحتموها ، ولو فعلنا ذلك وعدنا إلى رابين وبيريز فسيطلبون منا إغلاق هذه القناة فوراً ، ولذلك وحرصاً على هذه القناة فلا حاجة لكتابة محضر ) !!
تصور ذلك . . . !! وحاول أن تتمعن في هذه المراوغة ، التي فهمها (أبو العلاء) وقال رداً عليها :
( نحن لم نكرهكم على أمر لا ترغبونه ) .
وعند انتهاء الجلسة ، دون حسم طبعاً ، قال (سافير) معقباً على موضوع القدس ، والحقوق الفلسطينية الأخرى بأنها :
( مواضيع حساسة لا مجال لذكرها الآن ) .
تصريحات (سافير) هذه ، والتي شدد عليها (سنجر) بقوة ، جعلت الجولة الحادية عشرة من المفاوضات صعبة جداً ، حيث خرج الطرفان منها متشائمين ووجمين . واستمر الحال كذلك في الجولة الثانية عشرة من المحادثات ، والتي أوضح فيها (يوئيل سنجر) الموقف (الإسرائيلي) من قضايا الأمن ، والانسحاب الجزئي من غزة وأريحا ، وركز فيها أيضاً على (مصالح إسرائيل) الإستراتيجية ، أما مصالح الشعب الفلسطيني المشروعة فقال عنها ، كما قال (هيرشفيليد) من قبل :
تترك للتطورات اللاحقة !! .
وكانت كلما تتعشر المحادثات يستقبل وزير الخارجية النرويجي (يوري هولست) في بيته ، مع زوجته ، الطرفين لتناول الطعام الممزوج (بالنبيذ المستورد) .
ومسألة (النبيذ المستورد) يعلق عليها بعض المطلعين بأنها :
( عملية مقصودة ، خصوصاً وأن الوفد الفلسطيني مغرم بشرب النبيذ والخمور المعتقة ) .
وبطبيعة الحال أنه بعد كل زيارة إلى (هولست) في بيته يظهر المفاوض الفلسطيني بعض المرونة . . . وهي ظاهرة تسترعي الإنتباه حقاً . . .
وفجأة بدأ الفلسطينيون في النروج يعطون تنازلات جديدة ، تتعلق بقضاياهم ، وحقوقهم العادلة . . . ولا يوجد مبرر واحد يدعوهم لذلك !!
وهناك من يعتقد بأن (لأبي عمار) دوراً كبيراً في هذه التنازلات ، إذ أنه قد ساهم في حل بعض المشاكل العالقة ، بحوار تلفوني من تونس ، إستمر سبع ساعات ، عاونة فيه (أبو مازن) ، و (ياسر عبد ربه) ، مع (هولست) ، و(شمعون بيريز) ، اللذين كانا موجودين في العاصمة السويدية إستوكهولم ، مع العلم أن الخط كان مفتوحاً لإطلاع (إسحاق رابين) في (تل أبيب) بالتطورات أولاً بأول .
وبطريقة غير مفهومة ، حلت كل القضايا العالقة بصورة مبهمة وغائمة ، بمكالمة تلفونية مريبة ، ودون أخذ رأي مستشار قانوني متمرس .
والذي يدعو للغرابة أكثر ، أنه قبل ثلاثة أيام من توقيع (إتفاق أوسلو) ، وقد انتهى كل شيء ، إتصل (عرفات) بعد منتصف الليل بممثل المنظمة في القاهرة (سعيد كمال) ، وكلفه أن يبعث القانوني (طارق شاش ) (6) . إلى أوسلو ليقرأ النصوص !!
وعند قراءة (شاش) للنص المحرر وفق رغبة (تل أبيب) قال :
( ممتاز ليس لدي ما أقوله ، من حرره ؟ ) .
فأجابه (أبو العلاء) محرجاً :
( قانوني إسرائيلي يوئيل سنجر ) .
فقال (شاش) وقد احمر وجهه :
( آه إنه سنجر ) (7) .
وبعد فترة صمت قصيرة . . . أدرك الفلسطينيون كم أعطوا من تنازلات ، لكنهم أقنعوا أنفسهم بفكرة (المرحلة الآنية) ، التي ستمر وتزول ، وسيحصلون على حقوقهم واستقلالهم في النهاية ، وزاد من غبطتهم وتفاؤلهم أنهم تمكنوا من تعديل بعض فقرات ( مواد إعلان المبادئ ) :
* كالمادة الأولى ، التي تخص تطبيق القرارين 242،338 ، حيث أصر (الإسرائيليون) على أن يكون التطبيق وفقاً لما يتفق عليه الطرفان ، أما الفلسطينيون فأرادوا أن يكون النص كالآتي : ( المفاوضات حول الوضع الدائم ستؤدي إلى تطبيق قراري مجلس الأمن 242،338 ) .
* وكالمادة الخامسة الفقرة الثالثة ، بعد إصرار الفلسطينيين على تحديد مواضيع المرحلة النهائية ، بما فيها القدس واللاجئين ، والترتيبات الأمنية ، والحدود ، والتعاون .
* وكالمادة السابعة الفقرة الخامسة ، المتعلقة بإلغاء الحكومة العسكرية والمدنية في الأراضي المحتلة .
* والإتفاق حول المادة الرابعة من الملحق رقم (2) ، الخاص بغزة وأريحا ، حيث جعل التنسيق حول (مكاتب السلطة) الفلسطينية في غزة وأريحا .
وأعتقد أن (إسرائيل) لم تخسر شيئاً حيوياً ، عندما قبلت بهذه التعديلات :
* لأن لديها تفسيراً لقراري 242،338 مغايراً لتفسير الفلسطينيين ، وبالتالي فإن الخلاف بشأن مضمون القرارين ما زال قائماً . . . وإلى يومك هذا .
* وكذلك فإن تحديد مواضيع الفترة النهائية دون جدولة هذه المواضيع ، وتحديد برنامج عملي بشأنها ، يجعل الأمور مبهمة وغير واضحة ، خصوصاً وأن (تل أبيب) لديها باع طويل ، وتأريخ (سيئ الصيت) في المراوغة والخداع .
المهم . . . رضي الفلسطينيون بابتهاج بهذا الوضع . . . ثم حدد لقاء في أوسلو ، في 19/8/1993 ، للتوقيع على وثيقة (إعلان المبادئ) ، فيما قفز (عرفات) فرحاً معانقاً (أبا مازن) وقال :
( إنها بداية عصر جديد ، وخاتمة عشرات السنوات من النضال ) !!
ووقعت الإتفاقية فعلاً في النروج يوم 20/8/1993 . . . ثم وقعت بصورة نهائية في (البيت الأبيض) ، في 13/9/1993 ، من قبل (بيريز) ، و (محمود عباس) ، بعد وصول الوفد الفلسطيني على متن طائرة خاصة للملك (الحسن الثاني) ( .

واسمحوا لي هنا . . . أن أشير إلى بعض الوقائع ، التي رافقت توقيع (إتفاقية أوسلو) ، فقد لفت انتباه الصحفيين :
إندفاع (محمود عباس) ، بعد أن أنهى كلمته ، لمصافحة (كلينتون) ، و (رابين) و (كزيريف) و (بيريز) ، في حين أن المراسيم كانت تقتضي مصافحة (كلينتون) فقط .
والشيء الآخر الذي لفت انتباه الصحفيين ، حرص (كلينتون) على تقديم الكرسي (لمحمود عباس) لكي يوقع على الإتقاق ، وكأنه يدفعه إلى هاوية سحق الحقوق الفلسطينية المشروعة .
وكان الأكثر إثارة لفضول الصحفيين ، هو الإجتماع الذي عقد مباشرة بعد توقيع (إتفاقية أوسلو) ، بين (الموساد) و (وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية) ، حيث تم التعهد فيه على حماية حياة (عرفات) !!
وقد طرحت في هذا الإجتماع عدة قضايا منها : تحديد قوة المعارضين (لعرفات) ، ومحاصرة آرائهم ، التي تتهم (أبا عمار) بالخيانة ، والسعي للصلح مع (إسرائيل) بأي ثمن ، حتى ولو كان التنازل عن أولويات ومبادئ أساسية .
ومن المفيد ذكره . . . أن مقررات هذا الإجتماع وضعت قيد التنفيذ ، بعد أن تم كل شيء حسب ما تريد (واشنطن،وتل أبيب) ، بمساعدة رئيس (م.ت.ف) ، الذي قال عند ذهابه إلى (البيت الأبيض) بأن :
( هذه هي ساعتي المنتظرة لآخذ مكاني تحت الشمس ) .
وقال أيضاً لمسئولين من البنك الدولي :
( صدقوني ليس في نيتي أن أعيش حياتي في النفي ، على نحو ما كان يعيش العديد من قادة حركات التحرير )
وعندما قال (رابين) له :
( سيتعين علينا أن نعمل كثيراً كي تمشي الأمور ، والأصعب ما زال أمامنا ) .
أجاب ( عرفات ) :
( أعرف وأنا على استعداد لألعب دوري ) .
ولعب ( أبو عمار ) دوره كاملاً دون أي تردد . . . ( وأنا أصر على أنه كان يعرف ما يريد ، وهذا ما فهمه الأمريكيون والإسرائيليون ومن خلفهم العرب مؤخرا ) . وحدث له ما كان .
ونذكر هنا أيضاً . . . لكي تتوضح أبعاد المؤامرة . . .
بأن مستشاراً كبيراً قي (رئاسة الوزراء الإسرائيلية) ، أوضح بأن (رابين) :
( قد سير فاعلية خطوط الدفاع الفلسطينية ، وقد بات مقتنعاً منذ تلك اللحظة بأنها قابلة لأن تنهار من الضربة الأولى ) ( 9) .
وقناعة (رابين) قد تحولت إلي يقين ، بعد أن شاهد الفلسطينيون وهم يضحون بقضيتهم وأهدافهم على طاولة المفاوضات . وهذا طبعاً ، جعله يعتقد بأن ذلك (بمثابة مؤشر على الضعف والبلبلة اللذين ينخران صفوف (م.ت.ف) ، ونافذة الهشاشة هذه كانت تنفرج ، في تقريره ، عن فرص قابلة للتثمير) ( 10) .
وطبعاً هذه الفرص القالبة للتثمير صورت له إمكانية إنتزاع كل شيء من الفلسطينيين ، حيث قال عن (إتفاق أوسلو) :
( لا أعتبر أنه أحسن ما كان يمكن لإسرائيل أن تحصل عليه ، لن أدخل في التفاصيل ، لكن هذا الإتفاق يتضمن عدداً من بنود لا أحبها) .
ويمكن أن نضيف شيئاً لنعرف خطورة الموقف :
** بأن (أبا العلاء) و (أوري سافير) قد وقعا ملاحق (لإتفاقية أوسلو) ، وهي ملاحق سرية وخطيرة ، لا نعرف عنها إلا القليل ، والتي يتضمن بعضها : (وثيقة تلزم (م.ت.ف) على عدم إنشاء دولة فلسطينية في المرحلة الإنتقالية ، ووثيقة تشرح طريقة الردع الذي سيمارسه الجيش الإسرائيلي لحماية المستوطنين والمستوطنات ) !!
ونضيف أيضاً لنفهم أصول اللعبة :
** بأن (عرفات) بعد رجوعه من (واشنطن) ، ومباركته (لإتفاقية أوسلو) ، قال في المغرب :
( إن الدولة الفلسطينية في متناول أيدينا ، وعلمنا الفلسطيني سيخفق سريعاً فوق أسوار القدس ، ومآذنها ، وكاتدرائياتها ) .
فثار (رابين) من أجل ذلك ، وزمجر بشدة ، ثم أرسل رسالة قاسية اللهجة إلى (عرفات) ذكر فيها :
( بأن هذا الكلام غير مقبول ، تذكر بنود إتفاقنا ) .
عندها اعتذر (عرفات) ، ولم يناد بالدولة الفلسطينية !!
ونضيف ثالثاً :
*** بأنه بعد إتمام وثائق (إتفاقية أوسلو) ، وجعلها جاهزة للتوقيع ، ذكر (أبو العلاء) (لسنجر) ، وكأنه يريد أن يذكره بحجم الخديعة ، قائلاً له :
( سنجر أي عصابة من المحتالين نشكل نحن الأربعة ) !!
وكلام (أبي العلاء) واضح وصريح بما فيه الكفاية ، وقد فهمه (سنجر) جيداً . . .
وهنا بالذات . . . لا بد من إدراج ملاحظة علها تفيد في استكمال تحليل الموضوع :
وهي أن (الولايات المتحدة) كانت مرتاحة ، ومتفائلة ببنود الإتفاق ، لأنها وجدتها مناسبة لمصالحها وأمنها ، وكذلك لمصالح أمن (إسرائيل) . بلحاظ أن (دان كورتزر) ، خبير شؤون الشرق الأوسط في إدارة (كلينتون) ، إبتسم عندما التقى (هيرشفيليد) في (تل أبيب) ، قبل توقيع (إتفاقية أوسلو) ، وقال :
( إن التوجيهات لردم الهوة التي لا تزال تفصل بين الفريقين صلبة بما فيه الكفاية كي يستمرا بالتفاوض ، إنها لورقة ذات أهمية خارقة ، فلا تدعها تسقط من بين يديك أبداً) .
وسمع (هيرشفيليد) النصيحة ، ولم يدع شيئاً يسقط من بين يديه لمحاصرة الوفد الفلسطيني ، وفعل الشيء نفسه (سافير) ، و (سنجر) .
وعندما انتهى الموضوع ووقعت (إتفاقية أوسلو) ، طمأن (كلينتون) (تل أبيب) . حيث شدد على وزير دفاعه (لس اسبن) قائلاً له :
( ليكن الإسرائيليون على ثقة بأن حجم المساعدة ، والدعم العسكري الأميركي لن يتراجع . . . وأريدك أن تطلب من الخبراء في البنتاغون أن يبحثوا مسألة مساعدتنا العسكرية لإسرائيل للتخفيف عنها من عبء النفقات التي ستترتب على إعادة نشر قواتها المتمركزة في قطاع غزة وأريحا ) .
وهذا دليل آخر ، يضاف إلى الكم الهائل من الأدلة ، التي تثبت دعم (الولايات المتحدة) (لإسرائيل) على حساب العرب والفلسطينيين .
فهل عرف العرب ذلك . . . ووضعوه ضمن حساباتهم السياسية ؟ ( . . . ) .

******

وأدرج ملاحظة أخرى ، علها تفيد أيضاً . . .
وهي أن التحضير لمحادثات أوسلو كانت منذ البداية (لعبة قذرة) ، لم يتصور (الإسرائيليون) أنها ستنجح بهذه السهولة والبساطة . فقد ذكر (بونديك) لزميله (هيرشفيليد) قائلاً له ، وعلامات السرور بادية على وجهه ، بعد خمسة جولات من المفاوضات في النروج :
( أنا لست نبياً ، بل مجرد عالم تأريخ . بيد أني أشعر بأن شبكتنا هي الصالحة ، فهي ستتيح التوصل إلى اتفاق أنا واثق من ذلك تماماً . . . راودني الحدس بأن أمراً عظيماً سوف يطرأ ) .
والأمر العظيم الذي تنبأ له (بونديك) ، كان يساوره دائماً ، منذ أن التقى (بأبي العلاء) ،و (حسن عصفور) ، و(الدكتور ماهر) رجل الأعمال الفلسطيني . وتفاصيل هذا اللقاء الأول ، قد اطلعت عليها من مصادر عديدة ، إلا أن (هارليك ، وآريك لوران) ، في كتابهما (مجانين السلام) ، يضيفان عليها بأنه :
وضعت (طاولة قد ملئت بالخمر والطعام ، وكان ذلك مقصوداً على ما يبدو ، وفي انشغال الجميع بالشرب ذكر هيرشفيليد نكتة موقوتة ، حيث ذكر نكتة تقول بأن شامير وبوش وغورباتشوف قال لهم الرب : إني لآسف ، فقد ارتكبت خطأً قاتلاً ، بعد أسبوعين ينفجر العالم ، وعليكم إعلام شعوبكم ، ونقل الخبر بوش وغورباتشوف ، أما شامير فقد قال لشعبه : لدي خبران ساران أريد نقلهما إليكم ، الخبر الأول أن الله موجود ، الخبر الثاني : أستطيع أن أؤكد لكم بأنه لن تكون هنالك يوماً لدولة فلسطينية ، وانفجر أبو العلاء ورفيقاه بالضحك ) !!
لقد كانت النكتة اختياراً ذكياً من (هيرشفيليد) لقدرات الوفد الفلسطيني ، الذي انفجر بالضحك ، غارقاً في شرب الخمر إلى حد الهوس ، وهذا ما لفت نظر الجميع ، مما دعا الوفد النرويجي إلى إحضار طاولة كبيرة عليها زجاجات الخمور المستوردة ، ووضعوها في القاعة التي يجلس فيها الوفدان (الإسرائيلي والفلسطيني) ، بعد انتهاء جلساتهم !!
وهكذا ساد (شعور خفي) عند (هيرشفيليد ، وبونديك) بأن الفلسطينيين جاؤوا ليعطوا تنازلات حيوية ، ويرضوا بما تقرره (إسرائيل) .
وأكثر من ذلك . . .
كان الوفد الفلسطيني مشغولاًُ بأمر واحد لفت انتباه (سافير) ، الذي حرص على الإستماع إلى (أبي العلاء) ، (وقد استرعت انتباهه نقطة تفصيلية تبعث على القلق : فالمسئول الفلسطيني كان يبدو أكثر انشغالاً بالعلاقات مع إسرائيل منه بالواقع اليومي في الأراضي المحتلة ، حيت تتراكم بالمئات المشكلات التي تتطلب حلاً عاجلاً ) .
وهذا هو المهم عند (عرفات) ومؤيديه . . . العلاقات مع (إسرائيل) . . . وإتفاقاً معها مهما كان الثمن ، حتى وإن كان على حساب الشعب الفلسطيني ، وحقوقه المشروعة ، وعليه فإن المحادثات عندما كانت تتعثر ، ويتشنج الطرفان ، يخرج الفلسطينيون من قاعة الإجتماع ، لكنهم فجأة يعودون إليها دون مبرر ، ويرضون بما وضعته (تل أبيب) !!
أما الشيء الآخر ، الذي يدعو إلى التوقف عنده طويلاً . . . هو ( خيار غزة وأريحا ) ، أو بتعبير أصح (خيار بيريز) ، لأن (بيريز) طرحه على الرئيس المصري (حسني مبارك) في القاهرة عام 1974 ، دون علم الفلسطينيين . وبعد محادثات إقتنع (مبارك) بالفكرة ، التي نادت بحكم ذاتي في غزة وأريحا ، ثم ناقشها بعد ذلك مع (عرفات) ، دون أن يذكر أنها (فكرة بيريز) .
ومن المعروف . . . أنا الفلسطينيين قد تقدموا باقتراح (غزة وأريحا) (عن جهل منهم بطبيعة الحال ، بأن الفكرة إنما أطلقت من قبل بيريز ، وحينما صاغ أبو العلاء هذا الإقتراح ، أجابه سنجر : سأكلم رابين في الموضوع) (11) .
وكان (سنجر) على اطلاع كامل بالموضوع ، لكنه أراد أن يخدع الفلسطينيين أكثر ، ويفاوض على اقتراح طرح من قبل (تل أبيب) أصلاً .
تصور ذلك . . .
وإلا أرجوك لم تعتبر غزة وأريحا مشكلة لليهود ، فالإسرائيليون وحكوماتهم كافة ، طالما راودتهم فكرة التخلص من هذه الأرض الصغيرة التي لا موارد لها ، والتي هي أشبه ببرميل بارود يقطنه أكثر من 700 ألف فلسطيني) (12) .
إن (إسرائيل) :
** قد ناقشت سابقاً مع الأردن خطة إنسحاب من أريحا كحل للصلح مع (الملك حسين) . لكن الخطة لم تنجح لأسباب لا مجال لذكرها الآن .
** كما نوقشت الفكرة أيضاً مع (السادات) في (كامب ديفيد) ، ولم يتوصل بشأنها إلى حل بسبب المقاطعة العربية للسادات ، حيث اتهمت القاهرة بإقامة علاقات مريبة مع (تل أبيب) .
وفي هذا المجال . . . يتساءل الدكتور (جلال أمين) ، في كتابه (العرب ونكبة الكويت) ، عن هذه المقاطعة العربية ومصداقيتها فيقول :
( فجأة تحول كل شيء وقرر عودة مصر إلى الجامعة العربية دون أن يتغير شيء من مواقفها ، مما أدى إلى استسلام مصر لإسرائيل سنة 1979 ، واتسع ليشمل بقية العرب في 1987 بعد إعلان القيادة الفلسطينية قبولها للوجود الإسرائيلي في قمة الرباط ) (13) .
ومنهم من يقول بأن استسلام العرب (لإسرائيل) كان نتيجة تبدل المعادلات الدولية ، واضمحلال الإتحاد السوفياتي ، وشطبه من الخارطة السياسية . وهو قول مبالغ فيه كثيراً ، لأن الأولى بالعرب في (النظام الدولي الجديد) أن يرتبوا أوضاعهم إقليمياً ودولياً . . . ثم يتجهوا إلى ذواتهم لكي ينطلقوا بنهضة تتعامل مع المعادلات الدولية بجدية وجدارة . . . وطبعاًَ هذه الجدية لا تلغي (دور العامل الدولي) ، لكنها لا ترضى أن يرسم للمنطقة مساراتها ، وأولوياتها ، وأهدافها ، وحجم مصالحها .
والغريب أن (العامل الدولي) رسم مسارات المنطقة كلها ، حتى سلامها وأمنها بصورة تدعو إلى الحيرة والتأمل حيث جعل هذا السلام المزعوم لمصلحة (واشنطن ، وتل أبيب) . . . وبشروط (واشنطن ، وتل أبيب) . . . وبخيارات (واشنطن ، وتل أبيب) ، كخيار (غزة وأريحا) الذي هو بالأساس (خيار بيريز) .
وقد تم كل ذلك . . . بتخطيط أميركي ابتدأ في أواخر الثمانينات . . . ويذكر (محمود عباس) بعض ملامح هذا التخطيط عندما قال :
( في 21/11/ 1988 علمنا من ممثلنا في استكهولم أن عدداً من الشخصيات اليهودية الأمريكية المرموقين من الذين يمثلون الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي يرغبون بلقاء مع شخصيات من منظمة التحرير الفلسطينية للإطلاع منهم على فهمهم لقرارات المجلس الوطني ، والوصول إلى اتفاق أو بيان مشترك يتضمن جملة من القضايا . وفي البداية لم نعط الأمر أهمية كبيرة لأننا التقينا أكثر من مرة مع شخصيات يهودية أمريكية.
نعم لم يكن لهذه الشخصيات تأثير ما ، سواء على الإدارة الأمريكية أو على إسرائيل . ومع هشام مصطفى ، وعفيف صاغية ، وممثلنا في استوكهولم يوجين مخلوف ) (14) .
ومن المعروف . . . أن هذا اللقاء تم بوساطة وزير خارجية السويد (ستين أندرسون) ، الذي كان منذ عام 1994 ممثلاً للسويد في الشرق الأوسط ، وعمل كل ما في وسعه لكي يشجع الفلسطينيين على إعطاء التنازلات لإرضاء ( أميركا ، وإسرائيل ) .
* وبالفعل صدر عن الإجتماع المذكور بيان تنازل فيه الفلسطينيون عن مبادئهم ، وأهدافهم المشروعة .
* كما تضمن البيان فقرة تقول :- ( يوافق المجلس الوطني الفلسطيني على الدخول في مفاوضات سلام في إطار مؤتمر دولي . بعد موافقته على القرارين 242 ، 338 ، والإعتراف بوجود إسرائيل ، ورفض الإرهاب ) .
. . . نعم وافق الفلسطينيون على (رفض الإرهاب) !! والجملة الأخيرة وضعت بدقة ، حيث صورت جهاد الشعب الفلسطيني بأنه مجرد إرهاب . . . صدر من أناس إرهابيين !!
ورحبت (تل أبيب) بذلك ، وصفقت له بحرارة ، ثم قررت أن تشارك في محادثات سرية في النرويج مع الفلسطينيين . وقد تبلورت هذه المحادثات عن جملة قضايا أهمها توقيع (إتفاقية أوسلو) ، والتي لم تكن سوى (إتفاقية هشة) أضاعت كثيراً من حقوق الشعب الفلسطيني ، وقضاياه العادلة .
وهذه الحقيقة المؤلمة لكل إنسان مسلم يعترف بها (محمود عباس) ويقول دون خجل :
( لم أكن أتوهم أن التوقيع الذي سنقوم به سينهي كل شيء ، بل كنت على يقين أنه بدية لأشياء ، بخاصة وأن الإتفاق لم يحسم قضايا كثيرة ، ولم يوضح نقاطاً كثيرة تحتاج إلى عمل شاق ودؤوب ) (15) .
واعتراف (محمود عباس) حدد بصراحة بأن :
** ( الإتفاق لم يحسم قضايا كثيرة ) .
** ( ولم يوضح نقاطاً كثيرة ) .
** فكان بحق (بداية الأشياء) أقل ما يقال عنها إنها مرة ، ومخجلة ، واستسلامية .
وأضاف (محمود عباس) ضمن اعترافاته : بأن مسئولا كبيراً من (حزب العمل الإسرائيلي) ذكر (لسعيد كمال) في 10/4/1992 قائلاً له :
( إذا ما أثرتم موضوعي القدس والدولة الفلسطينية في الوضع النهائي ، فسوف تساعدون الليكود كثيراً جداً لأنه يستطيع عندها القول بأنه لا توجد هناك أرضية مشتركة للتفاوض حولها ) .
** والكلام واضح ، وصريح ، ولا يحتاج إلى تعليق . .
ويوضح (محمود عباس) بمنطقة الإستسلامي أموراً هامة فيقول :
( الصراع الفلسطيني _ الإسرائيلي هو صراع قائم على نفي أحدهما للآخر ، صراع شعبين على أرض واحدة وكل يدعي أنه صاحب الحق فيها ، ويقدم براهينه وحججه ، إلا أن ما يحكم النتيجة ليس الحق وليست البراهين والحجج ، إنه الأمر الواقع والحكم الفاصل في كل القضايا . إن مشكلتنا هي مع أولئك الذين يرون العالم من منظار قناعاتهم وفهمهم لمساره من خلال أيديولوجياتهم التي تناقلوها عبر السنين ، فإذا أضفنا إلى ذلك تمتع هؤلاء بالتفوق التكنولوجي والعلمي والقوة العسكرية والتأييد العالمي ، فلا أعتقد أنهم سيجدون أي مبرر لتراجعهم أو العدول عن مواقفهم ) .
** وأعتقد هذا الكلام لا يحتاج إلى تعليق . . . لكني هنا أريد أن أناقش (محمود عباس) بموضوعية تامة وأقول :
إذا لم يكن الحق ، والبراهين ، والحجج هي التي تحكم النتائج فمن يحكم هذه النتائج يا ترى ؟ أتصور أنه سيحكمها منطق الباطل ، والكذب ، والتزوير . . . وهذا هو بالضبط تصوير صادق (للأمر الواقع) الذي تحدث عنه ( محمود عباس ) .
وأتساءل أيضاً :
إذا كان التعامل مع أناس يرون العالم من قناعاتهم ، وأفكارهم ، وتمتعهم بالتكنولوجيا ، والقوة العسكرية ، والتأييد العالمي لهم ، وهذا يؤدي إلى عدم وجود أي مبرر لتراجعهم . . . فلماذا أقدمتم ووقعتم (إتفاقية سلام) معهم ، أضعتم بها حقوق شعب وتطلعاته ؟
أليس هذا إجحافاً وظلماً للشعب الفلسطيني ، خصوصاً وأن (محمود عباس) يقول بصراحة بأن (رابين) لفت انتباه وزير خارجية مصر (عمرو موسى) عام 1992 إلى (موضوع القدس وأن هذا الموضوع شديد الحساسية ولا يستطيع البحث فيه الآن ) .
وعندما رد (عمرو موسى) واقترح (لجنة القدس) كحل للموضوع ، شاهد علامات الغضب بادية على وجه (رابين) الذي قال :
( أتمنى على الفلسطينيين أن يتفاوضوا معي بجدية ، ولا يتمسكوا بالقشور ، وقبل ذلك فلن أبحث عن هذه القضايا ) .
. . . ورضخ الفلسطينيون ولم يتمسكوا بالقشور على حد نصيحة (رابين) . . . ثم وقعوا (إتفاقية أوسلو) دون تحديد واضح ومنطقي ، وجدولة عملية لكثير من المواضيع الهامة والحساسة !! .
. . . ونصيحة (رابين) لم تفارق الوفد الفلسطيني ، وهو يفاوض في النرويج . . . وهذه الحقيقة ذكرها (أبو مازن) حيث قال :
( كنا نعرف أن الإسرائيليين لا يمكن أن يقبلوا أطروحاتنا وأنهم سيحاولون القفز عليها ، لأنهم ينطلقون من أن الأرض لهم ، وأن علينا أن نتعامل مع هذا الوضع المفروض من قبلهم . ولذلك حاولنا أن نبحث عن انتصارات جزئية نراكمها يوماً بعد يوم حتى نصل إلى نتيجة مرضية ، لأننا لو أجرينا مقارنة بين المطلوب الفلسطيني والمعروض الإسرائيلي لما وجدنا نقطة لقاء واحدة ) .
وقد استرعت انتباهي في هذا النص جملة (نتيجة مرضية) ، فرجعت مرات ومرات أتفحص بنود (إتفاقية أوسلو) وملاحقها لأبحث عن هذه (النتيجة المرضية) ، وعما يقوله (محمود عباس) حولها ، ثم رجعت ، مع الأسف الشديد ، بخيبة أمل . لأن الإتفاقية بصورة إجمالية :- خديعة استهدفت آمال الشعب الفلسطيني . خصوصاً وأن (محمود عباس) يقول بصراحة :
( إن إسرائيل تسعى إلى ضم أجزاء من الضفة والقطاع ، وستحاول السيطرة على المياه ، وستعمل على ضم القدس ، سواء كانت نتيجة الحل دولة مستقلة أو كونفدرالية ) (16) .
ويضيف دون خجل :
( إن القدس قد ضمت بقرار من الكنيست إلى أرض إسرائيل ، إلا أن مجرد وضعها على جدولة أعمال المرحلة النهائية فهذا يعني من وجهة النظر الإسرائيلية أنها مسألة مختلف عليها ، وأن قرار الضم قد انتهى ) (17) .
ويستدرك أيضاً :
( إن نصوص الإتفاق قد تقرأ على أنها إطار عن أوتاد الإستقلال ، لا تكفي لبناء الإستقلال لأن موازين القوى هي التي تتحكم بالنتائج ، والقوة أهم من القانون ، وإن تكلم العالم كله عن سيادة القانون وعبر عن احترامه لها . إن الأماني والآمال مشروعة مطلوبة ، ولكن الواقع هو الذي يفرض نفسه وهو الذي يعتد به ، وإن كان من حقنا أن نسعى إلى تغييره ، فلا بد من توفر شروط معينة ) (18).
وكلام (محمود عباس) فيه بعض الحقيقة وليس كلها ، لأنه حاول خلط الأوراق والحقائق للخروج بنتيجة يريدها هو تخدم مصالحه ، ومصالح الطرف المؤيد للصلح مع (إسرائيل) .
. . . أقول إنه حاول خلط الأوراق بتعمد واضح لأسباب عديدة ، منها طرحه لموضوع :- التغيير الذي لا بد من توفر شروط معينة لتحقيقه .
ونتساءل . . .
يا ترى إذا لم تكن تلك الشروط متوفرة ، فهل هذا مبرر للإستسلام ووضع قضايانا المركزية والحساسة بيد الأعداء ؟ أبداً ليس هناك مبرراً إطلاقاً . . . لأن الأمة ستلعب دورها كاملاً دون وصاية في وقت المحنة ، ووقت الشدة . . . والأمة عندما تضام وقت المحنة لا بد أن ترجع إلى أحرارها ، وعلمائها ، ومجاهديها . فهم البؤرة ، والركيزة لرفع لواء الأمة عندما تضام . لهذا فلا يمكن لعاقل أن يرضى صاغراً بشروط ظالمة بحق شعبه ، وبحق وطنه بحجة أن التغيير المطلوب : ( لا بد من توفر شروط معينة لتحقيقه ) . . . لا هذا المنطق غير صحيح لأنه منطق إستسلامي ولا يحمل في طياته الشفافية التي تجعل من الشعب الفلسطيني يقدر ويفهم ما يدور حوله وهنا لا نريد أن نقول أن هذا المنطق يحمل بذور الخيانة .

وبما أننا تناولنا (موضوع التغيير) الذي طرحه (محمود عباس) ، دعونا نستغرق فيه بعض الشيء للفائدة .
فالتغيير الحضاري له شروط طرحت من قبل الفلاسفة والمفكرين الإسلاميين كمالك بن نبي وغيرهما . . . كم أن للتغيير الحضاري مستلزمات أولية . . . وأتصور أن تلك الشروط والمستلزمات لا تتحقق إلا من خلال الإنطلاق من الذات . . . من ذات الإنسان . . . ومن ذات مجتمعه . . . ومن ثقافته وحضارته . . . وهي مستلزمات هامة للنهضة ، لكي نعطي ونبدع ونغني الإنسانية جمعاء بقيم ومبادئ صادقة وعادلة للجميع . وهذا لن يكون إلا (بتنظيم الداخل) وفقاً للمنهج الذي ينبت في رحم الأرض التي نحيا عليها .
وهكذا ستكون لدينا فلسفة واقعية للحياة . . . وثقافة واقعية للحياة . . . تنتقد مشكلاتنا ، وأزماتنا بجدية من خلال (تحليل الداخل) ، بكل ما فيه من سلبيات وأحداث ومتناقضات ، وربط ذلك موضوعياً (بتحليل الخارج) ، بكل ما فيه أيضاً من سلبيات وإيجابيات ، مع معرفة المعادلات المؤثرة في (الداخل والخارج) ، وأطرافها المحلية والإقليمية والدولية ، للوصول إلى تحليل ناهض يعطي حلولاً مباشرة لأوضاعنا المتردية ونفوسنا المحبطة .
ويمكن إضافة شيء لإشباع موضوع (الذات) . . . وهذا الشيء يتعلق (بخلق الإنسان المعاصر) ، المنطق من ذاته بصورة تجعله يقف على مواطن (الضعف والقوة) في نفسه ، فرأيي أنه لا يمكن خلق هذا (الإنسان الحضاري) بصورة فعالة في مجتمع متخلف ، ومتغرب فكرياً . . . لأن هذا الإنسان حتماً سيضيع ويحارب في ظل الأجواء المتخلفة والمتغربة .
ومن هنا لا بد من ربط موضوع (الإنطلاق من ذات الإنسان) بموضوع (الإنطلاق من ذات المجتمع) ، لكي يكون المجتمع ذا إستعداد كامل للنهضة ، ويكون الإنسان بالمقابل صوت مجتمعه لا نقيضاً عنه .
ولن يكون الإنسان صوت مجتمعه إلا إذا كان الإثنان يقفان على أرض واحدة ، هي بالفعل الأرض التي يحيا هذا الإنسان ، وهذا المجتمع ، وتربطهم ثقافة واحدة ، وتراث واحد .
وهكذا سيكون (التحليل ، والتقييم ، والمقارنة) أسلوباً صحيحاً ، وممارسة يومية لحل المشكلات ، بعد الإطلاع على (الحقائق والظواهر) وتنسيقها وفق منهج مدروس ، يلاحق تفاصيل الأشياء بكل سلبياتها وإيجابياتها ، ومنهج يمكن أن تعتبره (خاصاً ذا أصالة وحيوية) ، يختلف بصورة كاملة عن الطرق والمناهج المستوردة التي تطرح هنا وهناك . وهذا طبعاً يكسب الإنسان عزة وكرامة . . . ويكسبه ثقة بالنفس تؤهله أن يمسك زمام أمره بيده ، مستفيداً من (العلوم والتكنولوجيا) الحديثة المستوردة ، التي لا بد أن تصهر في داخل ثقافتنا ، وأفكارنا ، وإبداعنا ، لتكون ضمن المحور الحضاري الذي نعيش ، لا أن تكون هي التي تأسرنا في أطرها ، وضمن (محورها الغربي) ، بحيث تجعلنا ندور حولها برتابة دون خلق وإبداع .
وإذا ما عرفنا ذلك . . . نستطيع بسهولة أن نفسر (بوضوح تام) . . . لماذا العرب ، قد بقوا متخلفين عن التقدم والحضارة مع أنهم استوردوا بعض (التكنولوجيا الغربية) !؟
واسمحوا لنا أن نتوسع أكثر بالتحليل . . . فبعض المثقفين في هذا الجانب طرحوا موضوع (النقل والاقتباس) من الغير لتبرير (فكرة التغريب) ، حيث قالوا بأن :
المسلمين قد تأثروا بغيرهم ، ونقلوا بعض العلوم من حضارات قديمة ، ولدي ملاحظة حول ادعائهم الباطل لأنه ليس بالدقة المطلوبة . . . فالتأثر (حالة نفسية) تفضي إلى شيء من (الإضطراب العاطفي) ، لا يستقر إلا عند (معطيات المؤثر) ، خصوصاً بعد أن تستجيب النفس وتخضع (بانهيار تام) لعوامل تلك المعطيات ، فتكون مقلدة للتوتر بصورة غبية وجامدة .
أما مسألة الاستفادة من العلوم والثقافات الأخرى فالأمر يختلف أختلافاً كلياً ، لأن الموضوع هنا يخضع لعملية جادة تجعل تلك العلوم تذوب كلياً في (المنهج المستفيد) .
لذلك فإن المسلمين الأوائل عندما نقلوا عن غيرهم ، لم يتأثروا بالنقل إلى درجة الانبهار ، بل حاولوا أن يمزجوا ما ينقلونه داخل محور الفكر الإسلامي ، فجاءت نظرياتهم الفلسفية غير متعارضة مع (المنهج الإسلامي الأصيل) ، الذي آمنوا به ، وربطوا تفكيرهم داخله .
الفارابي ، مثلاً ، عند نقله لمقولات يونانية قديمة مترجمة بنصها في (السياسة) ، أراد أن يجعل تلك المقولات مباحث للدراسة ، لا أن يأخذهم كمسلمات وبديهيات ، لأنه لو أخذها كمسلمات وقع بوهم الانبهار بها . . . وهذا غير صحيح . . . الرجل حاول الاستفادة من تلك العلوم القديمة في فلسفته ، بعد أن صهرها في رحم الفكر الإسلامي ، فجاءت نظرياته الفلسفية معبرة عن هذا الفكر الأصيل ، الذي ملأ كل ذرة في كيانه ، وخلجات نفسه .
ونفس الشيء حدث عند استفادة اليونانيين من الحضارة الشرقية القديمة ، والحضارة الهندية القديمة . فالنقل من هذه الحضارات لم تؤسر اليونانيين في (أطرها ومنهاجها) ، على العكس استفاد اليونانيون من تلك الحضارات ضمن منهجهم ، ووفقاًُ لتراثهم قبل سقراط وبعده .
والذي حدث عندنا مختلف تماماً . . . (فالفكر الغربي) يأسرنا ، اليوم ، بفعل عوامل عديدة ، وهذا أدى ذوبان هويتنا وملامحنا المتميزة فأصبحنا ممسوخين . فبدلاً من الاستفادة من بعض جوانب هذا الفكر (العلمية والتكنولوجية) ، وصياغتها بأطر جديدة ، وأسس جديدة غير الأطر والأسس التي ولدت بها ، كنا نحاكي الغرب بأتفه أمراضه الاجتماعية . . . وقلد الغرب . . . ونرتمي عند الغرب بصورة تدعو إلى الشفقة والرحمة علينا . . . والمجتمع الذي يرتمي عند أحضان الغرب لا تجد فيه أية فائدة وخير ، لأنه سيساير الغرب حتى بعاداته وأخلاقه وسيكون مجتمعاً ممسوخاً دون هوية . . . وهذا المجتمع ليس بالمجتمع الكريم الذي نرجوه ونتطلع إليه لأنه بعيد عن رحمة الله .
وهكذا نعرف أن (الترجمة والنقل) من الحضارات الأخرى لا بد أن تتم وفق أسس صحيحة وسليمة ، وهي نفس الأسس التي استخدمها الفلاسفة المسلمون الأوائل . (كتاب المنطق) ، مثلاً ، لأرسطو ترجم وظهر في البصرة ، ولكن آراء أرسطو وفلسفته لم تدخل في حسابات الفلاسفة المسلمين إلا من قبيل (الإستفادة المجردة) ، التي لا ترتمي عند هذه الآراء الفلسفية (برضوخ ورتابة) .
بلحاظ أن الاستفادة من الغير صاحبها شيء رائع ، هو إذابة (المفيد الأجنبي) في أطر إسلامية متينة ، وبمنهج إسلامي رصين .
المسألة إذاً لم تكن (إستعارة مناهج من الغير) كما يحدث الآن ، بل استفادة من (علوم وحكمة) ، بعد إذابتها في فكر المجتمع لتكون محكومة بحكمه ، ومقيدة بقيده .
لهذا فإن نشوء (علم الكلام) ، الذي ظهر في البصرة ، أدى إلى وصف البصريين بأنهم (أهل المنطق) ، ليس لأنهم تبنوا آراء أرسطو الفلسفية حرفياً ، بل استفادوا من هذا الآراء بعد انتقادهم لكثير من جوانبها وحواشيها ، التي لم تكن صحيحة ، فأبدعوا في التوصل إلى (قوانين منطقية) رائعة تحركت ضمن المنهج الإسلامي ، لأنها تقيدت بقيده .
لذلك فإن غاية المنطق ، وغاية الفلسفة عند المسلمين هي التوصل إلى (بداية الحكمة ، ونهاية الحكمة) . . أي معرفة الله (عز وجل) ، وإثبات وجوده .

ولكي لا تخلط الأوراق . . . كما يفعل اليوم بعض مثقفينا . . .
نحاول أن نشير إلى (المناهج المستوردة) سواء كانت (إشتراكية أو رأسمالية) . . . فأنصار هذه المناهج ، بعد أن وجدوا أنها غير صحيحة ، يحاولون أن ينظروا (طرفاً خاصة) لها لتكون ملائمة لمجتمعنا الإسلامية !!
وهذه ظاهرة خطيرة جداً . . . ومختلفة عما شرحناه وتكلمنا عنه . . . لأن الوضع هنا يستند على تبني (مناهج كاملة) لها ثقافتها وفلسفتها الغربية عنا . . .
الذي أردت قوله ، وباختصار شديد ، هو ضرورة الإستفادة من (العلوم ، والتقنيات ، والتكنولوجيا) ، بعد إذابة كل ذلك في منهجنا الإسلامي الذي نؤمن به ، وليس في منهج غريب مستورد لا يلبي حاجات مجتمعنا ، بل سيؤدي إلى سلبنا هويتنا ، وسيوقع بنا في خطر (التغريب) . . . وهذا ما نلفت الإنتباه إليه . . . ففكرة (التغريب) لم تنتج عن الولع بالغرب ، بل كان منشؤها : ( السعي لأخذ تقدم الغرب لاستعماله ضده ) .
ولكن الذي حصل . . . أنه أخذ بعض جوانب هذا التقدم ، دون إذابته في (ثقافتنا ، ومراتب إدراكنا وتفكيرنا) ، فأدى إلى (تغريب) بعض مثقفينا ، وبعض مفكرينا الذين لم يرزقهم الله معقولاً .
وهنا ننقل نصوصاً تناولت هذا الجانب حيث قال بأن :
( الجيل الذي ورث هذه العملية أصيب بولع جاد بالغرب ، وانبهر أمامه فأدى ذلك إلى تحول الإتجاه الغربي إلى التغريب ، وصار الدافع الرئيس في التفكير والإقتباس حب الغرب ومقارعة الإسلام ، بدلاً من مقارعة الغرب وحب الإسلام .
، ومن هنا نرى أن المراحل التي سيمر بها العالم الإسلامي لكي يعود إلى ذاته ، ويستعيد هويته المسلوبة ، ستمر بثلاث مراحل هي :
1_ الإتجاه الغربي .
2_ التغريب .
3العودة إلى الذات .
وبرأيي أن العودة إلى الذات لا تعطي نتائجها المرجوة إلا إذا انطلقت (بصورة شمولية) ، أي ، كما قلنا سابقاً ، الإنطلاق من ذات الإنسان أولاً ، ومن ذات المجتمع ثانياً لكي تتحقق النهضة بأكبر مظاهرها .
وأضيف أخيراً . . .
بأن (فكرة التغريب) قد لاقت تشجيعاً من (الغرب ، وإسرائيل) . في حين أن (زعماء الفكر الصهيوني) أدركوا أهمية هذه الفكرة بالنسبة لقضيتهم ، واحتلالهم أرض فلسطين . أن (هرتزل) حاول إقناع (السلطان عبد الحميد) بالموضوع (ولكن السلطان رفض هذا الطلب محتقراً إياه ، ومنذ ذلك الحين بدأت الصهيونية العالمية تعمل من أجل إسقاطه ، ثم حققت هدفها عن طريق عملائها المتغربين ، وبإنشائها حركة الشبان الأتراك التي اتخذت سالونيك مركزاً لها . . . وكان يعيش في هذه المدينة يهود كثير منهم أثري ، ووضعوا أموالاً طائلة تحت تصرف الشبان الأتراك ، وكان الكادر المتقدم لهذه الحركة يحوي عدداً من اليهود . . . وكان بعضهم يرأس المحفل الماسوني في سالونيك ويدعى (قراصوه) . . . وهكذا كان سقوط عبد الحميد وقيام ثورة الشبان الأتراك أول خطوة نحو انتشار التغريب وإزالة الإسلام من الحياة في تركيا ، وهي عملية بلغت ذروتها تسلم أتاتورك زمام السلطة ) (19) .

وأعتقد أن وصول الأمر إلى هذه الدرجة من الخطورة . . . دعا بعض النقاد إلى اتهام (الطهطاوي ، والأفغاني) بأنهما :- قد التقيا مع خط (التغريب) بصورة غير مباشرة ، عندما شجعا التوجه نحو الغرب والإقتباس منه .
إلا أنني لا بد أن أذكر ، وبموضوعية تامة ، بأن الرجلين لم يريدا نقل (مناهج الغرب) إلينا ، بل أرادا الإستفادة من (العلوم الغربية) لإنقاذ المسلمين مما هم فيه ، فالطهطاوي يقول في كبابه (تلخيص الأبريز من تلخيص باريز) :- (أسأل الله تعالى أن يجعل هذا الكتاب مخرجاً للمسلمين جميعاً من الجهل) .
ويؤكد أيضاً على هذا المعنى في كتابه (منابع الآداب العصرية) . .

أن (الطهطاوي ، والأفغاني) إنطلقا من ذاتهم ، ومن إسلامهم ، وغيرتهم على المسلمين . . . ولكن هناك خطأ لم ينتبها إليه ، وهو أن المجتمع قد وصل في تلك الفترة إلى أقصى درجات الجهل والمرض ، والخرافة ، والإبتعاد عن الدين الصحيح . . . وكان الأولى منهما علاج هذه الأمراض الإجتماعية ، لتكون هناك أرضية صالحة للإستفادة من (علوم الغرب) ، دون الوقوع في الإنبهار بها .
وهنا نصل إلى جوهر القضية . . .
بأن المشكلات الأساسية لأزمتنا تكمن في نوعية المنهج المتبني عندنا ، وفي عملية (النقل والإقتباس) الخاطئة من الغرب ، وفي التنظير الخاطئ معها ، وفي عدم تحركنا لخلق (أرضية جادة وفعالة) للاستفادة من (العلوم والتكنولوجيا) ضمن منهج نعتبره أصيلاً ، جذوره تنبت في الأرض التي نقف عليها .
هذه هي الحقيقة . . . ويجب أن تصب كل الجهود في إطارها ، لعلاج الخطأ إذا كانت هناك نوايا مخلصة لكي ننهض من جديد .
نعم إنها الحقيقة المرة التي نتجرعها بمرارة كل يوم . . .
لهذا فأنا أستغرب حقاً عندما أطالع تفسيراً لأوضاعنا المترية من كاتب قدير ، أعتز به كثيراً وهو (محمد حسين هيكل) ، يرجع أزماتنا إلى عدم ملاءمتنا مع المتغيرات الدولية (في عالم تتغير أحواله وقيمه) !! حيث يقول بأن:
( الأمم الإسلامية ، والأمة العربية _ في مقدمتها _ تواجه بحكم انتمائها جميعاً (للعالم الثالث) مشكلات وأزمات عالم تتغير أحواله وقيمه ، وهي جميعاً غير قادرة لأسباب متعددة بتعدد الأمم على ملاءمة نفسها مع المتغيرات ، وبالتالي فإنها بدون استثناء تواجه أزمة تراجع لا شك فيها ) ( 20).
ونحن حقاً نستغرب من هذا التحليل . . .
ونتساءل . . . هل نواجه أزمة تراجع لا شك فيها لأننا غير قادرين على ملاءمة أنفسنا مع عالم تتغير أحواله وقيمه ؟! والجواب طبعاً لا ، فمثل هذا الربط غير ناهض . . . لأن المشكلة ليست في الملاءمة مع (المتغيرات الدولية) . . . المشكلة أكبر من ذلك . . . تكمن في عدم إمتلاكنا وسائل حضارية فعالة تؤهلنا من السيطرة على زمام أمورنا ، وتغيير تخلفنا وجهدنا . . . وتكمن ، أيضاً ، في بذور (التقهقر والإحباط) الذي كان سببه ابتعادنا عن جذورنا ، وتراثنا ، وإسلامنا . لهذا فإن المطلوب هو :
** إرجاع الهوية الإسلامية الحضارية ، وإنزال قيم القرآن إلى الشارع ، وترجمتها في سلوك الناس . . . وفي أخلاق الناس وحياتهم .
** والإنطلاق من ذات الإنسان ، من ذات المجتمع الذي نعيش المسار ، وبخط واحد ، يستلهم من التراث والأصالة قوة وعزة ، مع عدم إغفال تطورات الحاضر .
** والإلتفات إلى (الداخل) وتصحيح مساراته الخاطئة ، المنبهرة بالغرب ، والإنطلاق بنهضة حضارية لها مميزات خاصة وأصيلة .
وإذا ما فعلنا ذلك كنا حتماً متحكمين (بالمتغيرات الدولية) ، بحيث نخضعها لخدمة قضايانا . . . وأهدافنا . . . وتطلعاتنا ، لا أن نكون نحن في خدمتهم فنفقد الكثير من حقوقنا المشروعة .
المشكلة إذاً ، كما قلنا سابقاً ، في التبني (للمناهج الغربية المستوردة) ، التي زادت من مشاكل مجتمعاتنا ، وحولت الإنسان إلى كتلة من الإحباط ، غير قادر على الإبداع ، وعلى مواجهة التحديات المصيرية ، بحيث تتحكم به (المعادلات الدولية) ، وتضرب بمصالحة عرض الحائط .
وأنا هنا ضد (العامل الدولي) . . . كل ما أريد قوله هو تقييد هذا (العامل) ، لكي لا يكون هو المسيطر على مساراتنا ، وأهدافنا ، وسلوكنا .
ويقيناً أن (العامل الدولي) رسم مسارات المنطقة كلها في (النظام الدولي الجديد) ، إلى أن وصل الأمر إلى الرضوخ (لإتفاقية أوسلو) ، التي أضاعت حقوق العرب ، قبل حقوق الفلسطينيين .
وبعد وصولنا إلى هذه النقطة بالذات . . . دعونا نعود إلى (أبي مازن) ، الذي قادنا تحليله البائس إلى عرض موضوع التغيير الحضاري ، ونقول له :
بأن الإستسلام للأمر الواقع الظالم لقضايانا يعد رضوخ لا يغتفر ، لا يبررها حجة عدم توفر (شروط التغيير) ، لأننا يجب أن نسعى لخلق هذه الشروط ، لا أن تفرض علينا من الخارج !!
فمن الأفضل أن نموت دون أرضنا . . . ودون كرامتنا . . . على أن نعيش أذلاء مستسلمين . . . أليس كذلك . . ؟
إن (إتفاقية أوسلو) كانت تعبيراً صادقاً عن استسلام ، ورضوخ العرب لشروط (تل أبيب) ، بشكل مثير للإنتباه .
فإتفاقية السلام المزعومة مليئة بالثغرات ، والتي إستغلتها (إسرائيل) فيما بعد لضرب مصالح الفلسطينيين ، ومصالح العرب ، ومع ذلك رضي بها المفاوض الفلسطيني دون أي تردد ، ولا نعلم لماذا ؟!
ثم عاد نفس هذا المفاوض ، وهو (أبو العلاء) ، ليصرح عندما ضرب من قبل المستوطنين بالقرب من (مستوطنة بيت العامود) ، بعد خمسة سنوات من توقيع (إتفاقية أوسلو) ، قائلاً :
( إذا كان السلام هو سلب الأرض ، فلتذهب كل الاتفاقيات إلى الجحيم ) !!
عجيب . . . (أبو العلاء) يقول ذلك !! وهو الذي دافع عن (إتفاقية أوسلو) ، ووقع عليها في النرويج ، ولم يستمع أبداً لمعارضيها .
ولا بد أن نذكر لكي تتوضح أمامنا أشياء كثيرة . . . بأن صحيفة (هاآرتس) اليهودية كتبت ، يوم 14 شباط 1998 ، وبعنوان كبير :
( إسرائيل ترفض الإنسحاب أكثر من 13 في المائة من الضفة الغربية ، لتحتفظ لنفسها بأوراق على طاولة مفاوضات الحل النهائي ) .
وذكرت الصحيفة أيضاً على لسان ( نتنياهو ) :
( لن نعطي أكثر مما يبقى في أيدينا 64 في المائة ، لأن ذلك يؤثر في أمننا ، نحن بحاجة إلى أراضي كي يكون بحوزتنا شيء نبادله في المفاوضات النهائية ) .
ونؤكد بأن ال13 في المائة المذكورة ليست من أرض فلسطين كاملة ، بل فقط من الضفة الغربية وقطاع غزة !! ( والتي أصبحت من الضفة الغربية بعد خطة شارون ، حول غزة ) . . . تصور . . . لذلك فإن المفاوضات حول تطبيق (إتفاق السلام المزعوم) سوف يقضي على كل حقوق الفلسطينيين ، إذا بقي من هذه الحقوق شيء .
وهنا لا بد من التذكير بتصريح خطير (لإسحاق رابين) ، قاله بعد توقيع (إتفاقية أوسلو) مباشرة حيث ذكر :
( بأن المبدأ قد تمت الموافقة عليه ، ولكن يبقى علينا أن نفاوض على 80 بالمئة من تطبيقه ) !!
وهذه حقيقة ثابتة . . .
تدل على أن (إتفاقية أوسلو) مليئة بالثغرات ، التي يمكن (لإسرائيل) إستغلالها عند التفاوض على تطبيق الإتفاق سواء في المرحلة الأولى أو في المرحلة النهائية .
وأعتقد أن السلطة الفلسطينية أدركت خطورة الموقف مؤخراً ، وبعد فوات الأوان . ومع ذلك فهي ، مع الأسف الشديد ، ما زالت تغالط نفسها . . . وتغالط التأريخ . . . وتغالط حقائق الأمر الواقع لتثبت شيئاً وهمياً يبرر لها ما اقترفته من أخطاء بحق الشعب الفلسطيني وحقوقه فهل هذا معقول . . . ؟ !

- المصدر نقلاُ عن الصحافة الكندية



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 113 / 2165892

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع مواجهة   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2165892 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010