الاثنين 18 شباط (فبراير) 2013

إدانة الثورة

الاثنين 18 شباط (فبراير) 2013 par د. عبد الحليم قنديل

توالت في الأيام الأخيرة عمليات إخلاء سبيل لعدد من كبار أعوان الرئيس المخلوع حسني مبارك بقرارات قضائية، فقد جرى الإفراج عن فتحي سرور ثم صفوت الشريف ثم زكريا عزمي، والبقية في الطريق، وربما يجري الإفراج عن مبارك نفسه بعد قبول محكمة النقض لطعنه على الحكم بالسجن المؤبد.
ولسنا في مجال لوم القضاة، أو التعقيب على الأحكام القضائية، فالقاضي يأخذ بظاهر الأوراق المنظورة أمامه، ثم أنه يحكم بالقانون العادي جدا، وهنا مربط الفرس، فقد استمر حكم مبارك لثلاثين سنة راكدة بليدة، ووضع من خلال برلماناته ـ المزورة ـ قوانين وتشريعات تكفل حماية سياساته، وتقنن تصرفات الفساد فيها، وهكذا جرت أوسع عملية نهب للبلد محمية بالقوانين السارية، ثم جاءت الثورة، ولم تتغير القوانين، ولا صدر قانون خاص يكون أساسا لمحاكمات جدية، وبدأت محاكمات جماعة مبارك بقوانين الجماعة نفسها، وكان طبيعيا ـ بعد ذلك ـ أن نتوقع البراءة للجميع، وهو ما يفسر تحول نهايات المحاكمات إلى ما يبدو نوعا من الكوميديا السوداء، فقد تحولت إلى مزاد براءة بالجملة، وسواء كانت الاتهامات متصلة بجرائم المال أو جرائم الدم، وبراءة هؤلاء تعني ـ بمفهوم المخالفة ـ إدانة للثورة نفسها، فالثورة ـ طبقا للقوانين العادية ـ جريمة قلب نظام حكم، وهو ما يحول شهداء الثورة إلى مجرمين وخارجين على القانون، ويهدر دماءهم بلا ثمن وبلا عدالة ترتجى، ويحصن القاتلين الذين يدافعون ويحتمون بقوانين نظام يفترض نظريا أنه سقط.
تبدو القصة كلها عبثا في عبث، لكن الذين فعلوها لايعبثون، لم يكونوا أبدا من العابثين حين رفضوا إجراء محاكمات ثورية، ولا كانوا من العابثين حين رفضوا المصادرة الفورية للأموال المنهوبة، والنتيجة ظاهرة، فلم يجر أي نوع من القطيعة مع نظام مبارك، وكل ما جرى أنه تم خلع مبارك من منصبه، ولكن مع تحصين النظام نفسه، والتواطؤ على الثورة من أول يوم، وبتباطؤ وتواطؤ مجلس طنطاوي وعنان الذى استلم الحكم من مبارك، ثم باستمرار التواطؤ نفسه من جماعة الإخوان التي تسلمت الحكم من مجلس طنطاوي، وأضافت إلى مبدأ تحصين نظام مبارك تحصينا آخر الجنرالات، بتعديل المادة (8) من قانون الأحكام العسكرية، وحظر مثول العسكريين المتهمين بجرائم مال أو جرائم دم أمام القضاء الطبيعي، وهكذا جرى الخروج الآمن لجماعة طنطاوي، والدخول الآمن لجماعة الإخوان، ومع بقاء التعهد الضمني بإخراج جماعة مبارك من سجونها في أقرب وقت، والتعامل مع الثورة كما لو كانت مجرد حادث طريق، والتعامل مع الثوار كمخربين وبلطجية، ووصل ما انقطع مع حكم جماعة مبارك، وهو ما يفسر أشياء كثيرة تجري في مصر الآن، بينها ـ بالطبع ـ عمليات الإفراج المتوالية عن رجال جماعة مبارك، وبينها ـ أيضا ـ عمليات تصالح المصالح، والتي يقوم فيها المليادير الإخواني حسن مالك بدور نشيط، وتحت عنوان التصالح مع رجال أعمال جماعة مبارك، وضمان التواصل السلس بين أجنحة جماعة البيزنس التي كان يرعاها مبارك، ويوفر لها كل سبل الإثراء الصاروخي، وهو ما تعاوده جماعة الإخوان من خلال سلطة ’مرسي’ مندوبها في قصر الرئاسة، ثم يجري توحيد الكل في حرب ميادين شرسة ضد الثائرين، قتلت إلى الآن ألفا وخمسمائة شهيد، ولم يجر الاقتصاص فيها لشهيد واحد، سواء بتبرئة المتهمين جماعيا في محاكمات جماعة مبارك، أو بعدم إجراء محاكمات من الأصل، ولا تقديم أي متهمين بالقتل، وعلى نحو ما جرى في أحوال الشهداء الذين قتلوا زمن المجلس العسكري، وتماما كما يجري الآن لشهداء لحقوا ويلحقون بقوافل سبقت، وجرى قتلهم عمدا في زمن صاحب الفضيلة محمد مرسي، وإلى حد يرقى إلى عمليات اغتيال سياسي منظمة، استهدفت قادة ميادين الثورة من طراز الشهداء محمد كريستي والحسيني أبو ضيف وعمرو سعد ومحمد الجندي، وأغلبهم من قادة ’التيار الشعبي’ .
هل فهمتم الآن مغزى رفض جماعة الإخوان ـ مع مجلس طنطاوي ـ لإجراء أي محاكمات ثورية؟، وهل فهمتم مغزى تظاهر مرسي في حملته الانتخابية بمناصرة مبدأ القصاص للشهداء؟، ثم تحول الموقف ـ في الممارسة ـ إلى العكس بالضبط، وبما صور القصة كلها على إنها من حيل النصب العام، ثم انكشاف الحقيقة في ميادين الدم، وتحول دعوى القصاص للشهداء إلى قصاص من الشهداء، ثم إضافة شهداء جدد يقتلون بالطريقة نفسها، وهنا تبدو وظيفة أحكام البراءة جلية ناصعة، فهي ـ من جهة ـ ’ترخيص بالقتل’ دفاعا عن نظام مبارك الذي لم يسقط برغم خلع رئيسه، وهي ـ من جهة أخرى ـ ’ترخيص بالنهب’، فلم تسترد مصر مليما واحدا من الأموال المنهوبة، بل تحولت القصة إلى مساومات كواليس، وعروض للشراء من رجال جماعة الإخوان لأصول رجال أعمال جماعة مبارك، وفرض أوضاع تنتقل بها قيادة جماعة البيزنس إلى مندوبي مكتب إرشاد جماعة الإخوان، وبعد أن كانت ـ سابقا ـ في يد مندوبي لجنة سياسات حزب مبارك، وعلى أن يظل الفريق هو نفسه، محافظا على امتيازات رأسمالية المحاسيب في مصر، والتي تشكل أغنى طبقة في المنطقة العربية كلها، ومقابل دهس مصالح ومطامح أفقر شعب في المنطقة، فسواد المصريين لا يزالون ـ بعد عامين على خلع مبارك ـ تحت خطوط الفقر والبطالة والعنوسة والجهل والمرض بالمعنى الحرفي المتوحش الناهش.
إنها الثورة المحتجزة لا تزال، والتي غدرت بها سلطة الثورة المضادة على مرحلتين، أولاهما مرحلة مجلس طنطاوي المنتسب لإدارة مبارك بالمبنى والمعنى، ثم مرحلة حكم جماعة الإخوان، المفارقة في المبنى لإدارة مبارك، والمطابقة في المعنى إلى حد الاستنساخ الحرفي، والتي تظهر أفعالها ـ بعد انفضاح أقوالها ـ حقيقة الولاء التام لاختيار جماعة مبارك الأساسي، وهو إبقاء مصر ـ من جهة ـ في وضع المستعمرة الأمريكية بامتياز، وإبقاء الاقتصاد ـ من جهة أخرى ـ تحت الوصاية الدولية وسيطرة رأسمالية المحاسيب، وهو ما يفسر التدافع إلى تبرئة ذمة جماعة مبارك بدعوى الأحكام القضائية، ويفسر التدافع إلى إدانة الثورة فعليا، والقصاص من شهدائها، وتيسير عملية إفلات الجناة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2165424

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165424 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010