السبت 25 آب (أغسطس) 2012

من أجلك يا قدس

السبت 25 آب (أغسطس) 2012 par د. انيس مصطفى القاسم

حَلَّ يومُ القدس العالمي كعادته يوَمَ الجمعة، آخرَ يومِ جمعة في رمضان كل سنة، وبقيت القدس منسية تماماً على الصعيد الرسمي الفلسطيني والعربي والإسلامي إلا من عبارات إنشائية تقليدية لا تحمل أملاً للمدينة أو مقدساتها أو مؤسساتها أو شعبها، مهما صغر هذا الأمل. لقد تركوا القدس تموت موتاً بطيئاً، هي ومقدساتها وشعبها، تحت وطأة احتلال كاد أن يكمل تهويدها سكاناً وتاريخاً وحضارة وعقيدة، والمدينة تنادي ولا من مجيب. حتى لدى السلطة «الوطنية» الفلسطينية ورئيسها ورئيس دولة فلسطين أصبحت عبارةُ «وعاصمتها القدس الشريف» لازمةً تتكرر مع أنها فقدت معناها ومضمونها منذ زمن، نتيجةً للتفاهمات التي جرت واعتبرتها «إسرائيل» مؤشراً على الأقل لما سيأتي. وليس أدل على ذلك من اعتراف رئيس وزراء السلطة علناً بأنه لا توجد لديه ميزانية للقدس، وجاء هذا التصريح عندما استقال مسؤول القدس السيد حاتم عبد القادر من منصبه احتجاجاً على ما تعاني منه المدينة من إهمال واستسلام لما يجري من جانب السلطة الوطنية الفلسطينية واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.

لقد وصلت معاناة ما بقي من المدينة قي أيدٍ فلسطينية حَدَّاً يهدد مجرد بقائها، ناهيك عن رمزيتها وقيمتها الوطنية وما نقدمه من خدمات حياتية، من بينها أكبر مستشفى خيري في القدس، هو الآن مهدد بالإغلاق بسبب ما يعانيه من أزمة مالية. المستشفى هو مستشفى المقاصد الخيري، أكبر مستشفى فلسطيني يضم جميع التخصصات على أعلى مستوى ويقدم خدماته لكل محتاج الى رعاية طبية دون تمييز بين فقير وغني، فلسطيني أو «إسرائيلي»، مسلم أو مسيحي، علماً بأن مالكه هو جمعية المقاصد الخيرية الفلسطينية. وقد قامت «القدس العربي» مشكورة بنشر تقرير عن أوضاع المستشفى في عددها الصادر يوم 20 أغسطس الجاري، وهو التقرير الذي اعتمد عليه في هذا المقال والسبب المباشر لكتابته. إنني أعرف المستشفى وأعرف ما يقدمه من خدمات طبية متميزة. وأعرف موقعه الرائع على جبل الزيتون حيث يطل من هناك على القدس والمسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة إطلالة المحب الحارس اليقظ. ولكنني لم أكن أتصور أن مؤسسة كهذه يمكن أن يشملها هذا المستوى من الإهمال أو التخاذل من جانب السلطات الفلسطينية كلها، بحيث أصبحت توشك على الإغلاق فيضطر الأطباء والعاملون في المستشفى الى الإضراب عن العمل للفت الأنظار الى مدى خطورة الوضع. هذه السلطات الفلسطينية كلها أصبحت مستهلكة، وتَستَهْلِكُ في طريقها ما تبقى للفلسطينيين من وجود وحقوق في القدس وغير القدس.

تقرير «القدس العربي» أشار الى أن العجز المالي الذي يعاني منه المستشفى مرده الديون التي تراكمت في ذمة المستفيدين من المستشفى ولا يسددون المقابل، أو يكونون أصلاً عاجزين عن الدفع ولكن المستشفى يقدم لهم الخدمات دون تردد، ومعظمهم من أبناء القدس والضفة الغربية. فالديون التي تراكمت على هؤلاء فقط بلغت حوالي عشرين مليون دولار، ومن غير المتوقع تحصيلها أو تحصيل الجزء الأكبر منها، كما يستبعد امتناع المستشفى، وهو مستشفى خيري، عن تقديم الخدمات للمدينين هؤلاء بسبب تخلفهم لفقرهم عن سداد ديونهم، وهم الذين يجب أن ترعاهم السلطة الوطنية الفلسطينية، بتوفير الخدمات الطبية لهم في الظروف التي تعيشها القدس بوجه خاص والضفة الغربية بوجه عام.

وإذا كان من الواجب مراعاة الظروف الخاصة بهؤلاء المواطنين العاجزين عن سداد فواتيرهم، فإنه لا يغتفر للسلطة الفلسطينية ألا تسدد فواتيرها البالغة سبعة ملايين دولار، وهذه فواتير مقابل خدمات قدمها المستشفى لمن تحيلهم السلطة نفسها الى المستشفى للعلاج ويجب سدادها في الحال، وليس منحة منها للمستشفى، وتسديد هذه الفواتير يجب أن تكون له أولوية على الكثير من أوجه الصرف التي تتولاها السلطة. يجب على السلطة أن تتمسك بميزانية قادرة على الوفاء بالخدمات الصحية بما في ذلك سداد الديون التي تتراكم للمستشفيات وفي مقدمتها مستشفى المقاصد.

السلطة أذن مقصرة كسلطة وكمدين بالخدمات الصحية من جانب المستشفى، السلطة مدينة بسبعة ملايين دولار مقابل خدمات قدمها المستشفى، وعليها ان تبادر الى سداد هذا الدين، ولو استدانت، أو استقطعت المبلغ من مخصصات قوات الأمن، فلا «إسرائيل» ولا أمريكا تحتمل استقطاع أي مبلغ من هذه المخصصات. يكفي ما ارتكبته هي والقيادات الفلسطينية من تقصير في حق القدس والمقدسيين، ويكفي ما تفعله «إسرائيل» للتضييق عليهم وعلى المدينة.

والمستشفى دائن كذلك لصناديق المرضى «الإسرائيلية» بنحو مليوني دولار. هذه تسعة ملايين دولار يجب أن تسدد في الحال دون تأخير، وأدعو منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية و«الإسرائيلية» كذلك ونقابة المحامين الفلسطينيين الى الالتفات لهذا الموضوع، تبرعاً من الجميع، لإنقاذ مستشفى بهذه الأهمية، ولمساعدته في سداد ما تراكمت عليه من ديون بلغت خمسة ملايين دولار للمصارف وعشرة ملايين للموردين والشركات، وخمسة ملايين دولار ضريبة عقارية للبلدية «الإسرائيلية» و120 الف دولار لشركة الكهرباء. إنني أخاف على المستشفى ان تقفله البلدية «الإسرائيلية» أو تبيعه بالمزاد العلني لتحصيل مبلغ الضريبة بحجة عدم دفع الضريبة المستحقة. فهل تتحمل القيادات الفلسطينية نتيجةَ الاستيلاء على هذه المؤسسة وقفل أبوابها نتيجة إهمالها؟ ألا يكفي ما أقفلته السلطة نفسها من مؤسسات وجمعيات خيرية استجابة للطلبات الأمريكية و«الإسرائيلية» في أعقاب فوز «حماس» في انتخابات المجلس التشريعي، بحجة تجفيف الموارد المالية لـ«حماس»، مع أن الذي عانى من ذلك هم المحتاجون للمعونات أو الخدمات التي كانت تقدمها لهم هذه المؤسسات والجمعيات، ولم توفر السلطة أو أمريكا أو «إسرائيل» البديل لها. وهل سيسمح الشعب الفلسطيني بإغلاق هذا المعقل الأخير للخدمات الطبية المتميزة الخيرية للمحتاجين إليها من أبنائه؟.

المستشفى يعالج نحو 240 الف حالة خارجية، ويستقبل نحو 12 ألف حالة إدخال في المستشفى، ويُجري نحو 500 عملية شهرياً. فإذا أقفل أبوابه فإن أهل القدس بشكل خاص وبقية الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة سيفقدون ملاذاً صحياً عالمياً في مستواه وخيرياً في خدماته. وفضلاً عن ذلك فإن المستشفى ليس مستشفى للعلاج فقط وإنما يضم كلية تمريض أيضاً، فضلاً عن كونه مستشفى تعليمي تخصصي، وتتبع له سبعة مستوصفات في قرى وبلدات القدس، ويعتمد في تمويله على التبرعات الخيرية وعلى سداد نفقات تحويلات المرضى إليه من السلطة الفلسطينية، والمستشفيات الخاصة في الضفة الغربية، عندما تسدد السلطة وهذه المستشفيات الفواتير.

ويقول التقرير الذي نشرته «القدس العربي» إن العاملين في المستشفى وعددهم 750 لم يتقاضوا مرتباتهم عن الشهرين الماضيين، والمعدات في تناقص، ولذا فإن العاملين أعلنوا إضراباً مفتوحاً عن العمل، دون المساس بالخدمات المستعجلة، وذلك للفت النظر الى الخطورة التي وصل إليها الحال.

المستشفى تأسس عام 1968 وهو تابع لجمعية المقاصد الخيرية في القدس. وبطبيعة الحال فإن الأوضاع الاقتصادية في القدس خاصة وفي الضفة الغربية عامة لا تسمح للمواطنين، علاوة على الضرائب المرهقة التي تفرضها «إسرائيل» عليهم، أن يتكفلوا بالتبرع بانتظام بما يكفي لسد احتياجات المستشفى، وللحفاظ عليه في المستوى الطبي الذي يستفيد منه المجتمع كله دون استغلال أو حتى مقابل، في حالات عدم القدرة على الدفع.

إنقاذ المستشفى مسؤولية تقع على الفلسطينيين جميعاً في الداخل والشتات، وهي مسؤولية العرب والمسلمين أينما كانوا لأن الحفاظ على مؤسسة من هذا النوع من مؤسسات القدس هو خدمة إنسانية ووطنية من الدرجة الأولى، ونتقدم بالاقتراحات التالية في هذا الشأن:

أولاً: على السلطة الفلسطينية أن تبادر في الحال لسداد الدين الذي في ذمتها، ولو استدانت، ويجب عليها أن تسدد فواتيرها بانتظام ولو من أبواب أخرى من الميزانية.

ثانياً: ندعو نقابة المحامين الفلسطينيين للمبادرة بإجراءات لتحصيل الديون المستحقة للمستشفى من القادرين على الوفاء ولكنهم يماطلون، وفي مقدمتها الدين المستحق على صناديق الصحة «الإسرائيلية».

ثالثاً: ندعو الحركات الإسلامية على اختلاف مشاربها السياسية الى التبرع إذا كانت تؤمن بأن رعاية صحة الإنسان هي من بين الأعمال الصالحة ومقاصد الشريعة التي يكافئ عليها الإنسان عند لقاء ربه.

رابعاً: ندعو اتحادي الأطباء والصيادلة العرب والأطباء الفلسطينيين والعرب في الشتات الى فرض اشتراك سنوي غير مرهق ضماناً لاستمراره لصالح المستشفى يحصل ويحول بالطريقة التي يتفق عليها.

خامساً: إنني أدعو كل فلسطيني، أينما كان، أن يُلزِمَ نفسه بدفع أي تبرع يناسبه شهرياً أو سنوياً، ويستطيع الاستمرار في التبرع به دون إرهاق، بتعليمات يصدرها لمصرفه بحيث لا تتعرض للنسيان، وإنما تصبح دخلاً يستطيع المستشفى الركون إليه. مقدار المبلغ مهم بطبيعة الحال، ولكننا لسنا من أنصار الدفعة الكبيرة الواحدة التي لا تتكرر، وإنما ندع الى مساهمات لا تنقطع من دائرة واسعة من المتبرعين، تدفع بانتظام بحيث يشعر كل فلسطيني بأنه مسؤول مسؤولية مباشرة عن بقاء هذا المستشفى وتطويره، والمساهمة في ذلك، كمؤسسة فلسطينية مقدسية. ويتم هذا بإجراء تحويلات مباشرة منتظمة الى حساب المستشفى كلما حان الموعد بحيث يصبح هذا التزاماً مستمراً ينفذ تلقائياً ويستطيع المستشفى الاعتماد عليه في ميزانيته. إن المبالغ الصغيرة من أعداد كبيرة فيها الخير كل الخير. ولا أنسى تجربة مررت بها وهي أن جمعية خيرية بريطانية قررت تزويد مياه الشرب لمجتمعات افريقية محرومة منها. فأجرت اتصالاتها لجمع التبرعات واشترطت أن يكون التبرع جنيهين فقط سنوياً. انهالت عليها التبرعات، واستطاعت من هذه المبالغ البسيطة في مفردها والكثيرة في مجموعها أن تحفر آباراً لتوفير مياه الشرب في مجتمعات كبيرة وما زالت تباشر نشاطها. إنني أؤمن بجدوى هذه المساهمات الفردية التي تبدو متواضعة ولكن فيها الخير الكثير نتيجة للمشاركة الواسعة. وتمشياً مع هذه النظرية فإنني أقترح أن يكون الالتزام في حدود عشرة دولارات شهرياً. طبعاً لا اعتراض على من يرغب في التبرع بمبلغ أكبر ويقدر عليه، ولكن بشرط مراعاة الاستمرارية.

سادساً: إذا أراد أهل الخير في أمتنا أن يتبرعوا لإنقاذ المستشفى من وضعه الحالي فلا أظن أن المستشفى سيعترض.

سابعاً: إنني لم أتوجه الى الحكومات العربية، فهذه لا يعتمد عليها ولا على وعودها والتزاماتها، فما أسرع تظاهرها بالالتزام وأسهل تهربها منه.

وختاماً فإنني لم أتصل بالمستشفى لاستئذانه في كتابة هذا المقال، ولم أطلعه عليه قبل نشره، ولست وكيلاً عنه لجمع تبرعات أو قبولها وعلى من يرغب في الاستجابة أن يتصل بالمستشفى مباشرة، حيث أن له موقعاً على الشبكة العنكبوتية ويمكن لمن يشاء زيارته والحصول على ما يريد من بيانات: www.almakassed.org



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 55 / 2165238

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165238 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010