الجمعة 7 أيلول (سبتمبر) 2012

«التناقض الوجداني» بين أولوية مصر وأولوية «الإخوان»

الجمعة 7 أيلول (سبتمبر) 2012 par د. سمير كرم

تسود مصر الآن حالة غير طبيعية. ربما أقول حالة شاذة وغير سوية.

لكي أشرح ما أود أن أعبر عنه، لا أجد إلا وصف التناقض الوجداني، وهو تعبير يستخدمه علم النفس لوصف حالة الفرد، حينما يكون نهباً لتناقض انفعالي بين شعورين متضاربين يصعب في الظروف الطبيعية الجمع بينهما. وصحيح أن التناقض الوجداني يصف حالة الفرد، لكن يبدو أن الشعوب والمجتمعات تمر ايضا بمثل هذه الحالة كما الأفراد.

يصف علم النفس هذه الحالة عند الفرد بأنها تكافؤ الضدين وبأنها ثنائية المشاعر. ويمضي فيقول انها «حالة نفسية وجدانية لشخص يعاني في وضع معين عواطف متناقضة أو يظهر مواقف متناقضة كالحب والكره والخشية والرغبة، الإيجاب والنفي... ويمكن أن يفسر هذا السلوك بوصفه حاصل الترجيح في وجدانية الفرد بين قطبين، الرغبة في أن يكون محبوباً ومحمياً ولكنّ لديه في الوقت نفسه خوفاً من أن يُبتلع ويُفترس». وربما يغفر لنا الانتقال بهذا الوصف من الفرد الى شعب بأكمله، ما يؤكده علماء النفس، من ان التناقض الوجداني أو تكافؤ الضدين «ليس حالة غير سوية، وقليل من المواقف الإنسانية يفلت منه». انه باختصار حالة من حالات النزاعات النفسية.

في حالة مصر الراهنة نرى في وقت واحد، معارضة الشعب المصري لأفكار «الإخوان المسلمين» وسياساتهم ورغبته الواضحة المعبر عنها في التظاهرات والمسيرات والكتابات التي تتمتع بشعبية واسعة، ونرى في الوقت نفسه درجة غير منخفضة من الرضا عن سلوك وقرارات الرئيس الاخواني محمد مرسي وإعجاباً بقراراته وأدائه السياسي، ربما في تحركاته على صعيد السياسة الخارجية أكثر من غياب التحركات من جانبه على صعيد السياسة الداخلية.

في حالة مصر الحالية الراهنة نرى جمعاً بين المتناقضين الضدين، رئاسة مصرية تلقى قبولاً من جماهير الشعب المصري وسياسة سعودية لها انعكاساتها الخارجية كما تبدو في الزيارات والارتبطات والاتفاقات، وفيها مظاهر سياسة داخلية مؤذية لمشاعر المصريين في بعض أوجهها. كذلك نرى جمعاً بين تناقضات السياسة المصرية الراهنة إزاء «إسرائيل» وإزاء أميركا ومشاعر الجماهير الشعبية المصرية المعبرة عن الضيق ـ على أقل تقدير ـ من الفروض التي تمليها «إسرائيل» وتمليها أميركا. وهي أمور تقابل ـ من جانبها الآخر ـ بتناقضات السياسة المصرية الاخوانية التي شاهدناها في سيناء تتحدى «إسرائيل» والقيود «الإسرائيلية» ثم تستسلم لهذه القيود وتمارس التراجع العسكري وفقاً لما تطلب «إسرائيل».

لا نستطيع ان نقول ان هذا التناقض الوجداني السياسي الذي يجتمع في مصر الرئيس محمد مرسي ومصر الجماهير بين الرضا والمعارضة التي تهدد باستخدام أسلوب الثورة وغاياتها لم يسبق له مثيل. بل له سابقة تناقض وجداني حاد عاشته مصر وعانت منه الكثير إبان فترة اتجاه الرئيس السابق أنور السادات نحو «إسرائيل» وأميركا، مبدياً استعداداً لم يسبق له مثيل للدخول في علاقات سلام مع «إسرائيل» بإشراف من الحليف الاستراتيجي لـ«إسرائيل» نفسها وهو الولايات المتحدة.

لم يعد بالإمكان بعد أن وقعت «كامب ديفيد» وفرضت نفسها طوال هذه السنين من حكم السادات ومن حكم خليفته الأمين مبارك ان نشيح بوجهنا ـ نحن الذين وقفنا حياة وكتابة ضد سياسات «كامب ديفيد» ـ عن المشاعر المتناقضة التي أبداها الشعب المصري إزاء زيارة السادات لـ«إسرائيل»، وصولاً الى توقيع معاهدة السلام معها، وتوقيع معاهدة بيع السيادة والسياسة المصرية في اتفاقات المساعدات الاقتصادية والعسكرية لمصر. مشاعر المعارضة الحقيقية الدفينة جنباً الى جنب مع مشاعر التأييد لـ«شجاعة» السادات وقدرته على الإقدام على ما لم يجرؤ غيره على الإقدام عليه.

فما أشبه الفترة الراهنة من سياسات مصر «المرسية» بسياسات مصر «الساداتية». الرئيس محمد مرسي انتهج سياسته الرامية الى تأكيد الالتزام بما التزم به الحكم السابق منذ أيام السادات في العلاقات الإقليمية والدولية، مع ان هذا الالتزام الجديد جاء بعد ثورة 25 يناير المصرية التي أطاحت حكم حسني مبارك لأسباب عديدة، أهمها وأكثرها بروزاً، خفض مستوى العلاقات بين مصر والأمة العربية وإقليم «الشرق الأوسط» والعالم بانتهاج سياسة موالية ـ لا أقل ـ لـ«إسرائيل» وأميركا.

كان هذا نفسه قد حدث في مصر، لدى الإقبال بمشاعر التناقض الوجداني على حقبة «كامب ديفيد». فقد جاءت هذه الحقبة في أعقاب «حرب أكتوبر» العظيمة التي ردت لمصر والجيش المصري اعتبارهما. وقتها ارتفعت مكانة مصر الى أعلى مستوياتها. ولكن التناقض الوجداني أحدثه الإقبال على السلام بالطريقة التي بها جرى الإقبال عليه، ولم ندرك إلا بعد وقت طويل وكثير من معاناة التناقض الوجداني ان التمهيد لسلام «كامب ديفيد» استوجب «حرب أكتوبر». والآن لا يمكن الجزم بأي قدر من معاناة التناقض الوجداني سنصل الى إدراك الصلة المباشرة بين خطوات مرسي الاخوانية الداخلية والخارجية والخطوات التي قطعتها ثورة 25 يناير قبل ان تتوقف وتتراجع.

إعجاب نسبة الإسلاميين من المصريين ـ كما عبرت عنها انتخابات الرئاسة ـ بما يفعله الرئيس محمد مرسي، لا يختلف كثيراً عن القدر من الإعجاب الذي أبدته أعداد من المصريين لا يستهان بها بما أقدم عليه أنور السادات في أواخر السبعينيات من القرن العشرين. لقد بدا هذا الإعجاب كبيراً وبذلت الدولة وإعلامها جهداً هائلاً لتضخيمه وإخفاء مشاعر العداء تجاه «إسرائيل» ومشاعر المعارضة إزاء مواقف أميركا وسياساتها. نعم حدث هذا في زمن السادات قبيل «كامب ديفيد»، وها هو يحدث الآن في زمن مرسي وحكم «الإخوان المسلمين». ولا معنى أبداً لإغفال الحقائق أو التغاضي عنها.

على انه من الضروري بالمثل ان لا نغض الطرف عن حقيقة ان الشعب المصري لا يزال يكن مشاعر العداء لـ«إسرائيل» وعدوانيتها، ليس فقط في سيناء المصرية، بل أيضاً في الجنوب اللبناني وفي غرب ضفة الأردن الفلسطينية وفي غزة، حتى بعد انسحابه العسكري منها. وان الشعب المصري لا يزال يستنكر سياسات أميركا التي لا تخفي أبداً انحيازها التام لـ«إسرائيل» في عدوانيتها وفي سياساتها التوسعية، والتي تشترط قبول «إسرائيل» لأي وضع إقليمي أو عربي قبل أن توافق عليه أميركا بكل هيلمانها الدولي.

لقد عاشت مصر مع سفرة الرئيس الاخواني مرسي الى الصين والى قمة حركة عدم الانحياز حالة شبيهة كثيراً بما عاشته إبان رحلة السادات التي أدت به الى «كامب ديفيد». ولا بد هنا ان نلاحظ ان مصر وقعت اتفاقات السلام مع «إسرائيل» قبل ثلاثة وثلاثين عاماً، ومع ذلك فإن عدد الدول العربية التي لحقت بها في هذا الدرب، لم يتخط عدد أصابع اليد الواحدة. بل لا بد ان نلاحظ ان أكثر النظم قرباً الى الولايات المتحدة وبالتالي الى «إسرائيل» الآن بعد كل هذه السنين، لا تزال تحجم عن توقيع سلام مع «إسرائيل» كما فعلت مصر. وهي تلقى في هذا قبولاً «إسرائيلياً» وأميركيا ملموساً. إننا نعني بالتأكيد كلاً من المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين وإمارة قطر والإمارات العربية المتحدة. ذلك انه أهم بالنسبة لـ«إسرائيل» وأميركا ان تكون هذه النظم العربية أقرب لسياسات هاتين الدولتين في العداء لأعدائهما، وبينهم إيران وسوريا، فهذا أهم من إقامة سلام رسمي مع «إسرائيل» تحت مظلة التحالف الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي مع الولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال، فإن المملكة السعودية إذا وقعت سلاماً مع «إسرائيل» تكون قد اعترفت بقيادة مصر لها ـ أي للسعودية ـ وللمنطقة. وهذا ما لا تريده السعودية ولا تريده «إسرائيل» ولا تريده أميركا.

القيادة في هذه الحقبة هي للسعودية، وقد أدرك الرئيس محمد مرسي هذه الحقيقة وسلم بها واستسلم لها.

ربما أسهم هذا الدور العربي ـ والإسلامي ـ في زيادة حدة التناقض الوجداني الذي يعانيه الشعب المصري، لكنه لا يسهم بأي قدر في خفض وعي الشعب المصري وجماهيره بحقائق الوضع العربي. لقد أوجد هذا الوضع ـ بخلاف هذا التناقض الوجداني ـ انقساماً عربياً أصبح من الصعب إدراكه في ظروف ما يسمى «الربيع العربي» الذي تلعب فيه السعودية دور القيادة وتلعب فيه مصر دور التابع، وان لم يبد هذا واضحاً بسبب موقع مصر وحجمها الجغرافي والسكاني والثقافي. التراجع السياسي لا يستطيع ان يخفي أياً من هذه المعايير إلا لبعض الوقت.

لا بد بعد هذا ان نتذكر ما أقدمت عليه «إسرائيل»، بعد توقيع معاهدة السلام مع السادات، إذا أردنا ان نتوقع ما يمكن ان تقدم عليه «إسرائيل» بعد التزام مرسي بهذا السلام أمام «إسرائيل» وأمام أميركا معاً. في الفترة التي أعقبت توقيع السلام أقدمت «إسرائيل» على تفجير المفاعل النووي العراقي في عام 1981 وأقدمت في العام التالي على احتلال عاصمة عربية - هي بيروت - لأول مرة في تاريخها العدواني، وأقدمت بعد ذلك ونتيجة له على إبعاد منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتليها الى أبعد نقطة ممكنة عن حدودها فباتت تقيم في تونس حيث لا دور لها ولا قيمة. وما أقدمت عليه «إسرائيل» بعد ذلك تاريخ طويل من الاعتداءات والتجاوزات لا يتسع المجال لحصره. ولكنه يدل على ما يمكن ان تقدم عليه «إسرائيل» ـ بدرجة أو أخرى من موافقة أميركا ـ بعد حالة التناقض الوجداني التي تجددت بصعود «الإخوان المسلمين» الى السلطة، سبقه وتبعه التزام واضح وبات بالسلام مع «إسرائيل».

ولقد كان لأحداث سيناء الأخيرة وتطوراتها ما يكفي لإعطاء إشارة كافية الى نيات «إسرائيل» تجاه الأراضي العربية لا تختلف عما أقدمت عليه بعيد توقيع السلام مع مصر. فهل تبدو مصر مستعدة لكبح جماح «إسرائيل» أو منعها أو الرد عليها إذا أقدمت على التغاضي عن سيادة مصر أو أي دولة عربية تريد «إسرائيل» ان تلعب دوراً في هدمها أو تقسيمها كما هو حال سوريا في الوقت الحاضر؟

تتوقف الإجابة عن هذا السؤال الخطير على حركة الجماهير الشعبية المصرية نحو الانتصار على حالة التناقض الوجداني التي تعاني منها مصر. تتوقف على قدرة الجماهير الشعبية المصرية على تأكيد مواقفها المبدئية والأساسية. إننا لا يمكن ان ننسى ان أكبر وأهم أسباب «ثورة 25 يناير» 2011 تتعلق بالسياسة الخارجية ومكانة مصر القومية والإقليمية.

وليس خافياً ان أهم تحفظات الجماهير المصرية على مسلك الرئيس مرسي في رحلته الأخيرة الى الصين وإيران يتعلق بالموقف شبه العدائي تجاه إيران، وهي البلد الذي يتعرض لاحتمالات الحرب ضده من جانب «إسرائيل» وأميركا، بسبب تأييده الذي يتجاوز أي تأييد عربي لقضية فلسطين وضد «إسرائيل».

لقد آثر الرئيس مرسي الإبقاء على موقف العداء لإيران، كما آثر الإبقاء على موقف السلام مع «إسرائيل». بتعبير آخر، اثر السير في الطريق الذي سبقته فيه السعودية.

هل هذا ما توقعه المصريون الذين أيدوا الإخوان المسلمين انتخابياً وساهموا في صعودهم الى السلطة؟

من المؤكد ان عدداً من الإخوان المسلمين لا يهتمون بمصر قدر اهتمامهم بتنظيم الإخوان ومستقبله ومسيرته. أما الغالبية العظمى من المصريين فإن مصر تنال الأولوية بالنسبة إليها أياً كان الثمن.

ويبقى السؤال الى متى تحتمل الجماهير المصرية هذه الحالة، حالة التناقض الوجداني بين أولوية مصر وأولوية «الإخوان المسلمين»؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 272 / 2165540

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2165540 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010