السبت 4 آب (أغسطس) 2012

سلاح المقاومة لخيار آخر بين الاستبداد والاستعمار

السبت 4 آب (أغسطس) 2012 par قاسم عز الدين

التحريض على المقاومة وسلاحها بأنها جماعة شيعية إيرانية و«دولة داخل الدولة»، يستهدف إزالة سلاح الردع وهو أساس بناء دولة على أنقاض المزرعة، إذا قُيّض للدولة أن ترى النور يوماً ما. على أرض الواقع لا تجد سلطة تعيث في الأرض نهباً وفساداً من أدوات التحريض الممكنة ضد سلاح الردع الوطني، غير الاحتراب الغريزي والطائفي. فحزب المقاومة ديني شيعي يؤمن بولاية الفقيه مرتبط استراتيجياً بإيران، ما يسهّل اللعب على توتير الغرائز البدائية وإعادة إحياء موروث حروب داحس والغبراء بين الشيعة والسنّة والعرب والفرس... إلخ. لكن كيف يسهل لسلفية خليجية موغلة بالتعصب الأعمى، أو استعمار يفيض بجموح النهب والاستغلال، توتير الغرائز في استقطاب جمهور واسع ضد المقاومة وإيران. ولماذا انقلب هذا الجمهور العريض من عدائية صلبة لأميركا و«إسرائيل» ونفط الخليج، إلى «تلاقي مصالح» وإلى «عروبة منفتحة» ذيلية للأطلسي، وإلى اعتبار إيران العدو القومي والديني لا «إسرائيل» وأميركا؟

في بحث هذه الإشكالية لا معتقدات «حزب الله» الدينية الشيعية سبب أساس في «شيطنة» المقاومة، ولا التحريض السلفي الغريزي سبب حاسم في العداء الأعمى ضد المقاومة. إنما الأسباب معظمها على الأرض والمصالح والخيارات السياسية في سبُل المعيش وأحوال العمران، لا في الرأس والمعتقدات والأفكار الذهنية. فعدا الموجة التكفيرية التي أنتجتها السعودية والمخابرات الأميركية قبل أن تنقلب على بعض أتباعها في أفغانستان، الأساس في هذا الانقلاب هو مشروع أوهام «الحريات الديموقراطية» الفردية والاقتصادية - الاجتماعية - الحداثوية.... في تبعيتها لاستراتيجيات ومصالح الدول الغربية. أوهام هذا المشروع هي التي تدغدغ أحلام الجمهور العريض في «الارتقاء» ضد ما تسميه الدول الغربية ومؤسساتها الدولية «العنف والتخلف والشمولية والتعصب والظلامية...». وفي المقابل لا تواجه المقاومة أوهام هذا المشروع بمشروع سياسي وخيارات بديلة أو حتى برؤية على مستوى كلّية المشروع المعادي، بل بقيت المقاومة في موقع الدفاع ورد الاتهام ورد الفعل. وغني عن البيان أن رد الفعل تنقصه دوماً خطوة أو خطوتان في قراءة الأحداث وتوظيفها.

مقاومة «حزب الله» حركة وطنية ورثت ضعف طموحات الحركات الاستقلالية العربية والوطنية، مثلما ورثت تجاربها بحسناتها وسيئاتها. ولدت من ارتدادات موجة الثورة الإيرانية في العالم العربي - الإسلامي، لكنها ولدت على أنقاض هزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية - اللبنانية واحتلال ثاني عاصمة عربية بعد القدس. هذه الهزيمة لم تكن عسكرية في معركة، إنما كانت هزيمة سياسية قاتلة أدّت إلى إدخال المقاومة الفلسطينية في نفق «السلام»، وإلى تلاشي «الحركة الوطنية اللبنانية»، برغم ولادة «جمّول» بعد احتلال بيروت. فالتوافق الدولي - الإقليمي على «الحل السلمي» قصم ظهر الحركة الوطنية الفلسطينية - اللبنانية، إنما لم يكن ظهرها من الصلابة بما يعينها على حملٍ أقل من ذلك بكثير على الصعيدين العسكري والسياسي: على الصعيد العسكري لم تتجاوز «الحركة الوطنية» بعض العمليات الانتحارية دون استعداد جدي لأي مواجهة حتى في التحصينات والملاجئ، ناهيك عن التخطيط وإرادة القتال. ولم تتجاوز القنص والتراشق المدفعي على خطوط التماس وهما قتل على الهوية بدعوى «محاربة الانعزالية والطائفية». هذه المعضلة العسكرية تجاوزتها مقاومة «حزب الله» باكراً، برغم التوافق الدولي ـ الإقليمي نفسه، قبل أن يرى النظام السوري أن المقاومة أصبحت قوّة فعلية تمكنه الإفادة من قوّتها في لعبة التجاذب الإقليمي - الدولي.

وعلى الصعيد السياسي أدارت المقاومة ظهرها «لبرنامج الإصلاح الوطني»، لا بسبب معتقداتها الدينية الشيعية بل نتيجة مأزق هذا البرنامج ودعوات الإصلاح العرقوبية التي رافقته ولا تزال. البرنامج تعبير عن طموح مجموعات «حداثوية» في إصلاحات دستورية للمشاركة في السلطة، من دون استنادها إلى قوى اجتماعية يلبي «البرنامج» طموحاتها ومصالحها. فالقوى التي ينبغي أن تدافع «من حيث التجربة التاريخية» عن هذه الاصلاحات كالصناعيين وكبار المهنيين والمثقفين وكوادر «الدولة» من الطبقة الوسطى فما فوق، هي بغالبيتها في المقلب الآخر تقاتل أي إصلاح يحدّ من زبائنيتها لسلطة المزرعة. والقوى الاجتماعية الأخرى الأوسع كالمزارعين والعاملين وصغار الكسبَة والحرفيين وشباب الفئات الشعبية، لم يجرِ اختبارها في برنامج سياسي - اجتماعي جدّي يلبي، «من حيث التجربة التاريخية»، طموحاتها ومصالحها. فما يلبي طموحاتها هو مشروع بناء الدولة لا مشروع الإصلاحات الدستورية ومشاركة الإصلاحيين في السلطة.

خوفاً من اصطدامها بمأزق السلطة، اختارت المقاومة إستراتيجية تحرير الأرض ومجابهة العدو «الإسرائيلي» من دون المساس بمعادلات السلطة وبمصالح القوى الاجتماعية والسياسية المستفيدة من زبائنيتها وتوزيع فتاتها. رأت المقاومة ولا تزال أن مجابهة العدو «الإسرائيلي» مفتاح التحولات الإستراتيجية في لبنان والمنطقة، وأن المساس بمعادلات السلطة يفجّر حرباً أهلية تؤدي على الدوام إلى إعادة صياغة مقولة «لا غالب ولا مغلوب».

وفي حقيقة الأمر لم تكن المقاومة تملك من القوى لتحمّل مسؤولية تحرير الأرض وبناء الدولة في انجاز المهمتين الوطنية والاجتماعية على السواء. لقد ولدت في أعقاب فرز مناطقي طائفي وهزيمة مقولات الإصلاح الدستوري والسياسي، وفي ظروف إقليمية ودولية ناءت كل الحركات الوطنية والتحررية في العالم تحت أثقال مشابهة. والحقيقة الأخرى أن المقاومة لم تجد ما تبني عليه في انجاز المهمتين الوطنية والاجتماعية وبناء الدولة في المنطقة العربية. فالحركات الوطنية والاستقلالية العربية لم تنتج تجربة ولا تراثاً في بناء الدولة، إنما خلطت، ولا تزال، بين السلطة والدولة وأسهبت على اختلاف مشاربها القومية واليسارية والإسلامية في إنتاج تراث فكري - سياسي يعيق الوصول إلى الخطوة الأولى في بناء الدولة، اعتماداً على القوى الاجتماعية الواسعة التي تلبي الدولة مصالحها وطموحاتها. أشاعت، على اختلاف مشاربها، ما لذّ لها وطاب من «شروي غروي» طقوس وآداب التكيّف مع النموذج الرأسمالي الغربي في ملحقاته وتوابعه، برغم معارضته السياسية حيناً والثقافية حيناً آخراً والقومية العرقية حيناً ثالثاً ورابعاً. أشاعت، ولا تزال، ما يخطر على البال وما لا يخطر من «نشر الوعي» في طقوس التنمية والتكامل وزيادة الإنتاجية والدخل القومي وفي آداب «الحداثة» وثقافة «الحيز العام».... عدا أولى الأسس المؤسسة لبناء الدولة وهي الاعتماد على القوى الاجتماعية التي تلبي الدولة مصالحها وطموحاتها. وعدا دور الدولة في تنظيم السياسية الاقتصادية - الاجتماعية لصالح قطاعات حياة غالبية الناس على حساب الأقلية في الداخل، ودورها في تنظيم السياسية الخارجية والدفاعية، ضد التبعية إلى استراتيجيات ومصالح دول «المجتمع الدولي»، لحماية تبادل المصالح الوطنية (التي تفيد قطاعات الفئات العليا أساساً) وتوسعها في الخارج.

في هذا المسار نحو توفير الظروف التي تؤدي «للعبور إلى الدولة»، أخذت مقاومة «حزب الله» على عاتقها أولوية تحرير الأرض في المجابهة العسكرية لاستراتيجيات ومصالح دول «المجتمع الدولي». والأصح أن دول «المجتمع الدولي» هي التي فرضت على المقاومة مجابهتها ليس بسبب حمايتها أمن «إسرائيل» فحسب، بل أيضاً نتيجة استراتيجياتها ومصالحها المعادية في المنطقة لأي من الحقوق العربية. ففي ظروف انهيار داخلي وفراغ عربي تحتله «إسرائيل» ودول «المجتمع الدولي»، وفي ظروف دولية طاغية لصالح استراتيجيات البيت الأبيض وحلفائه، نجحت حفنة من المقاومين والقيادة المصممة على المجابهة بوقف المحدلة وكسر قرون الثور الهائج بالعنف المسلّح رداً على العنف المسلّح. فهل كانت هذه المجابهة جزءاً من المجابهة الإيرانية مع الولايات المتحدة وحلفائها، وهل كانت «لصالح لبنان» على ما يتساءل أطراف سلطة المزرعة المناوئة للمقاومة ومزارع عروبة النفط المنفتحّة؟

كانت هذه المجابهة لمصلحة كل القوى التي تتعارض مصالحها وطموحاتها مع استراتيجيات الولايات المتحدة وحلفائها وملحقاتها. وقد أفادت منها إيران بطبيعة الحال، لكن أفادت منها أيضاً المقاومة في فلسطين، وأفادت بعض الدول الصاعدة في اختلال موازين القوى الإستراتيجية لصالحها، وأفادت منها كذلك حركات الاستقلال والتحرر في أميركا اللاتينية، وما كان لحديقة أميركا الخلفية أن تتنفس الصعداء من دون نقل الترسانة الأميركية العسكرية والأمنية إلى «الشرق الأوسط»، ومن دون كسر شوكتها في لبنان والعراق وفلسطين وأفغانستان. وعلى هذا الصعيد الاستراتيجي ساهمت مقاومة «حزب الله» بإماطة اللثام عن «الثورات العربية» ضد القهر والاستبداد والإلحاق، فالإحباط لا يولّد الثورات، ولا تثور الشعوب ما لم تنكسر شكيمة الاستبداد الأكبر الذي يحمي الاستبداد الأصغر وما لم ترَ مثلاً ناجحاً في عين تقاوم المخرز.

المقاومة ساهمت في كل هذه التحولات الإستراتيجية من حيث تريد ومن حيث لا تريد. لكنها لم تستثمر أياً منها في إستراتيجيتها وفي سياساتها، بل على العكس من ذلك تركت القوى المعادية حرة اليدين لاستثمار التحولات في شن حرب على المقاومة هي جزء من حرب أوسع وأشمل لتفتيت المنطقة واهترائها. في هذه الحرب ليست الترسانة العسكرية الأميركية - «الإسرائيلية» في المقدمة منذ هزيمة «إسرائيل» العام 2006، بل هي في الخلف لحماية حروب التفتيت والاهتراء في إطار إستراتيجية إعادة الاستعمار. والحال أن السلاح الصلب لمواجهة إستراتيجية عودة الاستعمار هو في نهاية المطاف الضمانة الخلفية الأخيرة والحاسمة. لكن أسلحة أخرى لا بد منها لمواجهة مشروع التفتيت والاهتراء بمشروع بديل اعتماداً على مصالح وطموحات القوى الاجتماعية التي يلبي المشروع البديل مصالحها وطموحاتها. فخطاب التنديد بـ«الفتنة السنية - الشيعية» هو خطاب ديبلوماسي لا يطفئ لهيب الاحتراب العصبوي بين كل الجماعات الطائفية والإثنية والعشائرية والقبلية. وخطاب تذكية الشعور بالقضية الوطنية والقومية والإسلامية في فلسطين، لم يعد يكفي لإقناع من يأملون توحيد جهود كل القوى نحو فلسطين، من دون إذلال كراماتهم الإنسانية ومن دون اضطهادهم السياسي والاجتماعي. فمشروع التفتيت والاهتراء يلعب على هذا الأمل بفصل المسألة الوطنية - القومية عن الحقوق الاجتماعية والحريات المدنية والديمقراطية، بدعوى التخلّص من القمع والاستبداد الأصغر. ينشر الأوهام بكل السبُل والإمكانات الهائلة بشأن حق الأفراد أن يتمتعوا بحرياتهم «الديموقراطية» في مواجهة استبداد السلطة بمعزل عن تحررهم الوطني والاجتماعي من نهب واضطهاد الاستبداد الأكبر. هذه الحريات تفضي إلى تحرر كل جماعة من هيمنة السلطة، لكنها تفضي في الوقت نفسه إلى احتراب الجماعات على النفوذ والمكانة للاستيلاء على الثروة الطبيعية الخام وتبديدها في خدمة مصالح دول «المجتمع الدولي» ومصالح أتباعها المؤهلين «للديمقراطية».

المقاومة لا يشغلها شاغل عن الاستعداد لرد عنف الحرب الصلبة بالعنف المسلّح. هذا الأمر مطمئِن لضمان فشل عودة الاستعمار. لكن هذا الأمر لا يعفي طاقات واسعة في «حزب الله» وحوله امتداداً إلى المنطقة من المنشغلين بالدعاء للمقاومة، من أن يجعلوا مع الدعاء قطراناً. فالتنديد بمشروع التفتيت والاهتراء وفضح المؤامرة هو خطاب رد فعل حرَفي بدائي على فعل صناعي بتقنيات عالية. فالتقنيات الصناعية المعادية تفعل فعلها ككرة الثلج في زرع أوهام التخلص من الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي في حضن الاستعمار، إذا استعادت الجماعات حقوقها المفترضَة من جماعات أخرى وقاتلتها وكسرت عصبيتها. ولا بدّ من تقنيات فعل أرقى منها تعمل مع قواعد الجماعات التي تلبي المصلحة العليا المشتركَة (الدولة) مصالحها وطموحاتها، لا بالحوار مع زعمائها ومشايخها فحسب، لطمأنتها وإقناعها بأن حقوق الفئات الدنيا من أبناء الجماعات هي حقوق مشتركَة غير قابلة للقسمة، أو لا تكون حقوق لأي منها. هذا ما يفضي إلى بناء دولة حقوق سياسية واجتماعية تضمن الحريات المدنية والديموقراطية، ويفضي أيضاً إلى فلسطين وإلى قطع دابر الاستبدادين الأكبر والأصغر. فالسلاح هو الضمانة الأخيرة في الحروب الصلبة، لكن من أجل خيار آخر بين الاستبداد والاستعمار.


titre documents joints

سلاح المقاومة لخيار آخر بين الاستبداد والاستعمار

4 آب (أغسطس) 2012
info document : PDF
195.6 كيلوبايت

قاسم عز الدين

كاتب واكاديمي لبناني



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 29 / 2178289

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2178289 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40