الأحد 6 كانون الثاني (يناير) 2013

اميركا ومساومة تأجيل السقوط في الهاوية المالية

الأحد 6 كانون الثاني (يناير) 2013

تفادت الولايات المتحدة ازمة مالية محتومة في ربع الساعة الاخير من انقضاء السنة الماضية وبزوغ شمس العام الجديد، لكن الى حين. وبما ان ماهية الأزمة عينها مركبة والاصطفافات السياسية شديدة العنف امام التحديات الماثلة مما يلقي ظلالا من الضبابية لتحديد حجم الربح والخسارة لكلا الطرفين.

من الحقائق السياسية ان الصفقة المرحلية التي توصل اليها الطرفان بدأت ملامحها تتجسد يوم الانتخابات الرئاسية، في شهر تشرين2 / نوفمبر الماضي، ونتائجها التي جددت البيعة للرئيس اوباما لولاية ثانية وفشل الحزب الجمهوري الارتقاء لسقف طموحه المعلن للفوز بمقاعد مجلس الشيوخ الى جانب سيطرته على مجلس النواب. ولم يكن خافيا على احد مراهنة قيادات الحزب الجمهوري في مجلس النواب على ان اقرارهم الميزانية السنوية (تشرين1/اكتوبر) استند الى فرضية فوز مرشحهم بمنصب الرئيس، بل اضحت الفرضية موضع الحديث الدائم خلال حملة الانتخابات الرئاسية. ان ما افضت اليه النتائج الانتخابية، خسارة الحزب الجمهوري لمنصب الرئيس ولبعض الممثلين في مجلس الشيوخ، قد اضعف موقفه التفاوضي لفرض املاءاته السياسية، الامر الذي وسع رقعة الامتعاض في صفوفه من الممثلين المتشددين سياسيا والقاء اللائمة على زعماء الحزب في كلا مجلسي الكونغرس لاضطرارهم التوصل لاتفاق مع خصومهم الديموقراطيين والمصادقة على رفع معدلات ضرائب الدخل لفئة الاثرياء.

بيد ان ما يغيب عن بال الكثيرين، وتفادي الجناح المتشدد في الحزب الجمهوري الاقرار به، ان الصفقة الموقعة جاءت بنتيجة ايجابية واضحة لصالح الجمهوريين الذين استطاعوا انتزاع تنازل خصومهم للابقاء على ثبات ومشروعية نسب التخفيضات الضرائبية المقرونة باسم “تخفيضات بوش الضرائبية” – الامر الذي عجز الجمهوريون عن تمريره عند سيطرتهم على السلطتين التنفيذية والتشريعية سابقا. كما ينبغي لفت النظر الى التنازل الذي قدمه الرئيس اوباما بعد الترويج الواسع لنيته فرض نسب ضرائبية عالية على شريحة الاثرياء، اذ عدل موقفه لاحتساب الحد الاقصى للدخل الذي ستسري عليه الضرائب من 250،000 دولار الى 400،000 لدخل الفرد و450،000 لدخل العائلة والتي هي النسب الواردة اصلا في “تخفيضات بوش الضرائبية،” التي اضحت قانونا دائما كما طالب الجمهوريون.

ومثلت الصفقة صدمة للتيار الليبرالي بين الديموقراطيين الذين جادلوا بأن النبض الشعبي مال لصالح برنامجهم في فرض نسب ضرائبية اعلى على شريحة الميسورين (2%)، فضلا عن ان الفرصة التي لاحت بسبب تعنت خصومهم في الازمة المالية الاخيرة قد تفضي الى طفرة سريعة في عائدات الدخل مما سيبطل مفعول التهديد بالتقشف وتخفيض الانفاقات المالية وتنقذ برامج الضمانات الصحية والاجتماعية من سكين الجمهوريين. كما ان التيار المذكور قدم تنازلات مسبقة اعتبرها اقصى ما يمكن الذهاب اليه وكان يتطلع لتنفيذ وعوده الانتخابية بالغاء “تخفيضات بوش الضرائبية” على اصحاب الدخل من فئة 250،000 دولار سنويا فما فوق. كما استندت قناعة التيار الليبرالي الى فرض مزيد من الضرائب تدريجيا على فئة الميسورين، مما سيرفد الخزينة المركزية باموال كبيرة ويضاعف من مأزق خصومهم الجمهوريين لاحقا في سعيهم الدائم لتخفيض الضرائب على ذوي الدخل المرتفع. وتعززت قناعاتهم بصحة موقفهم بعد نتائج الانتخابات ليس في الحفاظ على السلطة التنفيذية فحسب، بل ايضا توسيع قاعدة تمثيلهم في مجلس الشيوخ ولو بعدد طفيف من المقاعد، الامر الذي سيحرج خصومهم امام القاعدة الانتخابية التي تدعم مزيد من فرض الضرائب على شريحة 2%، واحراجهم ايضا لمطالبتهم بمزيد من التخفيضات في برامج الرعاية الصحية بادعاء قلة الموارد المالية. لو جرت المناورات ضمن التصور السابق، اي رفد الميزانية بدخل اعلى من الضرائب على الاثرياء، فان الاوضاع كانت ستسير باتجاه اخراج بند تخفيض ميزانيات البرامج الاجتماعية والصحية من تهديد عصا الجمهوريين لفترة زمنية طويلة مقبلة.

لا يساور احدا الشك في ان اوباما ذهب ابعد مما اتفق عليه في تقديم تنازلات للفريق الآخر، لا سيما وان اوراقه التفاوضية المتوفرة كانت قوية. اذ كان يطمح برفد الميزانية بنحو 1.6 تريليون دولار اضافي من وراء الاجراءات المنشودة. الطرف المقابل طالب بتخفيض 400 مليار دولار من برنامج الرعاية الصحية مقابل تخفيف مدى معارضته للبرنامج الذي اقترن باسم “اوباما كير،” الامر الذي لو تحقق لاوباما لوضع حجر عثرة كبير امام جهود الطرف الآخر المستمرة لاحداث تغييرات بنيوية في تلك البرامج. كما ان اوباما وفريقه الديموقراطي كانا يرميان الى حصر السيطرة على قرار تحديد سقف الدين العام بيدهم واخراج تهديد الجمهوريين بالتأثير عليه مرة والى الابد. ومن شأن ذلك، لو تم وفق التصور الاولي، رفد الخزينة بمبالغ كبيرة وتعزيز قدرة الحزب الديموقراطي للمطالبة باموال اكبر مستقبلا.

كما علت اصوات المعترضين على الصفقة بين اقطاب الحزب الجمهوري على الرغم من انها حافظت على المستويات الضرائبية الحالية للغالبية العظمى من الاميركيين، 98%؛ بل اعتبروها رفع في مستوى الضرائب المفروضة على شريحة 2% الميسورة. الامر الذي ادى الى تمرد البعض على حكمة سياسة رئيس مجلس النواب الجمهوري، جون بينر، والذي بالكاد استطاع السيطرة عليه وفوزه بالمنصب مرة اخرى بعد تصويت الاغلبية لجانبه في نهاية الاسبوع الاول من السنة الجديدة.

المنازلات السياسية في المشهد الاميركي من شأنها الاستمرار مستقبلا، خاصة وان الاتفاق / الصفقة الاخير جاء فعله بمثابة وضع حد لحزمة من اجراءات ترمي لتخفيض عدد من برامج الانفاقات الحكومية كان من المقرر تنفيذها مطلع العام الجديد، والتي كانت ستحدث تخفيضا ميزانيات معظم الاجهزة الحكومية بنسب تتراوح بين 8 – 10% من ميزانياتها السابقة، دون احتساب معدلات التضخم وغلاء المعيشة. ومن اشد المعارك ضراوة في هذا الصدد اصرار النواب الجمهوريين على استثناء ميزانية وزارة الدفاع والانفاقات العسكرية الاخرى من القانون المشار اليه، ويستعدون مبكرا لتلك المعركة السياسية التي من المقرر البت فيها في اواخر شهر شباط/فبراير المقبل.

التداعيات الاقتصادية الفورية للاتفاق غير محددة المعالم، الا انه من الملاحظ ان يطرأ انتعاش على مستويات الاستهلاك العام نتيجة تفادي فرض مزيد من الضرائب على الدخل. لكن اجواء القلق من المسقبل تلوح في الافق لتراجع قدرة الساسة على حسم مسألة تراكم الدين العام او معالجة حجم الانفاقات الحكومية المختلفة، مما يؤدي الى احجام مصادر الاستثمارات طويلة الاجل لانعاش الاقتصاد طالما بقيت مسألة نسبة الضرائب غير محددة المعالم في المدى المنظور.
الدين العام

تزامن الاتفاق / الصفقة في مطلع العام الجديد مع بلوغ القروض حدها الاقصى التي تمول بها الحكومة برامجها المختلفة، الامر الذي يعد بتجدد الازمة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. يبلغ الحد الاقصى الراهن للاستقراض 16،394 تريليون دولار، وتم تمديد الفترة الحرجة لمدة 60 يوما باتباع وزير المالية، تيموثي غايتنر، بعض الحيل الحسابية ليس الا. وعليه، توفرت فرصة زمنية قصيرة لدى السلطة التشريعية للبت في الازمة بهدوء وروية.

الرئيس اوباما، في المقابل، اتخذ موقفا متشددا حذر فيه السلطة التشريعية من العودة لاساليب الابتزاز التي سادت اجواء التفاوض في الاسابيع الاخيرة. وقال “اكرر استعدادي للتفاوض حول عدد من القضايا، لكنني لن اسمح بتجدد الجدل مع اعضاء الكونغرس (الجديد) للحصول على موافقتهم من عدمها لضرورة الوفاء بالتزاماتنا المالية التي تراكمت خلال فترات الجدل لتمرير القوانين التي صاغوها.”

تصريح واضح بلغة الواثق من امره، الا ان الديناميكيات السياسية قد لا تسعفه كثيرا ان قرر المضي في المواجهة ضمن ميزان القوى الراهن. باستطاعة اوباما، نظريا ودستوريا، اعلان رفع سقف الدين العام من طرف السلطة التنفيذية وتعليل الخطوة بالصلاحيات التي تنص عليها مادة التعديل الرابعة عشر من الدستور الاميركي، لكن تداعياتها تنذر بمعركة قضائية حامية الوطيس مع السلطة التشريعية التي تتمسك بحقها في شرعنة تكبد الديون، كما ستثير مجددا شرعية الاموال المقترضة تحت هذا البند.

شبث الطرفين بمواقفهما علانية يؤشر على نية مشتركة للتوصل الى اتفاق مرضي حول سقف الدين العام، وربما بالتزامن مع صيغة ما حول ضرورة تفادي اجراءات الاستقطاعات والتخفيض التلقائية في بعض البرامج الحكومية. هناك رغبة مشتركة بين الطرفين، اوباما والكونغرس، لتفادي استهلاك الرصيد السياسي لكليهما مبكرا في سياق الجدل لادخال تعديلات جذرية ضرورية لخفض مستويات الاقتراض الحكومي بصورة دائمة. اما الصيغة الاكثر ترجيحا فترتسم معالمها في موافقة الطرفين على رفع سقف الاقتراض مقابل اقرار زيادة في الانفاقات العسكرية – اي ارضاء الطرفين دون تنازل احدهما للآخر. وقد يصحب ذلك الاتفاق بعض التخفيضات الشكلية الضرورية لحفظ ماء وجهيهما، لكنها لن تتعدى جزءا طفيفا من معدلات زيادة الانفاق. اما تأثيراتها المنظورة قد تشهد صعوبة في التطبيق.

المشهد السياسي في واشنطن يشبه الى حد بعيد حلبة ملاكمة يسعى المتصارعيْن الى توفير اكبر قدر من جهوده للجولة الاخيرة. بينما يتحكم الحزب الجمهوري بمجلس النواب وبالتالي السيطرة على الميزانية وحجم الانفاقات الحكومية، يظهر الرئيس اوباما كواعظ في محراب المنبر ، مما يفقد الطرفين القدرة الحاسمة للذهاب بالصدام الى نهاياته. يتلخص مطلب الحزب الديموقراطي، بكل تشعباته، بادخال اصلاحات جدية على النظام الضرائبي مما سيعزز معدلات الدخل للخزينة المركزية ومن ثم توفير الاموال الضرورية للانفاق على برامجه المختلفة. بالمقابل، لا يخفي الجمهوريون رغبتهم في تشريع خفض في مستويات الانفاق بالتزامن مع خفض معدلات الضريبة على شريحة الاثرياء. واستنادا الى طبيعة موازين القوى الراهنة، لن يستطيع اي من الفريقين تحقيق رغبته كاملا، كما دل على ذلك المشوار الاخير في الذهاب الى الهاوية المالية.

ويتطلع الطرفين الى تعديل موازين القوى كل لصالحه في الجولة المقبلة من الانتخابات النصفية، 2014، لتعزيز رصيده السياسي وموقفه التفاوضي. اذ لا يزال الحزب الجمهوري يعول على حظوظه في الفوز باغلبية مقاعد مجلس الشيوخ، مما سيفاقم ازمة الرئيس اوباما وينزع مجال المناورة السياسية من بين يديه في السنتين الاخيرتين من ولايته الرئاسية. اما الحزب الديموقراطي، بالمقابل، يراهن على حظوظه الفوز باغلبية مقاعد مجلس النواب في الجولة القادمة مما سيوفر رصيدا سياسيا اكبر للرئيس اوباما للمضي بتطبيق ما تبقى من مشاريع على راس سلم اولوياته.

وكما هو مألوف في المناورات السياسية، يشترك الفريقين برغبة تأجيل البت في الازمات الى فرصة مستقبلية. اذ هناك التزام متبادل بين الرئيس اوباما ورئيس مجلس النواب (الجمهوري) للحفاظ على سير اعمال الحكومة، لكن كليهما يفتقد للرصيد السياسي الكافي للفوز الصريح. الامر الذي يستلزم تقديمهما تنازلات متبادلة، حتى لو جاءت في الدقيقة الاخيرة من الزمن المتاح.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2180659

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المرصد  متابعة نشاط الموقع تقارير وملخصات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2180659 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40