الاثنين 18 آذار (مارس) 2013

راشيل وبوصلة النضال

الاثنين 18 آذار (مارس) 2013 par أمجد عرار

في السادس عشر من مارس/آذار 2003 سحقت جرافة يقودها جندي صهيوني حاقد المناضلة الأممية راشيل كوري التي وضعت جسدها النحيل درعاً لحماية منزل فلسطيني في مدينة رفح . الملايين رأوا راشيل وهي تقدّم جسدها وروحها قرباناً لحق الفلسطينيين في الحياة والمسكن والحرية . لكن جيش الاحتلال الذي لم نعهده يجيد التنكيت زعم أن سائق الجرافة لم يرها، رغم أنها كانت واقفة وترفع ذراعيها مثل شجرة، قبل أن يتقدّم نحوها ويسحقها بلا وازع من ضمير أو حس من إنسانية . لم تكن تحمل سوى مكبّر للصوت دعت عبره سائق الجرافة إلى الابتعاد عن منزل الأسرة الفقيرة، لكنّه تجاهل نداءاتها وتقدّم مختبئاً في قمرة القيادة، ككل الجبناء، نحو راشيل، وجرفها، وأعاد الكرّة، ثم سحقها ودفنها تحت التراب لتجبل دماؤها بتراب فلسطين التي أحبّتها ودافعت عنها .

قبل استشهادها بدقائق لم يكن أحد في الوطن العربي، بما فيه فلسطين، يعرف تلك الفتاة التي كانت في قلب الحدث الفلسطيني مدافعة عن أطفاله ومنازل أهله . أبناء غزة كانوا يعرفونها لأنها كانت واحدة منهم، تعيش ما يعيشونه، وتعاني ما يعانونه، إن جاعوا جاعت وإن أكلوا أكلت، لكنّها كانت أسبق من كثيرين إلى التضحية بالروح في سبيل قضية آمنت بها . لم تكن نجمة فضائيات أو مفكّرة استراتيجية أو محلّلة سياسية تدوّخ المشاهدين بالسفسطائية وتزدريهم خارج التصوير بتركيب فقرة ما بعد الفاصل كخياط يفصّل ثوباً، ثم تقبض “المكافأة” وتمضي بانتظار الوجبة المقبلة .

قبل أن تصل إلى غزة، كانت راشيل تعيش ضمن أسرة هادئة وفي منزل وادع في بلادها أمريكا، لكنّها آثرت أن تكون في المكان الذي يحتاج إلى نضالها، ولسان حالها يتمثّل مقولة المناضل الأممي تشي غيفارا “حيثما وجد الظلم فذاك هو موطني” . تركت عيشة هادئة في شكلها، باعثة على استجواب دائم من الضمير، لكي تقيم مع العشرات من زملائها المتضامنين من جنسيات مختلفة في خيام في مدينة رفح .

المصير الدرامي الذي لقيته راشيل في رفح شكّل فضيحة متعدّدة الاتجاهات، أولها موقف حكومة بلادها التي تنكّرت لمواطنة أمريكية سحقت حتى الموت والقاتل معروف بلا حاجة إلى تحقيق . الحكومة الأمريكية تعاملت مع الأمر تماماً كما تتعامل مع الفلسطينيين والعرب ضحايا الإجرام “الإسرائيلي”، ولسان حالها يوجّه رسالة تحذير إلى كل متضامن أمريكي أو دولي، بأنه سيواجه بنفس هذا التجاهل إذا سوّلت لهم أنفسهم التضامن مع المظلومين والمضطهدين في فلسطين أو أي مكان في العالم .

ولعل خير الكلام الذي عبّر عن هذا الظلم ما كتبته راشيل لأمها من غزة حيث قالت في رسالتها، إنها كانت مرعوبة من فكرة أن الرجل في غزة يسير أمام الدبابات مع أطفاله، وإن مجرد خروج هذا الأب مع طفلين صغيرين يبدو عليهم الحزن الشديد لفت نظرها أكثر في تلك اللحظة بالذات .

لقد تجرأت راشيل على فعل ما لم تتجرأ عليه جيوش عربية، ويبدو أنها أدركت البوصلة الحقيقية ل”الجهاد” أكثر بكثير من أدعيائه، وقدّمت للتاريخ مفارقة أن أمريكية تختار أن تناضل ضد حليفة بلادها في الظلم، فيما يظهر بيننا نحن من “يناضل” مع أمريكا ضد أبناء جلدته .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2165395

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165395 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010