السبت 19 حزيران (يونيو) 2010

قرار فرنسي سياسي بامتياز

السبت 19 حزيران (يونيو) 2010 par نقولا ناصر

إن القرار الذي اتخذته الحكومة الفرنسية بوقف بث قناة الأقصى الفلسطينية هو قرار سياسي بامتياز في دوافعه وأهدافه ولا يمكن الدفاع عنه بأي إدعاء ينفي ذلك إلا بقدر الادعاء بأن أي قرار قد يصدر بإغلاق أي مركز من المراكز الثقافية الفرنسية لن يكون قرارا سياسيا.

فالقرار ليس معزولا عن السياسة الخارجية الفرنسية تجاه الصراع العربي بعامة والفلسطيني بخاصة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي بل هو جزء لا يتجزأ من التزام هذه السياسة بشروط اللجنة الرباعية الدولية التي ترتكز أساسا على استسلام الشعب الفلسطيني لشروط “السلام الإسرائيلي” التي تتبناها الرباعية قبل أن تعمل فرنسا وشركاؤها في الرباعية من أجل إنهاء الاحتلال والحصار المفروض على الشعب الفلسطيني بموجب هذه الشروط.

لذلك فإن الإدعاءات التي ساقتها الحكومة الفرنسية كمسوغات لقرارها بوقف بث فضائية الأقصى هي ادعاءات تنطوي على تضليل إعلامي فاضح ونفاق سياسي وازدواجية معايير تصب جميعها في حملة “شيطنة” النضال الوطني الفلسطيني من أجل الحرية وتقرير المصير والاستقلال.

وهذه حملة مستمرة سابقة على ولادة حركة المقاومة الإسلامية “حماس” التي تتخذ هذه الحملة منها عنوانا لها في الوقت الحاضر بينما كان عنوانها قبل ولادة حماس منظمة التحرير الفلسطينية نفسها بيمينها ويسارها، إذ كانت مصنفة أوروبيا وأميركيا كمنظمة “إرهابية” و“تخربية” و“شيوعية” حتى رضخت لما يطلب من حماس الرضوخ له حاليا.

والمفارقة أن “تهمة التحريض على الكراهية والعنف” لا تقتصر على حماس، بل ما زال شركاء منظمة التحرير في “عملية السلام” يستخدمونها سيفا مسلطا لابتزاز المزيد من تنازلات المنظمة، حد أن يوجه الرئيس الأميركي باراك أوباما هذه التهمة لرئيس المنظمة محمود عباس عندما طالبه علنا بإحراز مزيد من التقدم “حول قضايا التحريض” الفلسطيني أثناء قمة الرجلين الأخيرة في البيت الأبيض، وهو ما يكرر الاتحاد الأوروبي ووزراء خارجيته المطالبة به أيضا في كل بياناتهم الرسمية حول الصراع العربي ـ الفلسطيني مع دولة الاحتلال.

وأول المسوغات للقرار الفرنسي أنه صدر بناء على طلب من المفوضية الأوروبية وهذا صحيح واستمرت المفوضية في حث باريس عليه منذ انطلاق فضائية الأقصى في التاسع من كانون الثاني / يناير عام 2006 وهو الشهر نفسه الذي فازت فيه حماس بثقة شعبها في انتخابات كان الاتحاد الأوروبي ذاته من أهم الشهود على نزاهتها قبل أن يرضخ لتبعيته للولايات المتحدة التي قادت الانقلاب على نتائجها.

وثانيها أن القرار الفرنسي صدر تنفيذا للقوانين الأوروبية والفرنسية التي تحظر “التحريض على الكراهية او العنف لأسباب دينية أو قومية” لأن فضائية الأقصى، ثالثا، “تنتهك” هذه القوانين.

وحتى الآن لم يصدر لا عن الحكومة الفرنسية ولا عن المفوضية الأوروبية ولا عن أي جهة أخرى ما يثبت أن فضائية الأقصى قد حرضت على الكراهية أو العنف ضد اليهودية واتباعها كديانة، أو ضد اليهود بسبب أي قومية يدعونها لأنفسهم.

وليس سرا أن الفضائية هي وسيلة إعلام تقودها حركة حماس التي لا تخفي بل تفخر بكونها إسلامية تدين بالديانة “التعددية” الوحيدة في العالم التي تعترف ب“أهل الكتاب” وبكل من شهد أن لا إله إلا الله وحده وتحض على مجادلتهم “بالحسنى”، لكنها تفخر كذلك بأنها ملتزمة بمقاومة الاحتلال أيا كانت قوميته أو ديانته ولا تخفي ذلك.

ولحماس والمقاومة الفلسطينية بعامة في ذلك سند في التاريخ يؤكد بان أيا من شعوب العالم لم يستقبل أي محتل أجنبي بالورود والرياحين، ويشمل ذلك الشعب الفرنسي ومقاومته “الكارهة والعنيفة” للاحتلال النازي، وحماس في ذلك منسجمة أيضا مع ثقافة وطنية فلسطينية وعربية وإسلامية ميزت دائما وفي وقت مبكر جدا بين اليهودية وبين الصهيونية منذ بداية التصدي للغزوة الصهيونية لفلسطين المدعومة من الاستعمار الأوروبي القديم والامبريالية الأميركية المعاصرة.

عندما يقول يهوديان بارزان في تقارير أممية وبيانات رسمية مثل القاضي ريشارد غولدستون والمقرر الخاص لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ريشارد فولك إن دولة الاحتلال الإسرائيلي متهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد الفلسطينيين تحت الاحتلال والحصار، فتتهمهما هذه الدولة ب“كره اليهود” و“كره الذات” وتسعير “العداء للسامية”، وعندما يستمع الجمهور سواء في دولة الاحتلال أم في أوروبا لوسائل إعلام مرئية ومسموعة تبث طوال أربع وعشرين ساعة يوميا دون أن يسمع شيئا عن التفاصيل اليومية لهذه الجرائم،

فإن أي مراقب محايد لا يسعه إلا الاستهجان الغاضب على قرارات مثل القرار الفرنسي تصر على حجب الحقيقة بمنع وسائل إعلام بديلة مثل فضائيتا الأقصى أو المنار اللبنانية (التي حظرت فرنسا بثها عام 2004) من إيصال ولو جزء من الحقيقة إلى هذا الجمهور، لأنه لا يمكن تفسير منع كهذا بغير كونه جزءا إعلاميا مكملا للحصار العسكري والاقتصادي المفروض “رباعيا” وإسرائيليا على الشعب الفلسطيني، لا بل إنه حصار على الجمهور الأوروبي نفسه لمنع وصول الحقائق إليه، ناهيك عن تناقضه مع مبادئ مواثيق الشرف التي يعتمدها الإعلاميون الغربيون في صحافتهم التي تدعم التبادل الحر المفتوح للحقائق والآراء من أجل “رواية قصة التنوع وحجم التجربة الإنسانية بشجاعة حتى عندما لا يكون فعل ذلك عملا يحظى بالشعبية” (جمعية الصحفيين المحترفين الأميركية) وهي المبادئ التي تدعي باريس وواشنطن أنهما حصنان للدفاع عنها.

وعندما ترد الإعلامية الفرنسية المخضرمة الملقبة ب“الملكة كريستين” أوكرنت ـ ـ رفيقة برنارد كوشنير وزير الخارجية الفرنسي طوال 28 سنة أنجبا خلالها ابنا عمره الآن 24 سنة دون أن يتزوجا ـ ـ على سؤال في مقابلة لها مع إذاعة جيش الاحتلال أثناء زيارة لتل أبيب مؤخرا قائلة: “إنكم أنتم أنفسكم من يعزز العداء للسامية”، فإن المراقب لا يسعه إلا التساؤل عن دورها في قرار بلادها ضد فضائية الأقصى كونها مديرة البث الخارجي للجنة البث المرئي والمسموع الفرنسية التي أناطت بها الحكومة الفرنسية تنفيذ القرار.

ولا يسع المراقب كذلك إلا التساؤل عن دور “رفيقها” كوشنير فيه وهو “الاشتراكي” الذي انضم فجأة إلى غلاة اليمين في الحزب الديغولي الذي يقوده الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي، وأن يتساءل كذلك عن أي دور قامت به منظمة “أطباء بلا حدود” ـ ـ التي يعود إليه الفضل في تاسيسها ـ ـ في قطاع غزة وعما آلت إليه النظرية التي تنسب إليه في “التدخل الإنساني” لتسويغ التدخل الدولي في الدول الأخرى بينما ما زال يطبقها بطريقة انتقائية تستثني دولة الاحتلال الإسرائيلي منها لكنها لا تمنعه من استضافة المتمردين على وحدة أراضي السودان الإقليمية ممن تتهم محكمة الجنيات الدولية بعضهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور، أو كمثال آخر لم تمنعه من استمرار بلاده في استضافة منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة بالرغم من أنها مصنفة كمنظمة “إرهابية” في الولايات المتحدة.

وفي هذا السياق يتساءل المراقب كذلك عن دور تقارير الفرنسي مجدي شقورة مدير الدائرة القنصلية لقطاع غزة في القنصلية العامة الفرنسية بالقدس المحتلة في صدور هذا القرار خصوصا بعد أن منحه الرئيس ساركوزي يوم الأربعاء الماضي وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي على خدماته المتميزة ليكون أول فرنسي من أصل فلسطيني يحصل على هذا الوسام بعد أن كرر رئيسه التصريح بأن حماس وليس الاحتلال هي التي تتحمل المسؤولية عن “معاناة الفلسطينيين في غزة” كما قال في الخامس من الشهر الأول من العام المنصرم في ذروة العدوان الإسرائيلي على القطاع المحاصر.

إن التضليل الإعلامي والنفاق السياسي التي سلط القرار الفرنسي ضد “الأقصى” الأضواء عليها قد سلطت بدورها الأضواء أيضا على السياسة الخارجية الفرنسية في المنطقة التي كانت تتوارى خلف التركيز العربي الإعلامي على كشف ازدواجية معايير الولايات المتحدة باعتبارها الحليف الاستراتيجي الأقوى انحيازا لدولة الاحتلال الإسرائيلي، لتذكر الرأي العام العربي في فلسطين بخاصة أن التاريخ الحديث سوف يسجل على رئاسة ساركوزي أنها مثلت بداية الانحياز الفرنسي لدولة الاحتلال لأول مرة منذ العدوان الإسرائيلي على الدول العربية المجاورة عام 1967، في انقلاب على السياسة التي بدأها الزعيم الفرنسي الراحل شارل ديغول بعد ذلك العدوان بعد أن رأى ببعد نظره التاريخي الذي قاده إلى إنهاء الاحتلال الفرنسي الاستيطاني للجزائر أن الاحتلال الإسرائيلي الجديد آنذاك لن يكون أقل بل أكثر إثارة للحروب وعدم الاستقرار وانعدام الأمن وتعطيل التنمية في منطقة حساسة جدا للسلم والأمن الدوليين كالوطن العربي ومحيطه الشرق أوسطي، مما بدأ يذكر العرب بالدور الفرنسي الحاسم في ترسيخ دولة الاحتلال، وتسليحها بالسلاح النووي، وبأن الطائرات التي حسمت عدوان عام 1967 لصالحها كانت طائرات حربية فرنسية.

فهذا الانحياز هو الجديد الوحيد الذي جاء به ساركوزي الذي يصف نفسه بأنه “صديق لإسرائيل” ووصف إنشاء دولة الاحتلال بأنه “معجزة أدخلت الديموقراطية والتنوع إلى الشرق الأوسط” وتعهد بأن “لا تساوم فرنسا أبدا على أمن إسرائيل” وبأن يرفض استقبال أي زعيم عالمي لا يعترف بحقها في الوجود، وهو ما زال يحاول فرض هذا الوجود كعضو أصيل في مشروعه المتعثر للاتحاد المتوسطي، وكان أول رئيس فرنسي على الإطلاق يخاطب المؤتمر السنوي لرؤساء المنظمات اليهودية في بلاده ويشجعهم على الجنسية الفرنسية ـ الإسرائيلية “المزدوجة” في تشجيع مباشر لهم على الهجرة إلى دولة الاحتلال بالرغم من أن عدد الناطقين بالفرنسية فيها يكاد يقارب عدد اليهود في فرنسا (حوالي 600 ألفا)، بينما يتعهد ساركوزي أيضا بمعارضة “إعادة توطين” اللاجئين الفلسطينيين في هذه الدولة.

إذ لا جديد في دعم ساركوزي المعلن لإقامة دولة فلسطينية، ولا في حث وزير خارجيته لقادة دولة الاحتلال على “تقاسم” القدس مع الفلسطينيين. وفي هذا الإطار العام لسياسة فرنسا في عهد ساركوزي يتحول استقبال قصر الاليزية لرئيس منظمة التحرير عباس يوم الأحد الماضي للمرة الثانية منذ عام 2007 إلى مجرد علاقات عامة للتغطية على الانحياز الفرنسي، ومثلها زيارة ساركوزي لرام الله أواسط عام 2008 على هامش مشاركته لدولة الاحتلال في احتفالاتها السنوية بقيامها، ويحول الزيارات الخمس التي قام بها وزير خارجيته كوشنير لرام الله (مرتان عام 2007 وثلاث مرات في العام التالي) إلى وسيلة ضغط لاستئناف “عملية سلام” تعلن رام الله افتقادها لشروط الحد الأدنى للاستئناف، وتتحول استضافة باريس لمؤتمر المانحين الدوليين “للدولة الفلسطينية” أواخر عام 2007 إلى مساهمة فرنسية في تمويل إطالة أمد الوضع الراهن الذي يسيطر عليه الاحتلال وفي تمويل الانقسام الفلسطيني في ضوء الانحياز الفرنسي لأحد طرفيه كما تأكد بقرار وقف بث فضائية الأقصى.

ويشهد التاريخ الوطني الفلسطيني قبل منظمة التحرير وفي عهدها ثم في مرحلة حماس أن صانع القرار الوطني كان حريصا دائما على محاولة الفصل بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وبين داعميها الغربيين وعلى عدم استعدائهم وتحييدهم ولو لفظيا كحد أدنى لإدراكه بأن عداوة الحركة الصهيونية بأخطبوطها العالمي ودولتها كافية لوحدها لاستنزاف موارده.

غير أن القرار الفرنسي الأخير هو أحدث مثال على أن هؤلاء الغربيين مصرين على الاستمرار في استعداء العرب وفي مقدمتهم الفلسطينيون بالمبادرة إلى خوض معارك دولة الاحتلال بالوكالة عنها، في صراع ما زال يثتبت بكل الطرق منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين أن الغربيين لا يمكن أن يكونوا محايدين فيه بين كيان سياسي من صنع أيديهم وبين ضحاياه من عرب فلسطين ممن أقيم هذا الكيان على أنقاض وطنهم وشتات شعبهم.

لقد كان تدشين ساحة باريسية باسم الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش قبيل منتصف الشهر الجاري حدثا رمزيا فرنسيا يلخص الانحياز الغربي، لكنه يوجز أيضا هذا النهج السياسي للقيادات الفلسطينية المستسلمة لهذا الانحياز كأمر واقع لا يمكن تغييره. فقد ساهم في حفل تدشين ساحة الشاعر درويش إلى جانب برنار دولانويه، عمدة العاصمة الفرنسية، الرئيس الفلسطيني الزائر عباس، وكان حريا به ألا يفعل احتجاجا على رفض مضيفه الباريسي إطلاق اسم الزعيم الراحل ياسر عرفات على شارع أو حديقة باريسية أسوة بإطلاق اسم أبو التطهير العرقي للشعب الفلسطيني ديفيد بن غوريون على حديقة مطلة على نهر السين، ورفض مضيفه حتى وضع اسم عرفات إلى جانب اسم شريكه الإسرائيلي في اتفاق أوسلو وفي جائزة نوبل للسلام اسحق رابين، الذي قاد العدوان الإسرائيلي عام 1967 الذي قاد إلى الاحتلال المستمر حتى الآن، على مدخل واحدة من أجمل الحدائق الباريسية.

وفي هذه العجالة، لا يمكن عدم التوقف عند صمت منظمة التحرير ورئاستها وحكومتها في رام الله على قرار وقف بث فضائية الأقصى، فإذا كان حسن النية يفترض تفسيرهذا الصمت بمقتضيات العلاقات الثنائية “الحسنة” فإنه مع ذلك صمت يشجع باريس على انحيازها في الصراع، غير أن القرار الذي اتخذه النائب العام لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني أحمد مغني أوائل عام 2006 بإغلاق الفضائية بحجة عدم الترخيص، والاعتقال المتكرر لمراسليها في الضفة الغربية، هي مؤشرات توفر مسوغات للقرار الفرنسي، وقبله الأميركي، ضد الفضائية، وهي مؤشرات تجعل من الصعب جدا تفسير هذا الصمت بحسن نية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2166041

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2166041 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010