الأربعاء 29 آب (أغسطس) 2012

زيارة مرسي إلى طهران: هل من سياسة إقليمية جديدة لمصر؟

الأربعاء 29 آب (أغسطس) 2012 par د. مصطفى اللبّاد

يحتدم الجدل في مصر حول زيارة محمد مرسي المرتقبة إلى إيران نهاية الأسبوع الجاري لحضور قمة دول عدم الانحياز في طهران وتسليم الرئاسة الدورية للقمة من مصر إلى إيران، بين مؤيد للزيارة ومتفائل بقيام سياسة إقليمية مصرية جديدة وبضمنها علاقات مصرية - إيرانية مختلفة نوعياً عن العقود الثلاثة السابقة، ومعارض لها خصوصاً من رموز وقيادات التيار السلفي، كونهم يعتبرون إيران عدواً يجب اجتنابه. وبين المؤيدين والمعارضين للزيارة تتوه الحجج والحقائق، فيتكرس انقسام مصري جديد حول السياسة الإقليمية لمصر بعد «25 يناير» 2011، إلى جوار الانقسامات الأخرى التي تتفرخ أسبوعياً في طول وعرض «المحروسة» بين الاتجاهات السياسية المختلفة. فهل تصب الزيارة المرتقبة لمرسي في نهر المصالح الوطنية المصرية؟ وهل تمثل الزيارة خطوة أولى نحو سياسة إقليمية مصرية جديدة تترجم أهداف الانتفاضة الشعبية المصرية في الحرية والكرامة الوطنية إلى واقع ملموس؟

ورث الرئيس المنتخب محمد مرسي من سلفه المخلوع مبارك «معاهدة السلام المصرية - «الإسرائيلية»»، مثلما ورث قطيعة مع إيران، وسياسات إقليمية كرست تحالف مبارك مع «إسرائيل» واصطفافاً سياسياً تحت العباءة الخليجية، فضلاً عن انبطاح مزمن أمام الضغوط الأميركية بفعل الارتهان الاقتصادي والعسكري والسياسي لواشنطن والمؤسسات المالية الدولية. ويعني كل ذلك، أن محمد مرسي ورث بلداً فاقداً للرؤية والخيال، تتعامل معه دول الإقليم، باعتباره رجلاً مريضاً حيناً، وعزيز قوم ذل حيناً آخر، وعالة اقتصادية في كل الأحيان. ورث مرسي بلداً يتعامل معه العالم ومؤسساته الدولية باعتباره «فيلاً راقداً» من الأفضل المحافظة على رقدته وإطعامه بما تيسر من فتات - قروض ومعونات -، قبل أن ينفجر الوضع وينفلت عقاله فينهض محطماً التوازنات، خصوصاً مع جيرته لطفل الغرب المدلل «إسرائيل».

هذه صورة المشهد إبان الانتفاضة الشعبية المصرية في «25 يناير» 2011، بدون أي «رتوش» أو مساحيق تجميل. تأسيساً على ذلك فمن المفهوم أن مصر العائدة إلى المنطقة بعد غياب ورقاد تحتاج إلى مد الخيوط مع أطراف اللعبة الأساسيين في المنطقة، لامتلاك القدرة على التحدث إلى كل الأطراف من دون استثناء. بديهي إذن أن تحاول القاهرة تحسين علاقاتها مع إيران، خصوصاً أن الأخيرة - في ظل رقاد القاهرة الممتد لعقود - قد أصبحت لاعباً أساسياً في «الشرق الأوسط» يقود محوراً يمتد من جبال الهندوكوش في آسيا الوسطى وحتى البحر المتوسط. ولا يعني مد الخيوط أن القاهرة ستسلم لإيران بكل ما تريد، ولكن فتح الأبواب أمام القاهرة حيال كل القوى الإقليمية. بديهي هنا أيضاً أن الصراع المذهبي المشتعل في المنطقة، يؤثر سلباً في صورة إيران، وطبيعي أن تحاول بعض دول الخليج، عبر تحالفاتها الإيديولوجية في مصر وخارجها، ثني مصر عن تحسين العلاقات مع إيران، التي تعتبرها دول الخليج «العدو الرقم واحد». وفي سعيها لتحقيق ذلك، تلوح دول الخليج بما يسمى «المساعدات الاقتصادية» لمصر عبر وعود بتقديم «مساعدات مالية» للتأثير على القرار السياسي المصري كي يسير في الاتجاه الذي ترضى عنه ويخدم مصالحها. وكان مرسي قد زار السعودية كأول بلد بعد انتخابه، ثم زارها مرة ثانية مع مؤتمر القمة الإسلامية وأكد فيها على تخندق مصر في «المعسكر السني» والروابط التي تربط بين القاهرة والرياض على الأرضية المذهبية المعلومة، في محاولات متكررة للطمأنة. ولكن يبدو أن محاولات الطمأنة غير كافية، والدليل أن وسائل الإعلام المصرية «الليبرالية» (لكن الممولة سعودياً) تشن هجوماً حاداً على الزيارة، منذ الإعلان عنها وحتى كتابة السطور، بهدف إثناء مرسي عنها، كتفاً بكتف مع رموز التيار السلفي. ربما يعمد مرسي - في ظل هذه الضغوط المتوالية عليه - إلى اجتراح حل وسط يبقى عدة ساعات فقط في إيران لتسليم الرئاسة الدورية لمنظمة عدم الإنحياز ثم يغادرها سريعاً، من دون لقاءات سياسية موسعة مع مسؤولين إيرانيين.

تمثل زيارة مرسي - مهما كانت فترتها الزمنية - محاولة لإنهاء الابتزاز الخليجي لمصر وقرارها السياسي بمساعدات مالية يعلن عنها في وسائل الإعلام ولا تتحقق دائماً على أرض الواقع. لا تعني الزيارة قطيعة مصرية - خليجية بأي حال، بل محاولة لإعادة التوازن في العلاقات المصرية - الإقليمية. ونظراً إلى الروابط الإيديولوجية والاقتصادية التي تربط «الإخوان المسلمين» بدول الخليج، يتصور أن العلاقات المصرية - الخليجية ستظل أقوى من العلاقات المصرية - الإيرانية، حتى في حال تحسنت الأخيرة بالفترة القادمة. كما تؤمن الزيارة فرصاً جديدة أمام القاهرة للعودة إلى المبادرات الإقليمية من طريق «المبادرة المصرية لحل الأزمة السورية»، والتي تجمعها إلى كل من السعودية وتركيا وإيران. ولما كانت الأطراف الثلاثة - بشكل أو آخر - جزءاً من الأزمة السورية وطرفاً فيها، فيبدو أن القاهرة هي الطرف الأكثر تأهيلاً للقيام بها، خصوصاً بعد ظهور عجز النظام السوري عن قمع الانتفاضة الشعبية وعدم قدرة الأخيرة على الإطاحة بالنظام. وفق ذلك المقتضى، ولو لم تكن هناك فوائد أخرى للزيارة غير تحرير القرار السياسي المصري من الابتزاز المساعداتي، وتأمين النجاح لإطلاق «المبادرة المصرية حول الأزمة في سوريا»، لكفى ذلك الزيارة نجاحاً. وعلى ذلك يقتضي التحليل السالف الإجابة عن السؤال الأول بالتوكيد. بالمقابل تبدو الإجابة عن السؤال الثاني مختلفة، ومرد الاختلاف أن السياسة الإقليمية والخارجية لبلد ما ليست نبتاً منفصلاً عن بيئته الداخلية وعلاقات القوة فيها وميكانيزمات علاقاتها بالخارج. فلا يمكن تعقل سياسة إقليمية جديدة لمصر، بما يعني تحولاً ملموساً مقارنة بعهد حسني مبارك، من دون تغيير القواعد الحاكمة لعلاقات مصر الاقتصادية وارتهانها للمؤسسات المالية العالمية مثل «صندوق النقد الدولي». ومن المعلوم أن «الإخوان المسلمين» لا يتحدون التركيبة الراهنة للاقتصاد العالمي، ولا يطرحون بديلاً حتى للسياسات النيوليبرالية، وهو الشرط الأساس لتحالفهم الضمني مع الولايات المتحدة الأميركية. وإذ ندد «الإخوان المسلمون» بمحاولة كمال الجنزوري - آخر رئيس وزراء في المرحلة الانتقالية - قبل أشهر قليلة الحصول على قرض من «صندوق النقد الدولي» باعتبار ذلك «ربا» و«حرام بيّن»، إلا أن محمد مرسي وحكومته يزمعان الآن الحصول على أربعة مليارات ونصف مليار دولار قرض من الصندوق والالتزام بشروطه: تعويم سعر الصرف للجنية المصري ورفع الدعم عن المواد الأساسية، وهي سياسات تزيد من إفقار الغالبية الساحقة من المصريين وتكرس الفجوة بين الفقراء والأغنياء. ومن نافلة القول إن شروط القرض غير معلومة، فضلاً عن أنها لم تعرض على الشعب وقواه السياسية بأي شكل مع عدم وجود برلمان. وإذا عطفنا على الاستمرار في ذات السياسات الاقتصادية التابعة تلك الاعتداءات المتكررة على حرية الصحافة منذ تولي مرسي الرئاسة وصولاً إلى حبس رئيس تحرير صحيفة احتياطياً على ذمة التحقيق في قضية «إهانة الرئيس»، حتى مع عودة الرئيس - الذي يملك سلطة التشريع إلى جانب السلطة التنفيذية راهناً - ليلغي الحبس الاحتياطي، في محاولة لتلميع صورته، إلا أن مرسي لم يلغ مبدأ حبس الصحافيين في قضايا النشر، وحصر المنع في الحبس الاحتياطي. تأسيساً على ذلك ينتهج مرسي سياسة اقتصادية وإعلامية تعيد انتاج سياسات حسني مبارك في قالب جديد، يسع نفساً شعبياً بقدر ما وحمولة إيديولوجياً بقدر أكبر، ولكن تحت ذات المظلة الأميركية وعلى الأرضية الاقتصادية - الاجتماعية نفسها.

يقتضي الإنصاف القول إن محمد مرسي لا يتحمل وزر الوضع الإقليمي الراهن لمصر، ويحسب له محاولته توسيع هامش المناورة المصرية عبر زيارته المرتقبة إلى إيران - في حال حدوثها ومهما كان عدد ساعاتها -. ولكن ملاحظة السياق الذي تتم فيه الزيارة تستلزم الانتباه إلى تصاعد الشكوك في النيات الداخلية والإقليمية لجماعة «الإخوان المسلمين»- التي لم يفلح مرسي في الاحتفاظ بأي مسافة منها -، حيث تتكشف بمرور الوقت جوانب من اتفاقاتهم السرية مع واشنطن. وبعطف ذلك كله على وضوح انحيازات «الإخوان المسلمين» الاقتصادية ونياتهم الإعلامية، يبدو أن التصور الأقرب للتصديق الآن أن سياسات مصر الإقليمية ستتعدل بالفعل. تعديل على نحو محسوب، بحيث تعود مصر إلى لعب أدوار إقليمية أكبر من عهد مبارك. أدوار جديدة في قالب مختلف وبمفردات مغايرة، ولكن أيضاً في إطار السياسة الأميركية وعلى خلفية مصالحها في المنطقة. هنا سيتبارى «الإخوان المسلمون» مع تركيا ودول الخليج في إظهار المهارات والقدرات؛ وفي التنويع على لحن أساسي واحد قادم من وراء المحيط. بهذا المعنى والمضمون تستحق زيارة مرسي إلى إيران التفهم والتأييد لفوائدها المباشرة على توسيع هامش المناورة الإقليمية المصرية، أما المبالغة في استنطاق دلالات من الزيارة بحيث تنسحب على سياسة إقليمية مصرية مختلفة جذرياً عما سبق فتبدو تفاؤلاً علمتنا تجربة السنة الماضية أنه ... في غير محله.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 47 / 2178733

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2178733 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40