السبت 4 آب (أغسطس) 2012

غسان كنفاني والذاكرة العربية

السبت 4 آب (أغسطس) 2012 par د. عبد العزيز المقالح

فقدان الذاكرة من أخطر الأمراض التي تُبتلى بها الشعوب والأمم، لما يترتب عليها من نسيان وقائع وأحداث ينبغي ألا تنسى، ونسيان شخصيات وتواريخ ينبغي أن تنسى. ولعل أمتنا العربية باتت في الآونة الأخيرة خاصة، في طليعة الأمم التي أفقدتها التطورات المتلاحقة ما كانت تتمتع به من قدرة فائقة على التذكر واستحضار الوقائع السعيد منها والشقيّ، الجميل والقبيح، وما النسيان الذي صاحب اغتيال الكاتب والمبدع غسان كنفاني سوى واحد من الأدلة على فقدان الذاكرة العربية، ولا أقصد هنا أن أحداً لم يكتب عن غسان أو يقرأ أعماله، وإنما أقصد نسيان الواقعة الجريمة التي تمت في قلب عاصمة عربية هي بيروت، حيث اتجهت فرقة اغتيال صهيونية مسلحة، ودخلت إلى بيروت سواء عن طريق البر أو البحر أو الفضاء، وزرعت عبوة في سيارة غسان كنفاني واغتالته، ثم بعد أقل من عام اغتالت كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار في تحدٍ سافر وخطر، وأسدلت الذاكرة العربية ستارة النسيان على الواقعة إلا من بيانات الشجب والاستنكار. لقد مر العرب بأكثر من حدث وضعهم أمام مسؤولياتهم، وكان في مقدورهم الرد العاجل ووضع حد لتلك البدايات التي امتدت معها الأذرع الصهيونية الطويلة خارج الكيان، تحت ستار التواطؤ والخيانات من داخل الأرض العربية التي ساعدت هذه الأذرع الآثمة على الامتداد، ومكنتها من أن تطال رؤوساً فلسطينية بعد ذلك إلى أبعد من لبنان. ووصل الحال إلى ما هو أكبر من تسلل عصابة قاتلة حين دخل الكيان بقواته إلى بيروت على مرأى ومسمع من كل الأنظمة العربية وعلى مرأى ومسمع مما يسمى بالرأي العام الدولي، وهو ما زاد من اتساع رقعة العدوان على الأرض العربية، ومن شعور قادة الكيان الصهيوني باقتدارهم على الوصول إلى أي مكان يريدونه بسهولة ويسر.

إن دم الكاتب والمبدع غسان كنفاني كتب السطور الأولى من خوف الكيان الصهيوني من الكلمة أكثر من خوفه من البندقية، كما كتب موت الذاكرة العربية ونسيانها المستمر للتحديات المباشرة التي يمارسها هذا العدو الاستيطاني الذي حاول أكثر من مرة أن يثبت للعرب، أن ذراعه طويلة وأن في مقدورها أن تمتد إلى أبعد مما يستطيعون تصوره. ولو وجد هذا الكيان الرد العاجل على جريمته الأولى في قلب بيروت، وتم كسر ذراعه الطويلة في حينه لما تكررت جرائمه واختراقاته الفردية والجماعية لأكثر من عاصمة عربية، لكنه في الحقيقة وجد الباب مفتوحاً للقيام بأكثر من جريمة مكشوفة مستغلاً كل الثغرات التي تضعها التناقضات العربية القائمة أساساً على موت الذاكرة وفقدان الإحساس بالخطر.

عرفت غسان كنفاني في العام 1971م، في القاهرة أثناء اجتماعات المكتب التنفيذي لاتحاد الأدباء والكتّاب العرب. كان مع زميل له يمثلان اتحاد الأدباء والكتّاب الفلسطينيين، وكنت مع زميلي عمر الجاوي الأمين العام لاتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين نمثل اليمن الواحد قبل أن تتحقق الوحدة بثلاثة عقود. كان غسان رقيقاً ومحاوراً متواضعاً دائم الابتسام متفائلاً نصيراً لحرية التعبير والاختيار. وقد دارت بيننا أحاديث شتى كان الأدب هو آخرها، إذ كان التركيز فيها على الحريات السياسية والفكرية بوصفها الأساس الذي تتمحور عليه اهتمامات تلك المرحلة، وكانت وجهة نظره تتلخص في أنه إذا لم تتوافر للمبدع حريته، فإن اختياراته الإبداعية ستظل محدودة وعاجزة عن التعامل مع ذاته وما يدور حوله من ممارسات لا إنسانية فاجعة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2165545

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165545 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010