السبت 2 آذار (مارس) 2013

من دفاتري العتيقة

السبت 2 آذار (مارس) 2013

من دفاتري العتيقة: قليل من المُكاشفة، وقليل من الفَضْفَضَة ( عن الكتيبة الطّلابية، وخطّ الجماهير

ملاحظة استباقية: هذه الكتابة اعتمدت على تداعيات ذاكرتي الشخصية فقط، وما قد يعتورها من نقص أو عدم دقّة في الأسماء والأحداث وترتيب الأحداث، فمردّه إلى الرّكون إلى الذاكرة الشخصية، وسأكون شاكرا لكل من يقوم بتصحيح أو تصويب مفيد في هذا السّياق.

في بداية السّبعينات من القرن الماضي، تشكّلت داخل التنظيم الطّلابي لحركة فتح، في لبنان مجموعة من الشباب والشّابات، يحملون الفكر الماركسي ويحلمون بالاشتراكية، وتحرير فلسطين...اتّصفت هذه المجموعة بالحيوية، ودقّة التنظيم، وعدم الخوف من الحوار والنقد، والنّقد الذّاتي، وأعلَتْ من قيمة الممارسة العملية كمؤشر إلى صحة النظرية، وكقياسٍ لإخلاص من يحملونها، واستعدادهم للتضحية في سبيل تطبيق فكرتهم...وكان النّاظم الأساسي لهذه المجموعة الذي لا تحيد عنه، هو فهمها لطبيعة الصراع في المنطقة بأن العدوّ الصهيوني هو العدوّ الرئيسي، الذي يجب أن تتوجه كل البنادق نحوه..كان هذا عقيدة راسخة لا حياد عنها، وكان فهم المجموعة أن كل التكتيكات يجب أن تصب في اتجاه الهدف الاستراتيجي المتمثّل بحلّ الصراع الرئيسي ابتداء، وأن الوسيلة لذلك هي الاشتباك مع العدو الصهيوني حيثما أتيح ذلك، وخلق الظروف الملائمة لفتح ساحات اشتباك جديدة مع هذا العدو، وأن الكفاح المسلّح هو الأساس في هذا الاشتباك

...

مع بداية الحرب الأهلية في لبنان وجدت هذه المجموعة نفسها في أتون حرب لا تريدها... وكانت خلاصة نظرة هذه المجموعة أن هذا الصراع يصب في مصلحة العدو الصهيوني، ولا بد من وقفه بسرعة، وأن من غير الممكن - في لبنان تحديدا - أن يتم عزل طائفة ما، تحت أي ظرف...

غير أن هذه المجموعة وجدت نفسها محاصرة بسرعة التخوين لمن يرفض الذهاب في هذه الحرب حتى آخر الشوط...لم يسمع أحد لهذه المجموعة في دوامة تلك الحرب الطاحنة، وكان مأزق هذه المجموعة أن مصيرها مرتبط بمصير القوات المشتركة ( الفلسطينية- اللبنانية) في هذه الحرب، البعيدة عن الصّراع الرئيسي...لكنها حتى وهي تخوض تلك الحرب إلى جانب القوات المشتركة، ظلّت تؤكّد إن هذه ليست حربنا، ولا بدّ من الانتهاء منها بسرعة، للعودة إلى الاشتباك مع العدو الصهيوني...

تشكّلت من هذه المجموعة خلال سنوات الحرب الأهلية سريّة عسكرية طلّابية، وهي ما عرف في ذلك الوقت باسم “السريّة الطلّابية”...عرفت السرية الطلابية بالشجاعة، وتقديم التضحيات في معارك بيروت والجبل...واستشهد من قادتها في تلك الفترة الشهيد“سعد جرادات” في البرجاوي – بيروت، والشهيد “أبو خالد جورج” في جبل صنّين

كانت آخر معارك تلك السريّة -في الحرب الأهلية في لبنان - معركة بحمدون القاسية مع القوات السورية... وكان تقييم السريّة وهي تخوض هذه المعركة، أن القوات السورية يجب أن تتوقف هنا، لإقناع القيادة السورية بوقف الحرب، والتوقيع على ذلك في اتفاقية الرياض المشهورة...ثبتت السرية في تلك المعركة، واستشهد بعض خيرة شبابها، وتوقف الهجوم السوري، وتم توقيع اتفاقية الرياض...وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى انسحبت السرية إلى جنوب لبنان، على غير إرادة من قيادة فتح..كانت السرية تريد العودة إلى ما تؤمن به للاشتباك مع العدو الصهيوني...

خلال سنوات الحرب ازداد عدد المنضوين تحت اسم السرية ازديادا كبيرا، ولم يكفّوا عن الحوار فيما بينهم، ولا عن الحوار مع الاخرين، مما جعل لهذه السرية أتباعا في كل أماكن تواجد الطلاب الفلسطينيين في العالم، وأصبح لديها خزان بشري من هؤلاء الطلاب، تفتقر إليه كثير من المنظمات، والمجموعات الفلسطينية، واللبنانية في ذلك الحين.

وهنا لا بد من التأكيد على أن بنية السريّة كانت قائمة على الطّلاب بشكل رئيسي، ويساندها تنظيريا مجموعة من المثقفين الذين كانوا يديرون الحوار في أجواء السَّرية، ويؤسسون لجعل المستوى النظري للمقاتل أمرا أساسيا، لا غنى عنه، فقلّ أن تجد بين أفراد السريّة من يفتقر إلى الفهم السياسي الواضح في ذهنه، وكانت القراءة والتثقيف جزءا أساسيا من برنامج إعداد شباب وشابّات السرية، ساهم فيه بشكل أساسي كلٌّ من منير شفيق ( أبو فادي)، وناجي علوش ( قبل أن يترك هذا الاتجاه) وهلال رسلان المكنّى بابي محمود ( سفير سوري سابق في الصين انشق عن النظام السوري في بداية السبعينات وعاش في جبل لبنان حتى وفاته في الثمانينات)، و محجوب عمر ( اسمه الحقيقي رؤوف نظمي عبد الملك وهو شيوعي مصري من عائلة قبطية، جاء في السبعينات إلى لبنان وانضم إلى حركة فتح وعاد إلى مصر بعد اجتياح 1982 وتوفي عام 2012) وبرز من بين قادة هذه المجموعة ( والمجموعة أصبحت تضم السرية الطلابية والتنظيم الطلابي لها، ولجنة 77 في القطاع الغربي في فتح وهي لجنة معنية بالعمل التنظيمي والعسكري في داخل فلسطين المحتلّة)، برز من بينهم الشهداء، أبوحسن ( محمد محمد البحص)، والشهيد حمدي ( محمد باسم سلطان التميمي) والشهيد علي أبو طوق، والشهيد مروان كيالي، فضلا عن الشهيد سعد جرادات والشهيد أبو خالد جورج ( جورج شفيق عسل)، والشهيد أبو خالد الشحيمي، والشهيد أبو وجيه (أمين العنداري)، ..وآمن بخطها الشهداء القادة جواد أبو الشعر، ومحمد علي، والحاج حسن وغيرهم كثير ممن عملوا في مواقع نضالية خارج الكتيبة الطلّابية... رحمهم الله جميعا...

ولا بد من التّذكير هنا أن الشّهيدة “دلال المغربي” هي إحدى شابّات الكتيبة، تربّت فيها وعملت فيها، قبل اختيارها لتكون قائدة لعمليّة الساحل الفلسطيني الشّهيرة

كان لافتا في هذه المجموعة تنوّع أصول شبابها وشابّاتها من لبنانيين وفلسطينيين وعرب من كافة الأقطار..وكذلك التنّوع (الطائفي) من مسلمين سنة وشيعة ودروز ومسيحيين من طوائف مختلفة ( أذكر أن من كنت أستقي منه ثقافتي في سنوات الجامعة الأولى شاب سوري من مدينة السَّلمية ربما كان شيعيا أو إسماعيليا ولكنه حتما لم يكن سُنيّا ولم أفكّر يوما في سؤاله عن طائفته..)...كانت مجموعة عابرة للطوائف في مناخ حرب طائفية...

كان لا بد لهذه الحوارات التي تدور في أوساط المجموعة في خضمّ هذه المسيرة المليئة بالتضحيات أن تبلور لنفسها خطّا سياسيا بدأ يأخذ شكله الواضح مع نهاية الحرب الأهلية في لبنان... فتلخّصت أهم مبادئ هذا الخطّ بما يلي:

- الالتزام بالمبادئ الأساسية لحركة فتح ( تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني، فلسطين جزء من الوطن العربي، حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد والكفاح المسلح أداة التحرير)

- وضع النظرية محل مراجعة بناء على التطبيق العملي والممارسة العملية في الواقع

- احترام الشعب، وعدم التعرّض لمعتقداته الدينية وعاداته الاجتماعية

- العدو الرئيسي هو العدو الصهيوني

- عدم الدخول في معارك المحاور الداخلية في حركة فتح، والعمل بروح ( الحصاة التي تسند الجرّة) بعيدا عن الأطماع الشخصية والفئوية والحفاظ على البنادق نحو العدو الصهيوني فقط، ورفض الانشقاق عن حركة فتح رغم أن تقييم المجموعة لقيادة فتح في ذلك الحين كان يقول “إنها قيادة مساومة وليست قيادة مقاومة”.

- الإعداد الثوري للمقاتلين ( ثقافيا ونفسيا وعسكريا)، والاستعداد للتضحية، واستغلال الإمكانيات المتاحة بأفضل صورة ممكنة...

بعد تمركز السرية الطلّابية في جنوب لبنان - والتي أصبح اسمها منذ ذلك الحين الكتيبة الطلابية ثم أصبح اسمها كتيبة الجرمق المنضوية تحت لواء القسطل التابع لحركة فتح-...خاضت هذه الكتيبة أشرس المعارك مع العدو الصهيوني و“جيش لبنان الحرّ” العميل للصهاينة ( سعد حداد + أنطون لحد) خاصة في محور بنت جبيل ومارون الراس ثم في قاطع قلعة الشقيف ومرجعيون

لم يسلم هذا الاتجاه من التضييق عليه من قبل القيادة المتنفّذة في فتح ولم يسلم من الهجوم عليه من الاتجاهات الماركسية في الساحة الفلسطينية والساحة العربية

غير أن هذا الاتجاه استطاع دائما البرهنة على أنه لا يحرف بندقيته ولا يرتهن للمقولة ولن يكون عبدا للنظرية، فامتاز عن الآخرين بحريّة التفكير التي لا حدّ لها وبالالتزام والانضباط الضروريين للفعل في الواقع، وقدم من التضحيات ما لا يستطيع أي منصف أن ينكرها، ونال من حبّ أهل الجنوب اللبناني ما لم ينله أي فصيل فلسطيني ( أذكر أنني زرت بنت جبيل عام 2006 إثر انتصار المقاومة وكنت أشرح لمن معي عن تضاريس المنطقة، فمال عليّ أحد شباب حزب الله وقد أدرك أنني كنت هنا ذات يوم بعيد، وقال لي هل تعرف فلانا، قلت نعم، قال سلّم لي عليه فعنده تدرّبنا على قتال العدو الصهيوني، سقى الله تلك الأيام)

خرجنا من المعارك الفكرية مع الآخرين ومن الحوارات الحرّة بيننا إلى استخلاصات آمنا بها أهمها:

- أن لكل تجربة حضارية خط ناظم لها قد يتقاطع مع تجارب الحضارات الأخرى، لكنه لا ينطبق عليها (سمّينا هذا الخط الناظم بخط الجماهير..")

- أن خط الجماهير، موجود، وأن مهمة الطليعة هي البحث عن هذا الخط المعبر عن الجماهير ومصالحها...

- أن الوقوف ضد خط الجماهير هو انتحار للنظرية وانتحار للطليعة...

وأن النظرية الثورية لشعب ما لا بد أن تكون نابعة من خط الجماهير وأن على النظرية الثورية أن لا تصطدم بخط الجماهير......

صرنا نبحث عن ماهية خطّ الجماهير في الساحة الفلسطينية والعربية...وبدأت ملامح هذا الخط تظهر لنا، غير أننا لم نكن قد توصّلنا إلى مقولة نهائية حين داهمنا اجتياح 1982، وأدى إلى استشهاد مجموعة كبيرة من شباب الكتيبة، خاصّة أن الكتيبة في تلك الحرب كانت في قاطع قلعة الشقيف ( صمدت القلعة حتى بعد وصول العدو إلى بيروت واستشهد كل المقاتلين فيها دفاعا عن موقعهم بما فيهم الشهيد “راسم” قائد القلعة ولم ينجُ منهم أحد من أصل 27 مقاتلا)...

بقي معظم شباب الكتيبة في لبنان وتولّى الشهيد “مروان كيالي” قيادتها بعد إصابة قائدها “معين الطاهر” في الأيام الأولى من الحرب...وبدأت الكتيبة على الفور في تجميع مقاتليها في منطقة البقاع، وباشرت على الفور خوض حرب استنزاف مع العدو انطلاقا من البقاع...

ثم حدث انشقاق “فتح الانتفاضة” بقيادة “أبوخالد العملة” و“أبو موسى” وكان متوقعا أن نكون من بين من سينشقون معهم بناء على تقييمنا السلبي للقيادة الفلسطينية...غير أن النّقاش مع فتح الانتفاضة جعلنا نتمسّك ببقائنا في فتح إدراكا منّا ان أيّ صراع داخلي في هذه المرحلة لن يفيد سوى العدو وأن الانشقاق محكوم بالتبعية للنظام السوري مما يفقدنا استقلاليتنا ويحجّم من قدرتنا على الاشتباك مع العدو...

كانت نتيجة الانشقاق أن حوصرت الكتيبة في البقاع ثم في طرابلس لبنان مع بقية قوات حركة فتح التي رفضت الانشقاق، ثم خرجت إلى الشتات الجديد في تونس والجزائر واليمن...

تركنا خلفنا في لبنان إخوتنا اللبنانيون وبعض الفلسطينيين اللبنانيين...وظلّوا يناوشون العدو بعملية هنا وعملية هناك...
..

بعد الخروج من طرابلس، كان لا بدّ من تقييم المرحلة السابقة

توصّلنا إلى العمل في برنامجين:

الأول يقضي بالعمل السريع على جعل الاحتلال الصهيوني للبنان مكلفا..فعادت مجموعة من قادة الكتيبة ( مروان كيالي وعلي أبو طوق) لتجميع شبابها في لبنان والاشتباك مع العدو...وقاموا بكل ما استطاعوا القيام به في تلك الظروف يساندهم مجموعات من التنظيمات اللبنانية في حينه...

والبرنامج الثاني كان يقضي بضرورة العودة لجعل فلسطين هي ساحة الاشتباك مع العدو الصهيوني ( كنا نؤمن بذلك منذ البداية وقبل خروجنا من لبنان، وكان جزء كبير من عمل الكتيبة ولجنة 77 في القطاع الغربي، زرع الخلايا في فلسطين والقيام بعمليات نوعية، وكان أبو حسن وحمدي يتسلّلون دائما إلى الضفّة الغربية ويقيمون هناك لهذا الغرض)..كان هذا العمل يصطدم بالضرورة مع توجّهات قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة فتح التي اتجهت نحو حلول التّسوية...واصبح لدينا اعتقاد أن أجواء فتح لم تعد قادرة على منحنا ذلك الهامش من العمل...ومرّة أخرى عدنا للنقاش في ما يجب فعله وفي البحث عن خط الجماهير

في لبنان تعرض شباب الكتيبة لمحنة حصار المخيمات على يد حركة أمل واستشهد القائد الاستثنائي “علي أبو طوق” في حصار المخيمات...

وفي الشتات استمرّت النّقاشات على أرضية ما نؤمن به وعلى أرضية بلورة هذا الخط بما قد يؤدي إلى خروجنا الكامل إلى أرضية فكرية جديدة...

بعد نقاشات طويلة وصلنا إلى أن خط الجماهير لا بد أن ينبع من الإسلام،

كان أبو حسن وحمدي تحديدا قد توصّلا إلى هذه النتيجة في وقت مبّكر وبدءا العمل عليها فورا في داخل فلسطين فأسسا “سرايا الجهاد” وهي غير حركة الجهاد الإسلامي التي يقودها الآن رمضان شلح والتي أسسها الشهيد فتحي الشقاقي...بدأت سرايا الجهاد العمل في فلسطين قبل بروز حركة حماس وقبل بروزحركة الجهاد الإسلامي...وقامت بعدة عمليات، وكانت العملية الكبرى التي ستعلن عن مولد سرايا الجهاد بشكل مدوٍّ هي عملية تفجير مقر الحكومة الصهيونية والمعروفة بعملية عطاف عليان والتي أُحبطت في لحظاتها الأخيرة...

كان بروز حركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس يحمل تأكيدا على صحّة المنهج الجديد، فآثر أبو حسن وحمدي أن يتريّثا بفكرة سرايا الجهاد طالما أن فكرة الجهاد قد انبعثت في فلسطين وهو ما كانا يسعيان له..ثم جاء استشهادهما مع مروان كيّالي في عملية الاغتيال الشهيرة في قبرص، لينهي تجربة سرايا الجهاد تماما لأن خيوط السّرايا كانت ما تزال في أيديهما...وأما شباب الكتيبة فقد توزّعوا في الأرض، ومن أتيحت له فرصة العودة للأرض المحتلة انخرط في تشكيل كتائب الأقصى في حركة فتح إذكاء لروح الاشتباك المسلّح مع العدو الصّهيوني...( كان الشهيد مروان زلّوم والشهيد جهاد العمّارين من مؤسسي كتائب الأقصى في حركة فتح)

لم يكن الانتقال من الأرضية الماركسية إلى أرضية الإسلام في الصراع مع العدو الصهيوني أمرا سهلا على شباب الكتيبة...كان صراعا محتدما بيننا، فبعضنا انضمّ فورا لهذا الفهم الجديد..وبعضنا رأى فيه أمرا لا يتعارض مع ما آمن به طوال وجوده في الكتيبة في البحث عن خط الجماهير...وبعضهم غادر الكتيبة وبقي على أرضيته الفكرية التي يؤمن بها...غير أن اللافت أن ما من أحد ممن كانوا في الكتيبة يحمل – اليوم - موقفا عدائيا من الإسلام حتى أولئك الذين بقوا على فهمهم القديم...كان قانون المحبة السائد في هذه التجربة أمرا مهما...والقانون يقول “إن علينا أن نتعامل فيما بيننا بكل الحب حتى لو اختلفنا وأن من يغادرنا ليس خائنا ولا متخاذلا بل إن ظروفه ربما لا تتيح له أكثر من ذلك، وربما تكون له رؤية أخرى يجب احترامها، وقد يكون راغبا في الانتقال إلى موقع آخر يرى أنه يستطيع من خلاله تقديم جهد أفضل في هذا الصراع”...هذا القانون حمى هذا الاتجاه من الانشقاقات وحماه من الصراعات الجانبية وحماه من الاختراقات أيضا...وأبقى الباب مفتوحا دائما للتواصل والتشاور في أطار من الحب والاحترام...

في المجمل ساد لدى هذا الاتجاه أن الإسلام هو خطّ الجماهير..وأنّه يشكّل وجدان شعوب هذه المنطقة، وأن التغيير الذي تهدف إليه الطّليعة غير ممكن دون التوافق مع وجدان الشعوب...وأن التغيير يصبح مستحيلا بالصّدام مع هذا الوجدان...

كان هذا فهما سياسيا واجتماعيا لدى معظمنا ولم يكن فهما دينيا...فمعظم المنتمين لهذا الخط لم يكونوا يؤدون فروض الإسلام، لكنهم صاروا ينظرون إليه نظرة احترام وإعلاء...أو على الأقل لم يعودوا ينظرون إليه بعدائية أوتوماتيكية مجّانيّة...

بقي أن أقول أن الوصول إلى هذا الفهم للإسلام بأنه خط الجماهير والمُعبِّر عن وجدانها الجمعي، لم يكن ردّ فعل ولم يكن سيرا مع موضة، بل لعلّه سبق كثيرا ممن يقفون الآن على أرضية الإسلام في البلاد العربية..لقد كان بحثا مضنيا بدأت إرهاصاته في وقت مبكّر مع نهاية السّبعينيات من القرن الماضي، حينما قرّرنا وضع النظرية على محكّ التطبيق، وحينما ابتعدنا عن التّبعية للاتحاد السوفييتي، وحينما عدنا للبحث في تراثنا العربي والإسلامي، وحينما انتبهنا أن مسلكياتنا المنضبطة مع الشعب في جنوب لبنان واحترامنا لعقائده وعاداته فتحت لنا قلوب النّاس وبيوتهم، وصارت قرى الجنوب تتوسط لبقائنا فيها إذا صدر أمر لنا بالانتقال..بل إن بعض القرى منعت غيرنا من الدخول إليها ومنعتنا من مغادرتها، في حين كانت تشتبك وتطرد كثيرا ممن يزايدون علينا بيساريتهم المتطرّفة... تفاعلات التجربة النضالية والاجتماعية للكتيبة -في جنوب لبنان- في نفوسنا لم تكن تمرّ دون أن نرصدها ودون أن نبحث لها عن معادل نظري...

غير أنه من الضروري هنا أن نُذكِّر بأن مما شجعنا على الاقتراب من هذه المنطقة المحظورة يساريا ( الإسلام) حدثان مهمّان الأول انتصار الثورة الإيرانية ونجاحها في الخلاص من نظام الشّاه بكل ما مثّله هذا النظام من استبداد وفساد وتبعية ودعم للمشروع الصهيوني...والثاني احتلال افغانستان من قبل الاتحاد السوفييتي مما رأينا فيه قسرا للشعوب على اتّباع منهج ترفضه وممارسة احتلال تحت غطاء ( تقدّمي)...

كان لا بدّ لي من هذه التداعيات للدلالة على منهج آمنت به منذ تلك الأيام في تحليل الواقع والنظرة إلى المستقبل...وفي كيفية إدارة الصراع مع العدو الرئيسي وفي عدم الخلط بين ما هو رئيسي وما هو ثانوي...وفي فهم حركة الشعوب التي يحكمها خطّ أصيل في نفوسها ووجدانها ( خط الجماهير) على الطّليعة أن تبحث عنه دائما وأن لا تصطدم به إذا أرادت أن تعمل مع هذه الشعوب وبهذه الشعوب لصالح هذه الشعوب...

بقي أن أقول أن الإيمان بأن الإسلام هو خط الجماهير لا يعني بشكل تلقائي أن نؤمن بأي حركة ترفع شعار الإسلام، فالحركات الإسلامية تجربة بشرية تحكمها القوانين البشرية في النجاح والفشل...وفي ظنّي أن وقتا طويلا سيمضي قبل أن يسفر خطّ الجماهير عن تجربة ناضجة تعبّر عنه...خاصّة مع انتباه القوى التي تعادي هذا الخط لخطورة التمكين له على مصالحها...ولهذا سنجد في ما سيأتي من أيام أشكالا من الصدام مع خط الجماهير ربما تكون هي الأشرس بهدف التعمية على هذا الخط واستمرار الالتباسات التي تحيط به جرّاء ما يثار حوله من شبهات في كل لحظة...

لكن الشئ الأكيد عندي أن أي خطّ آخر يصطدم مع خط الجماهير ووجدانها لا يمكن له أن يحقّق أي نجاح إلّا بالقهر والاستبداد والاستعانة بالقوى الخارجية البعيدة كل البعد عن أهداف هذه الشعوب وآمالها...

حساب : عصام السعدي



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 37 / 2176716

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع تواصل   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2176716 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40