الخميس 6 أيلول (سبتمبر) 2012

الدين والسياسة الخارجية

الخميس 6 أيلول (سبتمبر) 2012 par جميل مطر

لا يفاجئني استعمال رئيس جمهورية مصر عبارات دينية وآيات قرآنية في خطبه التي يلقيها في مناسبات عامة، فقد درجنا منذ الصغر على استعمالها في دروس الإنشاء، فما بالنا برئيس متدين وعضو بارز في جماعة دعوية أوصلته إلى هذا المنصب. ولكني أعترف بأنني فوجئت بمقدمة خطابه في مؤتمر عدم الانحياز التي ورد فيها ذكر الصحابة وآية من آيات القرآن الكريم. بدت المقدمة مفتعلة والقصد منها سياسي بامتياز، وتحمل في طياتها وربما في نية كاتبيها توجهاً مستقبلياً معيناً.

المؤتمر الذي ألقى فيه الخطاب هو مؤتمر لدول حركة عدم الانحياز، وهي دول تعتنق شعوبها أديانا شتى، وما ربط بينها منذ البداية، ويحميها إلى يومنا هذا كحركة عدم انحياز، هو مجموعة مبادئ ومصالح سياسية، لا علاقة مباشرة لها بالدين.

واضح لنا أن القصد السياسي من استعمال الدين في خطاب الرئيس في مؤتمر لم يكن الدين موضوعاً مطروحاً للنقاش فيه، هو توجيه رسالة «دينية» أو بالأصح مذهبية، إلى الشعب المضيف، وهو في هذه الحالة الشعب الإيراني. لا أظن أن مثل هذه الرسالة كان يمكن أن توجه في عهد الآباء المؤسسين لحركة عدم الانحياز أو تطرح في المؤتمرات التي انعقدت بعدهم. لم يكن مضمون الرسالة واحدا من مجموعة المبادئ التي أقرها مؤتمرا باندونغ وبلغراد، وهي المبادئ التي سارت على نهجها أجيال وأجيال من الديبلوماسيين وقادة الدول النامية على امتداد ستين عاما. على كل حال لن يكون رئيسنا أول قائد سياسي يستخدم عبارات دينية لأغراض سياسية، فالتاريخ حافل بالروايات عن تجارب وممارسات الخلط بين الدين والسياسة لتحقيق مصالح ضيقة أو سياسات طموحة، وما أكثر من استخدموا الدين لتحقيق مصالح إمبريالية. التاريخ حافل كذلك بروايات عن خلط الدين بالسياسة من أجل نشر الدعوة والتبشير، أو لغرس الأخلاق النبيلة في ممارسات السياسة الدولية.

الروايات كثيرة والخلاصات والنتائج متنوعة. لدينا مثلا رواية، لا ينساها عربي أو مسلم، عن الرئيس جورج بوش حين تعمد وضع كلمة «الصليبية» في إشارة واضحة إلى الحروب الصليبية في خطابه عشية الغزو الأميركي للعراق. أذكر وقتها أن كثيرين من المتخصصين في الشؤون الدولية توقعوا قرب بزوغ عصر يتدخل فيه الدين في السياسة الدولية إلى حدود قصوى. وقد حدث. إن من يقرأ الدراسات وجلسات الاستماع الأميركية يمكنه أن يتوصل إلى وجود قناعة غالبة بأن الأكاديميين والسياسيين والديبلوماسيين الأميركيين صاروا يعتبرون الدين مرفقا من مرافق الدولة.

المعنى واضح، وهو أن الديبلوماسية الأميركية تستطيع استخدام الدين لتحقيق المصالح القومية الأميركية استنادا إلى نظرية «الدين بالانابة»، وهي النظرية القائلة بأن الشعوب تضع ثقتها الإيمانية في أيدي أقلية متدينة حاكمة، تمثل أو تزعم أنها تمثل الأغلبية المؤمنة. الشواهد عديدة على هذا التحول في صنع السياسة الأميركية. كانت القاعدة في الديبلوماسية الأميركية تقضي بأنه ما دام الدستور الأميركي يحرّم الخلط بين الدين والسياسة عند إدارة شؤون الدولة، فالواجب يحتم على الديبلوماسيين الأميركيين عدم التعامل مع الأحزاب والقيادات الدينية، حتى لو كان الهدف تحقيق مصالح للدولة الأميركية. انهارت هذه القاعدة مع انهيار برجي التجارة الدولية في نيويورك في سبتمبر 2011، وأصبح واجبا على الديبلوماسيين ورجال الدولة الأميركيين التعامل مع القوى الدينية الأجنبية، بالإضافة إلى تقديم كل دعم ممكن للجماعات والتنظيمات الإنجيلية التبشيرية، التي انطلقت تنشر أفكارها في أميركا الجنوبية وأفريقيا وكذلك في الصين.

تحذر إحدى مدارس السياسة الخارجية في الولايات المتحدة من أن خلط الدين بالسياسة كثيرا ما يؤدي إلى جريمة اختطاف الأديان، إذ تأتي ظروف تجبر زعماء من ضعاف الأخلاق الى استخدام الدين غطاء لأهدافهم ومصالحهم الشخصية أو الحزبية الضيقة، وفي حالات كثيرة استخدموا الدين لتعبئة شعوبهم ضد دول وشعوب أخرى، الأمر الذي يجعل الصراعات أكثر تعقيدا بل مستحيلة التسوية.

آخرون يحذرون من المبالغة في خلط الدين بالسياسة الخارجية استنادا إلى تجربة بل تجارب نعيش بعضها في الظروف الراهنة. من المنطقي أن تختلف جماعات تعيش متجاورة، ومن المنطقي أن يتحول الخلاف إلى اشتباك، وطبيعي أن تجد السلطة المحلية فرصة لتدارك الأمر قبل استفحاله، وقد تدري أو لا تدري السلطة المركزية في العاصمة. مثل هذا الخلاف المحلي أصبح في أيامنا الراهنة قضية عامة تتدخل فيها الدول الأجنبية بحجة رفع الظلم الواقع على طائفة أو فئة أو مذهب بعينه، وكثيرا ما يتحول الأمر بسبب التدخل الخارجي إلى فتنة حقيقية أو حرب أهلية. لا أعرف تماما حجم الاضطهاد الواقع على مسلمي بورما وربما يستحق فعلا هذه الضجة العالمية وتدخل المجتمع الدولي، ولكني أعرف أن مسلمين آخرين في شمال شرق الهند وفي بنغلاديش نفسها، وهي الدولة الإسلامية، يتعرضون لظلم فادح، ولا يهتم بهم «المجتمع الدولي». في هذه الحالة كما في أحوال أخرى كثيرة، يجري استخدام الدين لخدمة مصالح «قومية» لدول أخرى، رغم الإدراك التام أن «تكلفة» استخدام الدين باهظة وفي الغالب دموية. لا يعني هذا أن يكف المجتمع الدولي عن دعم الفئات المظلومة ومساندتها في سنكيانغ والتيبت والفلبين وسريلانكا، وعديد الدول العربية والإسلامية، ولكن أن يحدث هذا التدخل بدون حشد المشاعر الدينية للشعوب والأفراد. لقد ثبت أن هذا الحشد، مدفوعا بالتدخل الأجنبي، أدى في معظم الحالات إلى أن حركات محدودة وضيقة الأثر تحولت إلى حركات دينية أو مذهبية واسعة وعابرة للحدود، أو، وهو الأمر الخطير جدا، أفرزت عناصر وجماعات إرهابية أثارت الرعب والخراب والفوضى.

تسود في دوائر معينة فرضية تتصور أن الجماعات أو الشعوب التي تنتمي إلى ديانة واحدة قلما تتحارب أو تتصارع. هذه الفرضية، في رأيي، لا تزيد صدقيتها عن صدقية الفرضية الشهيرة القائلة بأن الدول الديموقراطية لا يحارب بعضها البعض الآخر. نعرف، ويعرف الكثير من خبراء السياسة الدولية، أن المحرك الأساسي للسياسة الخارجية لأي دولة هو المصلحة القومية. كان هذا هو اعتقاد أول المؤسسين لعلم العلاقات الدولية هانز مورجنثاو، وما زال الاعتقاد السائد لدى الغالبية العظمى من الأكاديميين ورجال الدولة. وقد يذهب بعض هؤلاء إلى القبول بفكرة أن حافز تحقيق المصلحة القومية يدفع أحيانا بالسياسيين إلى انتهاك مبادئ أخلاقية، إلا أن آرثر شلزنجر، عالم السياسة الشهير، برر هذا الأمر بعبارة صاغها وذاعت من بعده، وهي «اللا أخلاقية الضرورية» في صنع السياسة الخارجية.

هذه القناعة تصل بنا إلى واقع تاريخي لا يمكن القفز فوقه، وهو أن «الدول الدينية» تذهب إلى الحروب مثلها مثل الدول «المدنية» أو «العلمانية»، وأن الدول الدينية قد تشتبك في حروب دموية مع دول دينية أخرى تدين بالديانة نفسها وبالمذهب نفسه. تاريخنا في الشرق الأوسط، منذ فجر الديانات، شاهد على حروب دينية بعضها استمر عقودا، وبعضها خلّف آثارا مرعبة. بمعنى آخر، وجود الدين عنصراً محركاً إضافياً للسياسة الخارجية سيصطدم حتما بالمحرك الأساسي، أي بالمصلحة القومية أو بمصلحة النخب الحاكمة. حدث هذا في مراحل عديدة من عصور الخلافة في دمشق وبغداد واستانبول، وحدث أيضا في أوروبا بين الإمبراطوريتين المسيحيتين الشرقية والغربية، وحدث بين مصر واليمن، وبين ليبيا وتشاد وبين العراق والكويت وبين الأتراك والفرس، وبين العراق وإيران، وبين باكستان الغربية وباكستان الشرقية «بلاد البنغال».

كثيرة هي مخاطر الإشراك القسري أو المفتعل للدين في السياسة الخارجية، وبخاصة إذا كانت النخبة صانعة السياسة والقرار «دينية» التوجه أو الهوى.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 46 / 2165622

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2165622 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010