الاثنين 6 آب (أغسطس) 2012

نصائح مسمومة

الاثنين 6 آب (أغسطس) 2012 par د. عبد الاله بلقزيز

ثمة، في الإقليم، من «ينصح» حركة «حماس» و«حكومتها» في القطاع، بالاكتفاء بغزة واستقلالها عن الضفة الغربية، لأن المصالحة الوطنية غير ممكنة، وربما غير مرغوبة في المرحلة الراهنة، واستثمار الحالة الإسلامية الجديدة الناشئة في المنطقة، والمقبولة أمريكياً وغربياً، لتعزيز نفوذها وشرعيتها الدولية المحمولة إليها على أيدي رعاة جدد. ثم يقال لها إنها، اليوم، في غنى عن تقديم تنازلات للآخرين («فتح» والفصائل الأخرى) في مصالحة أو تسوية وطنية سيدخل معها فيها شركاء آخرون في إدارة قطاع غزة، في حين قد لا يكون لها كبير نصيب في الضفة الغربية ومؤسساتها.

بِئْس «النصيحة» هذه: التي تَعْرِض الانتحار السياسي على «حماس»، مثلما عرضت عليها «نصائح» أخرى سابقة نظير ذلك الانتحار، حين أوقفت «حماس» - تحت الطلب - عمليات المقاومة، منذ سنوات عديدة، وأقفلت حدود غزة أمام مقاتلي «سرايا القدس» و«كتائب الشهيد أبو علي مصطفى»، على أنّ «نصيحة» اليوم أسوأ من «نصيحة» أمس، فهي لا تطلب من «حماس» خلع أظفارها وأسنانها فحسب، ولا تقديم حسن النية تجاه الأمن الصهيوني فحسب، بل تطلب منها تجزئة الأرض والشعب والقضية، أي القيام بما لم يجرؤ على القيام به «حزب أوسلو» المنشق عن حركة «فتح»، في ذروة أوهامه التسووية.

ومع أن «حماس» تملك كمية خرافية من البراغماتية السياسية، انتهلتها من مدرستها الإخوانية التي تنتمي إليها، وبدرجات فاقت أيّ توقُّع، إلا أننا نخشى عليها ممن يريد لبراغماتيتها أن تتحول إلى انتهازية سياسية، لا مكان فيها لثوابت أو مبادئ عاصمة من التفريط والزلل. أما أنها براغماتية، فالأمثلة على ذلك عديدة: من التنازل عن هدف التحرير الشامل لفلسطين التاريخية، والقبول بدولة على حدود العام 1967، إلى بَلْع كل النقد والرفض لـ «اتفاق أوسلو»، والقبول به والدخول في مؤسساته (المجلس التشريعي، والسلطة والحكومة)، إلى إبداء شَغَفٍ غير معقول بالسلطة واحتكارها في غزة بالعنف المسلّح، إلى التخلي الفعلي عن الكفاح المسلّح، والقبول بالهدنة ومعاقبة من يخرقها من فصائل، إلى تغيير تحالفاتها الإقليمية والعربية إلى النقيض .. إلخ! أمّا أن تتحول هذه البراغماتية إلى انتهازية على مثال ما حصل للفرع العراقي من «الإخوان المسلمين» («الحزب الإسلامي») منذ تعاون مع الاحتلال الأمريكي ودخل في مؤسساته فذلك ما يريدها البعض أن تنتهي إليه بعد أن غيّرت ولاءاتها.

ثمة من يقول إن مصر مبارك انحازت إلى «فتح» ضد «حماس»، في الخلاف الداخلي بينهما، وأنه أتى مَن ينحاز، اليوم، إلى «حماس» ويعيد إليها الاعتبار. النصف الأول من هذه المقولة زائف غير صحيح، لم يَنْحَزْ نظام مبارك إلا إلى السياسة الأمريكية تجاه قضية فلسطين، وهو كان يمتثل لإملاءاتها امتثالاً كاملاً، ويحاول فرضها على «فتح» وقادتها والسلطة. وكان لا يتورّع عن الجهر باحتجاجه على لاءات ياسر عرفات، في «كامب ديفيد» الثانية (يوليو 2000)، وعلى تسليحه «كتائب شهداء الأقصى»، وقلبه الطاولة على خيار المفاوضات، منذ صيف العام 2000 حتى استشهاده في خريف العام 2004، ولم يكلف مبارك نفسه «عناء» إدانة الاجتياح «الإسرائيلي» لمناطق السلطة في ربيع العام 2002، وحصار ياسر عرفات في مقره في المقاطعة برام الله. وإذا كان مبارك اصطدم بـ «حماس»، فلأنها كانت تسيطر على غزة، ولو سيطرت «فتح» على غزة لَمَا أصابها منه أقل ممّا أصاب «حماس» من أذى، فهو، في الحالين، كان ينفذ أوامر أمريكية.

أما الانحياز إلى «حماس»، اليوم، فأمرٌ واضحٌ لا مِرْيَةَ فيه، وهو انحياز تؤسّسه قواسم عقائدية قبل أن يكون سياسياً. ونحن إذ نستطيع أن نتفهَّم الاعتبارات العقائدية الأيديولوجية، لا نرى في جانبه السياسي سوى الإضرار بالقضية الوطنية الفلسطينية، وبهدف الوحدة الوطنية والمصالحة الوطنية التي يتطلع إليها الجميع، والتي استبشرنا بها بعد سقوط نظام مبارك، ودعوة مصر في عهد حكومتها الانتقالية قادة الحركتين لحوار وطني يفضي إلى المصالحة وتجديد الشراكة في السلطة. الانحياز إلى «حماس»، اليوم، يشجعها على رفع سقف مطالبها التعجيزية، وبالتالي على إسقاط إمكانية المصالحة وإنهاء حال الانقسام. وإلى ذلك، فإن «حماس» لا تملك صفة تمثيلية وطنية جامعة، كالصفة التي تملكها منظمة التحرير التي لا تنتمي إليها «حماس». وسلطتها جزئية في قطاع غزة، بصرف النظر عن أن حكومتها فيها حكومة أمر واقع، ولا تملك أن تتحدث عن الضفة والقدس وأراضي الـ 48 والشتات الفلسطيني، وهذا كلّه يجعل الانحياز مؤْذياً للقضية.

لن تستفيد «حماس» من أية «نصيحة» تدعوها إلى التريث في الدخول في حوار وطني، مع «فتح» والفصائل الأخرى، لئلا يضطرها الحوار إلى تقديم تنازلات، ذلك أن الواجب الوطني يفرض عليها مثل تلك التنازلات في مقابل تنازلات من «فتح» من أجل إنهاء حال الانقسام الوطني الذي يستثمر فيه الكيان الصهيوني لاستنزاف الوضع الداخلي الفلسطيني، والتفرّغ لمزيد من الاستيطان والتهويد، والزعم بغياب مخاطب فلسطيني في المفاوضات. أما ترويض «حماس» على خيار التسوية، وهو جارٍ منذ إقناعها بالدخول في مؤسسات «أوسلو» في العام 2004، فسيُسَدِّد ضربة لكل رصيدها التاريخي الذي بنتْهُ في عهد قادتها الكبار (الشيخ أحمد ياسين، عبدالعزيز الرنتيسي)، وبواسطة «كتائب الشهيد عز الدين القسّام»، ويحوّلها إلى رديف آخر لـ«فتح»: بعد استيلاء فريق «أوسلو» على قرارها، ويُدخل قضية فلسطين من جديد في متاهة أوهام مديدة.


titre documents joints

نصائح مسمومة

6 آب (أغسطس) 2012
info document : PDF
729.1 كيلوبايت

د. عبد الإله بلقزيز

كاتب وأكاديمي مغربي



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2165480

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165480 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010