السبت 15 أيلول (سبتمبر) 2012

«الجنـرالات يكذبـــون»!

السبت 15 أيلول (سبتمبر) 2012 par انطوان شلحت

نفضت «إسرائيل» عن كاهلها أي مسؤولية مباشرة أو حتى أخلاقية عن اقتراف مجزرة صبرا وشاتيلا على الرغم من حرص زعمائها على إبداء «قدر كبير من الاشمئزاز منها»، بدون أن تجد أدنى غضاضة في هذه الانشطارية. وقد استعانت لهذا الغرض أيضاً بالاستنتاجات التي توصلت إليها لجنة تحقيق رسمية لتقصي وقائع تلك المجزرة التي وقعت مباشرة بعد يومين من مقتل الرئيس بشير الجميّل، ومن قيام الجيش «الإسرائيلي» بالانتشار في بيروت الغربية وفرض حصار على المخيمين، في 14 أيلول/ سبتمبر 1982.

تشكلت هذه اللجنة بموجب أوامر صادرة عن مناحيم بيغن، الذي كان في أثناء الحرب على لبنان سنة 1982 يشغل ولايته الثانية في رئاسة الحكومة «الإسرائيلية»، وذلك عقب ضغوط شعبية مورست عليه وبلغت ذروتها في تظاهرة الاحتجاج العامة التي جرت في وسط مدينة «تل أبيب» يوم 25 أيلول/ سبتمبر 1982 بمبادرة من حركة «السلام الآن» وأحزاب المعارضة، واشترك فيها عشرات الألوف من «الإسرائيليين».

وقد استمر عمل اللجنة، التي أسميت «لجنة التحقيق لتقصي وقائع الأحداث في مخيمات اللاجئين في بيروت»، خلال الفترة بين تشرين الثاني/ نوفمبر 1982- شباط/ فبراير 1983، وترأسها الرئيس الأسبق للمحكمة «الإسرائيلية» العليا يتسحاق كاهان (ولذا عُرفت أيضاً باسم «لجنة كاهان»)، وضمت في عضويتها كلاً من قاضي المحكمة العليا في ذلك الوقت أهارون باراك (الذي شغل في السابق منصب المستشار القانوني للحكومة «الإسرائيلية»، وأصبح لاحقاً رئيساً لهذه المحكمة)، واللواء احتياط يونا إفرات.

وكان من أبرز استنتاجات «لجنة كاهان» أنه «لم يتم العثور على قرائن تثبت ضلوع الجيش «الإسرائيلي» بصورة مباشرة في اقتراف المجزرة»، لكن اللجنة نوهت بأن «أمر اقتراف المجزرة وصل في مرحلة معينة إلى علم ضباط كبار من هيئة أركان الجيش «الإسرائيلي»، ولم يتصرفوا على نحو حازم لوقفها».

وقالت اللجنة إن وزير الدفاع «الإسرائيلي» في أثناء الحرب أريئيل شارون يتحمل المسؤولية الأكبر عن التغاضي عن خطر إقدام ميليشيات الكتائب على تنفيذ أعمال ثأر في المخيمين انتقاماً لمقتل الرئيس بشير الجميّل، وأوصت بأن يقدم استقالته، لكن شارون رفض الاستقالة، واكتفت الحكومة بنقله من منصبه وتوليته منصب وزير من دون حقيبة.

كما وجهت اللجنة نقدًا صارماً إلى أداء كل من رئيس هيئة الأركان العامة في إبان الحرب الجنرال رافائيل إيتان، إلا إنها قررت عدم التوصية بإطاحته بسبب قرب انتهاء ولايته، وقائد المنطقة العسكرية الشمالية اللواء أمير دروري، وقائد جبهة بيروت العميد عاموس يارون. وأوصت اللجنة بعدم إسناد أي منصب عسكري قيادي إلى يارون لمدة ثلاثة أعوام. وبالنسبة إلى دروري فقد بقي في منصبه حتى نهاية 1983، ثم خرج إلى بعثة دراسية في الولايات المتحدة، وفي شباط/ فبراير 1985 عُيّن قائداً لسلاح البرّ، وفي أيلول/ سبتمبر 1986 عُيّن نائباً لرئيس هيئة الأركان العامة.

وأشارت اللجنة إلى أن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) اللواء يهوشواع ساغي، كان الوحيد من بين القيادة العسكرية الذي قدّر على نحو صحيح ما يمكن أن يترتب على سماح الجيش «الإسرائيلي» للكتائب باقتحام المخيمين من نتائج مأساوية، بل إنه حذّر من احتمال اقتراف مجزرة بحق السكان المدنيين، لكنه تجنب نقل هذه التقديرات إلى أصحاب القرار، وأوصت اللجنة بإطاحته، غير أنه سارع إلى استباق ذلك بتقديم استقالته من منصبه.

وقالت اللجنة إن رئيس الحكومة بيغن أخفق في تقدير النتائج المتوقعة لعملية السماح للكتائب باقتحام المخيمين، وإن وزير الخارجية يتسحاق شامير تجاهل معلومات تلقاها بشأن اقتراف المجزرة ولم يحرّك ساكناً لوقفها.

كما أشارت اللجنة إلى أن رئيس جهاز «الموساد» ناحوم أدموني لم يزوّد الحكومة بأي إنذار يتعلق بـ «الخطر المرهون باقتحام الكتائب للمخيمين»، لكنها لم توص باتخاذ أي إجراءات بحقّه، واستمر في أداء مهمات منصبه حتى انتهاء ولايته.

تجدر الإشارة إلى أنه في مناسبة مرور ذكرى ثلاثين عاماً على تلك الحرب على لبنان، في حزيران/ يونيو 2012، جرى في «إسرائيل» تحرير عدة معطيات جديدة في شأن ما رافقها من وقائع. ولعل أهمها هو ما يلي:

أولاً، أن تسمية تلك الحرب «عملية سلامة الجليل» انطوت على خداع مقصود. فقد كان هدفها المعلن هو «تخليص منطقة الجليل من نيران صواريخ الكاتيوشا، وذلك عبر إبعاد المسلحين الفلسطينيين عن الحدود الشمالية» مسافة أربعين كيلومتراً، إلاّ إنه كان لهذه العملية هدف سياسي بعيد المدى لم يُكشف النقاب عنه في حينه، وهو رغبة «إسرائيل» في تغيير النظام السياسي في لبنان، الأمر الذي يتيح لها إمكان تحويل هذا البلد إلى دولة حليفة لها على تلك الحدود الشمالية. وهذا ما أكده مثلاً المنظّر العسكري غابريئيل سيبوني، الباحث الكبير في «معهد دراسات الأمن القومي» في جامعة «تل أبيب».

ثانياً، أن أحد أبرز أهداف تلك الحرب، استناداً إلى ما قاله رئيس الحكومة آنذاك مناحيم بيغن، تمثل في معالجة صدمة حرب «يوم الغفران» (حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973)، حتى أن التاريخ الذي اختير للبدء بالحرب كان نفس التاريخ الذي بدأت فيه «حرب الأيام الستة» (حرب حزيران/ يونيو 1967)، «وذلك في مسعى واعٍ لربط هذه الحرب بذكرى الانتصار الكبير القوي والسريع والأنيق، والذي لا يزال، منذ ذلك التاريخ، يسحر «إسرائيل» وقادتها ويجعلهم يتلهفون بشدّة إلى تكراره من جديد»، بحسب ما أكدت صحيفة «هآرتس» في مقال افتتاحي خاص أنشأته في 8/6/2012.

[rouge]«العسكر - سيف على الساسة»![/rouge]

قبل إحياء المناسبة السالفة بعام واحد أدلى وزير الاتصال في حكومة بيغن الثانية التي شنت الحرب على لبنان مردخاي تسيبوري، وهو ضابط عسكري رفيع المستوى سابق تولى هذه الوزارة بعد أن شغل منصب نائب وزير الدفاع، بمقابلة مطوّلـة لصحيفة «معاريف» (8/6/2011) تركزت في قراءة وقائع تلك الحرب، وما دار وراء كواليسها.

ولفتت الصحيفة إلى أن العميد احتياط عزرائيل نفو، الذي شغل منصب السكرتير العسكري لبيغن في إبان الحرب، قال في مقابلة سابقة أجرتها معه إن تسيبوري «كان الشخص الوحيد في حكومة بيغن الثانية الذي أدرك أن وزير الدفاع شارون ضلّل الحكومة، وجرّهـا عن طريق الخداع إلى قاع المستنقع اللبناني». وأضاف أن تسيبوري «لم يكف عن التحذير، وملأ الدُنيا صراخاً وزعيقاً، لكن تم إسكاتـه وتهميشه».

وفيما يتعلق بمجزرة صبرا وشاتيلا، كرّر تسيبوري في هذه المقابلة ما كان قد قاله لدى إدلائه بشهادته أمام «لجنة كاهان»، وفحواه أنه في صبيحة اليوم الذي ارتكبت فيه المجزرة تلقى من المحلل العسكري لصحيفة «هآرتس» زئيف شيف (والذي اشترك لاحقًا مع محلل الشؤون العربية إيهود يعاري في تأليف كتاب حول الحرب على لبنان بعنوان «حرب التضليل») معلومات مفادها أن «ثمة مجزرة تُقترف في صبرا وشاتيلا بعد أن سمحت «إسرائيل» للكتائب بالدخول إلى المخيمين»، وقد سارع لنقلها إلى وزير الخارجية شامير الذي كان من المقرّر أن يلتقي في ظهيرة ذلك اليوم نائب وزير الدفاع الأميركي موريس درايبر. ولدى سؤال شامير من جانب «لجنة كاهان» عما فعله إزاء هذا الموقف ادعى أنه نقل تلك المعلومات إلى الجهات المختصة، لكن تبين للجنة أنه لم ينقلها، وقال تسيبوري إنه تحاشى نقلها بسبب خشيته من أن يتدخل في شؤون العسكر. وبرأيه لم يكن شامير الوحيد من زعماء «إسرائيل» في ذلك الوقت الذين تملكتهم الخشية من التدخّل في شؤون العسكر، بمن فيهم بيغن نفسه، الذي كان العسكر ولا سيما شارون «يتعاملون معه كما لو أنه مجرّد خرقة»، على حدّ تعبيره، خلافًا للصورة المرسومة له في أذهان «الإسرائيليين»، وبالتالي كان العسكر أشبه بالسيف المُصلت على الساسة.

وروى تسيبوري أيضاً أنه عرف قبل شن الحرب على لبنان بكثير أن لدى العسكـر مخططات ترمي إلى تغيير النظام السياسي في لبنان، وإلى القضاء على وجود منظمة التحرير الفلسطينية، وأنه حذّر بيغن من احتمال إقدام أصحاب تلك الخطط على تنفيذها من خلال الالتفاف على الحكومة، وأن هذا الأخير استدعى كلا من رئيس هيئة الأركان العامة إيتان، وقائد الفرقة 446 التابعة للمنطقة العسكرية الشمالية اللواء أفيغدور بن غال، لاستيضاح الأمر معهما، وقد نفى بن غال ذلك جملة وتفصيلاً، وعندما أصرّ تسيبوري على أن المعلومات التي في حيازته تستند إلى حقائق لا إلى مجرّد تكهنات، بادر بيغن إلى إخراسه قائلاً: «إن جنرالات «إسرائيل» لا يكذبون».

وخلص تسيبوري إلى القول إنه بنظرة ثانية كانت الحرب على لبنان بمثابة أكبر إثبات على أن الجنرالات يكذبون، وعلى أنه في حال عدم وقوف المؤسسة السياسية لهم بالمرصاد «يمكن أن يودوا بالجيش إلى التهلكة».

[rouge]مقاربة متكرّرة[/rouge]

يعكس هذا السيناريو الراسخ المتعلق بوقائع مجزرة صبرا وشاتيلا مقاربة «إسرائيلية» متكرّرة إزاء المجازر التي ارتكبت ضد الفلسطينيين منذ 1948، وفحواها أن هذه المجازر كانت في معظمها بمثابـة «انحراف» عن الخطط الرسمية، أو عن السياسة الحكومية، كما تمثل على ذلك مثلاً السيناريوهات المتداولة في «إسرائيل» بشأن مجازر دير ياسين (1948)، وقبية (1953)، وكفر قاسم (1956).

في موازاة ذلك، تقوم هذه المقاربـة على أساس تقويم «المنفعة السياسية» التي يمكن أن تعود على «إسرائيل» من هذه المجازر، أي من دون أن تكون مستندة إلى أي اعتبارات أخلاقية. وهذا ما يفسّر حقيقة أن المقابلة المذكورة مع تسيبوري افتقرت إلى أي مظهر من مظاهر «الاضطراب الوجداني» إزاء الآخر، الذي يمكن اعتباره على أنه ينـم عن تعاطف مع ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا.

فضلاً عن ذلك، فإن التحليلات التي خاضت مؤخراً في الدروس التي يجب استخلاصها من نتائج الحرب على لبنان سنة 1982 خرجت في شبه إجماع باستنتاج مؤداه أن «إسرائيل» غير قادرة على تغيير الواقع السياسي في بيئتها الإقليمية - وفي هذه الحالة في لبنان تحديدًا - عبر اللجوء إلى الوسائل العسكرية فقط، لكنها استغرقت في تبرير ذلك بواسطة قراءة ما جرى من تطورات داخلية لبنانية بعد تلك الحرب، وفي مقدمها نشوء «حزب الله» ونظريته بشأن المقاومة، وليس من منطلق القناعة المبدئية بحدود القوة العسكرية «الإسرائيلية».

بكلمات أخرى، إن المنفعة ما زالت المعيار الوحيد الذي يوجّه معظم المحللين «الإسرائيليين» في مقاربة المجازر. وقد ظهرت هذه العقيدة على نحو جليّ حتى في التصريحات التي أدلى بها يوسي بيلين، أحد زعماء «اليسار» «الإسرائيلي»، في سياق مطالبته الحكومة خلال مقابلة تلفزيونية بوقف المجزرة التي كانت ترتكبها في قطاع غزة في شتاء 2009، حين قال: «هذا عمل غير إنساني، وغير يهودي، وهو فوق كل ذلك غير مُجدٍ»!.

في المقابل، ساهمت هذه العقيدة في شرعنة الكثير من المجازر الصهيونية بناء على منفعتها بالنسبة إلى «إسرائيل»، وهو موضوع ربما يحتاج الغوص عليه إلى سياق آخر.

[rouge]*[/rouge] [bleu]مدير وحدة «المشهد الإسرائيلي» في المركز الفلسطيني للدراسات «الإسرائيلية» (مدار) ـ عكا.[/bleu]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 86 / 2165945

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2165945 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010