الجمعة 18 حزيران (يونيو) 2010

حكم التاريخ بلسان هيلين توماس

الجمعة 18 حزيران (يونيو) 2010 par د. عصام نعمان

صدر في الولايات المتحدة خلال أسبوع واحد حكمان: حكم الواقع بلسان محمود عباس، وحكم التاريخ بضمير هيلين توماس . عباس هو رئيس السلطة الفلسطينية الذي يعتبره الغرب وبعض العالم ناطقاً باسم الفلسطينيين . توماس هي عميدة صحافيي البيت الأبيض، بل هي أول امرأة تنضم إلى نادي الصحافة الوطني الأمريكي، حتى إنها استحقت لقباً آخر وهو “سيدة البيت الأبيض الأولى” .

نُسب إلى عباس قوله في حضور أركان لجنة “ايباك” (اللوبي اليهودي الصهيوني في واشنطن) إنه يعترف لليهود بحقهم في أرض الميعاد . أبومازن لم ينفِ ما نسب اليه الأمر الذي يحمل على الاعتقاد انه أطلق فعلاً ذلك التصريح الغريب العجيب المنافي في مضمونه لوقائع التاريخ وأحكام القانون الدولي وحقوق الفلسطينيين الثابتة وغير القابلة للتصرف .

لم يستأهل ذلك التصريح استنكاراً من المسؤولين العرب ربما لشعورهم بأنه غير متعارض مع الواقع . ذلك أن معظم قرارات الأمم المتحدة والمؤتمرات الدولية الخاصة بفلسطين ناهيك عن اتفاقات الهدنة بين دول عربية عدة والكيان الصهيوني، ومعاهدات الصلح والاتفاقات المعقودة معه، وتبادل الاعتراف والبعثات الديبلوماسية، والمفاوضات المباشرة وغير المباشرة، وحتى “مبادرة السلام العربية” تنطوي، ضمناً أو علناً، على الاعتراف، مداورةً أو مباشرةً، بوجود “إسرائيل” وبالتعامل معها .

غير أن الإقرار بوجود الدولة الصهيونية هو إقرار بواقع وليس اعترافاً بشرعية هذا الواقع أو تسليماً به . وإذا كان بعض العرب وكثير من غير العرب قد أقر، لسبب أو لآخر، بوجود “إسرائيل” أو بشرعية هذا الوجود، فإن الفلسطينيين تمسكوا دائماً بعدم شرعية الكيان الصهيوني وقاوموا وجوده الاستعماري المفروض بالقوة والغصب والقهر .

أبومازن “اختار” أن ينسجم مع نفسه ومع الداعين إلى اعتماد “حل الدولتين” . فالقبول بإقامة دولة فلسطينية على شطر صغير من فلسطين التاريخية مشروط بقبول شرعية وجود “إسرائيل” على الشطر الآخر والأكبر .

أبومازن نطق، إذاً، بحكم الواقع ولم يسأل عن العواقب .

في المقابل، وبالمقارنة مع محمود عباس، نطقت هيلين توماس بحكم التاريخ . فقد صرحت في البيت الابيض أن على اليهود أن يخرجوا من فلسطين وأن يعودوا من حيث أتوا، إلى بولندا وألمانيا والولايات المتحدة ودول أخرى .

توماس، التي كّرس لها الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون على مدى عقود، المقعد الأول المميز في قاعة الصحافة في البيت الأبيض رغم صراحتها وسلاطة لسانها وأسئلتها الاستفزازية، قالت لحاخام لونغ ايلاند ديفيد نسينوف الذي كان يزور البيت الأبيض وقد سألها عمّا إذا كان لها أي تعليق عن “إسرائيل”: “قل لهم أن يخرجوا من فلسطين . تذكّر أن هؤلاء الناس محتلون، وهذه ليست ألمانيا ولا بولندا” . سألها مجدداً: إلى أين يذهبون؟ أجابت دونما تردد: “فليعودوا إلى ديارهم، إلى بولندا وألمانيا والولايات المتحدة وأي مكان آخر” .

الحاخام الخبيث لم يكتفِ باستصراح توماس بل سجّل تصريحها وصوّرها بشريط فيديو ونشره عبر مدونة “رابي لايف” التي يملكها، وعممه في كل أرجاء أمريكا .

ثارت ثائرة اليهود الصهاينة وشنّوا عليها الحملات المقذعة ما حمل المتحدث باسم البيت الأبيض روبرت غيبس على وصف كلماتها بأنها “هجومية وتستدعي الشجب” . كما أصدر مجلس اتحاد مراسلي البيت الأبيض بياناً دان فيه تصريحاتها، ولمحّ إلى امكانية إعادة النظر في الإبقاء على المقعد الأمامي الدائم المخصص لها في غرفة الصحافة في البيت الأبيض .

توماس استبقت هذه الحملة بإعلان تقاعدها بعدما أوشكت على بلوغ التسعين، لكنها لم تتراجع . صحيح انها اعتذرت عما قالته، إلاّ انها لم تنفه قط .

عباس وتوماس نموذجان نقيضان في السياسة كما في التعاطي مع حقائق العصر . ففي حين “اختار” أبومازن دائماً أن يكون واقعياً ومرناً وأن يضع في الحسبان المصالح قبل المبادئ، نجد أن صحافية محترفة وابنة مهاجر لبناني الأصل اختارت دائماً أن تقول الحقيقة وأن تنتصر لها في كل زمان ومكان .

أبومازن أقرّ لليهود حقهم في أرض الميعاد . ربما فعل ذلك بدافع من نظرة واقعية إلى وقائع الحياة السياسية في عصرنا، وربما بدافع شخصي منطلقه الرغبة في الاحتفاظ بمقعده على رأس السلطة الفلسطينية .

هيلين توماس لم تجد أساساً لادعاء اليهود أن لهم “حقاً” في أرض الميعاد، بل هي استشعرت ضرورةً ملحة لخروجهم من فلسطين ولأن يعودوا من حيث أتوا . فعلت ذلك بدافع من ضميرها الحي والتزامها قيم الحق والعدالة .

عباس قال كلمته واحتفظ بمقعده . توماس قالت كلمتها وضحت بمقعدها .

كم ستطول “إقامة” عباس في مقعده؟ ربما ليس طويلاً لأن “بنك” الاستيطان الصهيوني لا “يقبض” عملات زائفة كان روجها في دول أوروبا وأمريكا، ولن يتوانى أصحابه عن التضحية بكل من يتداولها من غير اليهود سواء في “سوق” مفاوضاتٍ غير مباشرة أو في أخرى مباشرة .

أما هيلين توماس فقد حسمت أمر مقعدها مذّ قررت، قبل عقود، أن المبادئ تعلو على المقاعد، وأن شرط الحقيقة كشفها لا كتمها .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 66 / 2165332

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165332 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010