الثلاثاء 22 كانون الثاني (يناير) 2013

«الغيتو» المصري

الثلاثاء 22 كانون الثاني (يناير) 2013 par مصطفى الفقي

كنا نباهي عبر التاريخ بأن مصر دولة عريقة تتمتع بدرجة عالية من التجانس السكاني والانصهار البشري والاندماج الاجتماعي، ولكن مرت على مصر أحقابٌ متعاقبة ووفدت إليها تياراتٌ دينية وسياسية جعلت ذلك الذي كنا نفخر به لم يعد قائماً على النحو الذي عرفناه عبر العصور . نعم، لقد كان في مصر دائماً شأن كل الأمصار فقراء وأغنياء، مسلمون ومسيحيون ويهود، وكنا نتندر أحياناً على اليهود باعتبارهم يفضلون الحياة في “غيتو” منعزل ولا يرحبون كثيراً بالذوبان في شخصية الأمة المصرية شأن وضعهم في كل أنحاء الأرض، حيث يفضل اليهود العزلة والاحتفاظ بسمات بشرية وشخصية ذاتية تميزهم عن غيرهم، فقد كانوا لا يتحمسون للزراعة ولا يقبلون على الصناعة ولكن تجذبهم شؤون المال والتجارة .

وها نحن اليوم في مصر نشعر بأن شيئاً ما يحدث في هذا الوطن الذي التقت على أرضه الثقافات، وتتابعت الحضارات، وظل دائماً سبيكة منفردة وكأنه نسيج وحده، ها هي مصر تعرف الآن “الغيتو” الفكري والسياسي والديني، فهذه جماعات سلفية، وتلك مؤسسات قبطية، وثالثة تعبر عن تنظيمات تسمي نفسها “ليبرالية” هروباً من تعبير “علمانية” الذي اكتسب سمعة سيئة في العالمين العربي والإسلامي .

ولقد حضرت أخيراً اجتماعاً للمجلس الأعلى للثقافة برئاسة وزيرها ومعه أمين عام المجلس وبحضور رئيس الوزراء الذي استهل حديثه بالتعبير عن سعادته لزيارته للبابا تاوضروس في الكاتدرائية المرقسية للتهنئة بعيد الميلاد المجيد، ولكنه لاحظ ومعه كل الحق أن الاحتفالات حبيسة أسوار الكنيسة ولا تنعكس على بهجة في الشارع أو فرحة لدى الجميع . وكنت أول المتحدثين بعده فعلقت على ذلك بأننا قد أصبحنا نشعر بالقلق من المشهد المصري الحالي الذي يضعنا أمام “جزر منعزلة” يضرب كل منها بسهم في اتجاه مختلف مع أنني أزعم أن الشعب المصري كان دائماً موحداً متحداً، ولكن ها هي المصالح المتضاربة والصراعات القائمة والفتن الوافدة تترك بصماتها على جبين مصر الذي كان دائماً ناصع البياض نظيف السريرة .

والآن دعنا نبسط العوامل التي أدت إلى المشهد الحالي بانقساماته واختلافاته على نحو غير مسبوق في تاريخنا الوطني، ونوجز ذلك في ما يلي:

= أولاً: إن التعليم هو الذي يملك التأثير الأقوى في الانصهار الاجتماعي وتذويب الفوارق وصاحب المسؤولية التاريخية عن وحدة الشعوب ثقافياً واجتماعياً، وقد كان التعليم المصري شيئاً نعتز به من قبل، فكان الفصل الدراسي الواحد يضم المسلمين والمسيحيين واليهود، الأغنياء والفقراء، وأحياناً البنين والبنات، فانصهر المجتمع المصري في بوتقة واحدة، وأصبحنا أمام مشهد يتخرج فيه أحياناً من الجامعة الواحدة أو المدرسة المشتركة ابن الخفير وابن الوزير بغير تفرقة، الملتزم دينياً والمستغرب فكرياً بلا تمييز أيضاً، ولكن الدنيا تغيرت والأحوال تبدلت فأصبح لدينا تعليم عام وتعليم خاص، تعليم مصري وتعليم أجنبي، تعليم ديني وتعليم مدني، لذلك خرجت علينا مجموعات غير متجانسة بسبب تباين المنطلقات التعليمية وتعدد الخلفيات الثقافية واختلاف البيئة الدراسية .

= ثانياً: إن الجندية هي ذلك الشرف الذي يحمله المواطن الصالح بكل الاعتزاز والفخار، وهي أيضاً بوتقةٌ تنصهر فيها خصائص الأمة الواحدة إذ يقف في طابور مشترك: الأغنياء والفقراء، المسيحيون والمسلمون، أصحاب الانتماءات الدينية وذوو الاتجاهات الأخرى، إنها تضم كل من يحمل الجنسية المصرية بغض النظر عن أصوله العرقية أو عقيدته الدينية أو مستواه الطبقي، لذلك فإننا نقول دائماً إن التعليم والجندية هما مفتاحا الوطن الواحد والشعب الواحد على نحو يحفظ السلام الاجتماعي ويحمي مؤسسات الدولة ويرفع من قدر المواطن .

= ثالثاً: إن الطائفية داءٌ لعين وفد على مصر في ظل بيئة ثقافية متهالكة وظروفٍ اجتماعية محتقنة، فقد كنا لا نعرف، ونحن أطفال صغار، من هو المسلم ومن هو المسيحي، ولا يعنينا ذلك من قريبٍ أو بعيد، فالكل مصريون بلا تفرقة أو استثناء، ولكن الذي حدث أن التشدد الديني في جانب أدى إلى رد فعلٍ في الجانب الآخر وصنع التحفظ المتبادل والمخاوف المشتركة حتى أصبحنا أمام غليان طائفي مكتوم يجعل الطلاب المسيحيين ينزوون في إطار “غيتو” جامعي أو مدرسي مع الاتجاه نحو نوادي الكنائس بعيداً عن المعاناة المتحملة في المجتمع العام الذي يجب أن يضم الجميع في انسجامٍ كامل .

=رابعاً: إن الأمر لا يخلو من صراع طبقي،فالتيار الديني في معظمه يحتوي فقراء الناس بينما يتكون التيار المدني إذا جاز التعبير من أولئك الأكثر تعليماً وأشد احتكاكاً بالخارج وأكبر حيازة لمستويات اجتماعية أفضل، ولقد انعكس ذلك بشكل واضح في نتائج الانتخابات النيابية السابقة على سبيل المثال حيث انتزع ليبراليان مقعدي دائرتي “قصر النيل” و”مصر الجديدة” في العاصمة المصرية بسبب التميز الطبقي النسبي للدائرتين واحتشاد المثقفين في كل منهما، وهذا أمرٌ لا يؤخذ على إطلاقه فهناك أثرياءٌ ينتمون إلى التيار الإسلامي، وفقراءٌ يتحمسون للتيار الليبرالي .

=خامساً: إن الصراع السياسي هو الذي يذكي حدة الانقسام ويكرس وجود “الجزر المنعزلة” ويعصف بروح الانسجام الوطني، ويخلق بؤراً للصراع الذي يفقد للود كل قضية خروجاً على مقولة الإمام الشافعي (إن رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) .

. .هذا طواف سريع يعالج موضوعاً حيوياً وملحاً يهدد التركيبة المصرية التاريخية ويدفع بالجماعات السياسية والطوائف الدينية نحو “غيتو” ضيق تحتشد فيه كل جماعة سياسية أو طائفة دينية على حساب الوطن العظيم الذي عشنا نفاخر به ونتغنى بأمجاده عبر العصور .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2165370

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165370 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010